جائزة النيل لأحمد نوار: نصف قرن من الإبداع
دعونا بعد هذه المقدمة أن نعود إلى تطور أداءاته الفنية.
تعددية المدارس والتقنيات
خصّصتُ لنوار العديد من الدراسات الجمالية المعمقة أذكر منها اثنتين، الأولى بالعربية بعنوان: "التحول من رقعة الشطرنج إلى الميثولوجية العضوية" عام 1997م، والثانية قُدمت في معرضه بالفرنسية في معهد العالم العربي عام 1998م (مشاركة مع المرحوم أحمد فؤاد سليم)، بعنوان "طائر الحمام أسير زنزانة إقليدس" (ثنائيات فكرية وجبرية).
أكّدتُ في الأول على انطلاقته الأصيلة من المحفورات الطباعية الإسبانية، وأحادية اللون وتنوع تبصيماته وخاماته وملامسه النسيجية والحمضية الثرية.
يمثل موضوعها أشلاء ومزقاً من عرائس اللاوعي المنتزع من براثن أغوار مدافن الهرم، وحيث تطبق الأبدية على هياكل متهالكة من المسوخ الموميائية المتفسخة والأبدية في آن واحد مستحضراً في محفوراته المعدنية (الزنك أو النحاس) والأحماض والكليشيه السالبة والطابعة الموجبة، ثم التبصيمات المتهافتة وتعددية الأداء التقني مثل الألفونة وسواها، والملصقات الغائرة- النافرة، هو ما يدعى عموماً بالتقنية المختلطة. ثم تستحضر العناصر الطقوسية التي كانت ترافق المتوفى في رحلة الموت والراحة المدفنية ذات الهندسة الأبدية. تتفتت هذه العناصر مثل نتف الأقمشة (أغطية وسراويل وقفطانات وأردية وقمصان ووصلات قماشية)، إزارات وأكمام خيوط وعقود وشتى الاندثارات من نعال إلى أقنعة تعاند الاندثار، تتحول بمجملها إلى هواجس حلمية كابوسية، أشبه بمزق مستجلبة من لعنات "كتاب الموتى" الفرعوني. تحمل هذه المجموعات رفع الحدود بين الفن والصناعة (الحرفية). بعض من هذه
اللفائف السوريالية احتشدت ضمن مواضيع حربي سيناء والاستنزاف. يتحول بعدها إلى احتشاد ملحمي متخم بالرموز والإحالات سواء المنخورة منها أم الفضائية المستقبلية، ما بين عالم المومياءات السحري وعالم الروبوهات العولمي. وذلك ليبدأ بالخروج من تقاليد لوحة المسند أو الحامل والمحفورة الطباعية إلى رفع الحدود في ملصقاته بين النحت الثلاثي الأبعاد والتصوير الثنائي الأبعاد، وصولاً في غشتالت التكوين إلى البنائية الهندسية للمثلث أو الهرم (شكل خارطة الدلتا) التي تعانق شتى هذه الشطحات العضوية الملتبسة من الأحياء والأموات.
وهنا نصل إلى فحوى الدراسة الفرنسية في معرضه الاستعادي في معهد العالم العربي عام 1998م.
يعتمد نوار منذ بداية التسعينات (وحتى قبل ذلك التاريخ) على هندسة الفراغ المفاهيمي (الفرضي)، معتمداً على الأغلب على طوبوغرافية جبرية مستقاة من تعامدات رقعة الشطرنج. وعندما تتعدد مصاريع اللوحات التربيعية يذكرنا بارتصاف تربيعات السيراميك المملوكي والفاطمي، مثل هذا التعامد يعطي للمثلث وللخطوط المتكسرة ديناميكيتها القصوى، تتحول منذ 1990م رقعة الشطرنج إلى نافذة مشربية (كما هي لدى مهندس العرب حسن فتحي)، يصنعها مثل أي حرفي شعبي من قضبان القصب ويلصقها بالغراء. ثم أخذ يحرك محور هذا المربع المحجم بزاوية 45° حول محوره. وهكذا يلتقي مع الأرابسك والرقش الموروث في حيوية تدوير المربع وتربيع الدائرة، وإذا كانت مجهرياته المحجوزة داخل سجون الهندسة الإقليدية ثلاثية الحجوم على رفيفها الضبابي والتباس تخطيطها الحركي (بتقنية مستقبلية) فإن الهندسة الجبهوية العامة المواجهة والمعانقة لشتى حجرات التكوين تبدو مسطحة منمالية مختزلة إلى بعدين.
وهي توحي بالإجمال بالعلوم التخيلية المستقبلية التي يدعوها بالطاقة (جول فيران)، ثم يعبر إلى النصب العملاقة والإنشاءات الملحمية الملتحمة مع مسرح العمارة والتنظيم الحضري وصولاً حتى إخراجه لأحد الأفلام، تعتمد هذه الطقوس ما بعد الحداثية على الالتزام اللامحدود بالقضية الفلسطينية (باعتبارها مركز الصراع العربي - الإسرائيلي)، ثم بالاعتماد على معاونين وفريق عمل، بحيث يبدو هذا التحالف المتعدد الاختصاصات أشبه بعمل جماعي أكثر منه فردي، فالفنان في هذه الحالة يشبه المخرج السينمائي أو قائد الأوركسترا المسؤول عن تفاصيل العزف الجماعي.
نقرأ في أعماله الإنشائية المشهدية (باستعاراتها من ديكورات مسارح الرقص وسواها) شتى أنماط التضاد البصري والذهني لدرجة الاستفزاز الذي حل اليوم محل البحث عن الانسجام الكوني خاصة في الطبيعية والمرئي الذي ارتبط بتيارات لوحة المسند (الحامل)، وبالتالي فإن توجه تعبير نوار إلى مساحة ما بعد الحداثة يطوي صفحة التعبير التقليدي في اللوحة التصويرية، وذلك بالبحث عن الوسائط المحدثة البديلة والتي تصل في تكريسها للطاقة إلى التعقيدات السبرنية والهولوغرام.
كلمات مفتاحية
الفن العربي المعاصر