فخر النساء زيد.. على ضفاف اللوحة المسروقة

غسان مفاضلة 27 يناير 2020
تشكيل
فخر النساء زيد (1901- 1991)
تعود الفنانة التشكيلية الأردنية- التركية الأميرة فخر النساء زيد (1901- 1991) إلى واجهة المشهد التشكيلي في الأردن، وذلك بعد سرقة إحدى لوحاتها التي تقدر بنحو المليون دولار أميركي من الدائرة الثقافية في أمانة عمّان الكبرى.
بدأت خيوط اللوحة المسروقة بالتكشف عندما شكّلت أمانة عمّان لجنة للتحقيق في اختفاء اللوحة ومقتنيات فنية أخرى، بناءً على أسئلة نيابية في البرلمان الأردني. وبعد أن أحالت الأمانة ملف التحقيق إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، تم توقيف ثلاثة موظفين في أمانة عمان، مؤخراً، بتهمة الاختلاس وسرقة لوحات فنية.
اللوحة المسروقة، التي لم تُفصح الجهات المعنية عن مواصفاتها لدواعي التحقيق القضائي، تعود بحسب مقربين من القضية، إلى ستينيات القرن الماضي، عندما كانت الفنانة المقيمة في باريس آنذاك، في أوج شهرتها العالمية. فقد أنجزت في تلك المرحلة أهم لوحاتها الفنية، ومن ضمنها لوحة "انشطار الذرة وحياة النبات" Break of the Atom and Vegetal Life التي بيعت في مزاد كريستيز العالمي بدبي في العام 2013 بـ 2،74 مليون دولار أميركي، وهو ثاني أعلى رقم عالمي لفنان من منطقة الشرق الأوسط، بعد الرقم الذي حقّقه عمل "الجدار" للفنان الإيراني برويز تنافوليو في المزاد نفسه العام 2008 وبيع بـ 2،8 مليون دولار.
تتحدّر فخر النساء زيد، التي كانت من أوائل الدارسات في أكاديمية "دار الفنون" بإسطنبول العام 1920، من أسرةٍ حازت على شهرةٍ واسعةٍ في عالم الفن والأدب والسياسة؛ فهي بنتٌ لقائدٍ ودبلوماسيٍ ومؤرخٍ، وأختٌ لفنانة "جرافيكية"، وكان خالها (كبير الوزراء) مؤرخاً ذائع الصيت في الامبراطورية العثمانية. أثناء دراستها في إسطنبول تزوجت من الروائي التركي عزت دفريم، فأنجبا الفنانين المعروفين نجاد ديفريم (1923- 1995) والمخرجة والممثلة شيرين ديفريم (1926- 2011)، لتلتحق بعد انتها زواجها الذي لم يدم طويلا، بأكاديمية "رانسون" للفنون في باريس العام 1927، فكانت انطلاقتها مع الفنان الشهير روجر بيسير الذي لعب دوراً مؤثراً في توجيه موهبتها وتطويرها.
اكتسبت الفنانة المولودة في اسطنبول، لقب أميرة بعد اقترانها بالأمير زيد بن الحسين في العام 1934، حينما كان سفيراً للعراق في (أنقرة)، وهو شقيق ملك العراق فيصل الأول، والشقيق الأصغر للملك الأردني عبد الله الأول، وهي والدة الأمير رعد، كبير أمناء الملك عبد الله الثاني؛ لتتوزع انشغالاتها منذاك، في لندن وبرلين وباريس وأنقرة، بين شغفها بالفن والواجبات الدبلوماسية.
 
مسيرتها الفنية الطويلة، وما رافقها من تحولات وتغيّرات على مدار نحو سبعة عقود، جعلت منها شاهداً على أبرز محطات الفن التشكيلي في القرن العشرين، والذي كانت باريس، آنذاك، حاضنة لمدارسه واتجاهاته الجديدة، خاصةً في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. فأثناء تواجد فخر النساء في باريس، كان الفن يدخل عهداً جديداً بمغامراته وكشوفاته الريادية، بعد أن تحرّر من المفاهيم التي حكمت (مدى) انتظاماته بعلاقات تمثيلية مع العالم الموضوعي، وبعد أن أصبح اكتشافاً لكيفياتٍ جماليةٍ وتعبيريةٍ جديدةٍ، أفضت، بمجملها، إلى قطيعته الناعمة مع ماضيه القريب والبعيد.

مسيرتها الفنية الطويلة امتدت على مدار نحو سبعة عقود، جعلت منها شاهداً على أبرز محطات الفن التشكيلي في القرن العشرين
 
كانت فخر النساء زيد، التي تفرّدت بكونها الفنانة الشرقية الوحيدة التي كُتب اسمها في قائمة "الفن التجريدي العالمي" لسنوات (1944- 1960)، على تماس مع تلك الكشوفات وتوجهاتها الجديدة. واستطاعت، بثقتها واقتدارها، أن تؤكد، في خضمّها، روافدها الثقافية والفنية ذات المنبع الشرقي؛ وهو ما سيظل ملازماً لشخصيتها ومسيرتها حتى آخر محطاتها في عمّان التي انتقلت إليها بشكل نهائي من باريس في العام 1976، لتؤسس "المعهد الملكي- فخر النساء زيد للفنون الجميلة".
البحث عما هو كامن وراء الظواهر المرئية ومعاينة وجودها الجوهري، يكاد يكون الناظم المشترك الذي تتوزعه جلّ أعمالها في مراحلها المختلفة؛ معاينةٌ مرفوعةٌ بوعيها للتقابل "الماثل" ما بين أعماقها الموغلة بالتصوف الطوراني، ووجودها المعاصر "المتمثّل" بالثقافة الأوروبية - العالمية.
 لوحة "انشطار الذرة وحياة النبات" الشهيرة  

















 بعد وفاة مشعلي الفن التجريدي فاسيلي كاندنسكي (1866- 1944) وبيت موندريان (1872- 1944) وقبل ذلك بوقت قصير من وفاة بول كليه (1879- 1940) اشتعلت معركة الفن التجريدي بوصفها "مدرسة باريس الجديدة" والتي عرّفها ميشيل راغون بأنها "ليست أسلوباً، ولكنها نتاج مواجهات وتراكمات وتجارب عديدة"، واعتبرها نتاج مصهرة الفن الحديث.



 شاركت فخر النساء في العديد من معارض "مدرسة باريس الجديدة" بتحفيزٍ من أستاذها روجر بيسير الذي لعب دوراً فاعلاً في المدرسة الجديدة، تاركاً بصماته على عديدٍ من الفنانين الذين تتلمذوا عليه، وفي مقدمتهم فخر النساء زيد. استخدم بيسير تشكيلاتٍ بتنويعاتٍ مختلفةٍ من المربعات والمستطيلات ذات تنقيطاتٍ وبقعٍ لونيةٍ انطباعيةٍ، وهي أقرب ما تكون إلى "التجريدية الغنائية". إنها التجريدية ذاتها التي منحتها فخر النساء ليونةً محكمة البنيان والتكوين بفعل "خطوط القوة" التي أضفت عليها ملمحاً طفيفاً من "الوحشية" في رسم المناظر الطبيعية، إضافة إلى "زخرفتها" التي تنقش خطوط القوة بوصفها "إضافتها الأساسية للفن التجريدي" وفق الناقد الفرنسي أندريه بارينو.
 بعد معرضها الأول في اسطنبول عام 1944، الذي عُدّ حدثاً استثنائياً بوصفه أول معرض شخصي تقيمة فنانة بشكلٍ منفردٍ، تتابعت معارضها الشخصية والدولية المشتركة التي زادت عن الأربعين معرضاً في غير مكان من عواصم ومدن العالم. وكان معرضها في نيويورك في العام 1950 نافذتها إلى الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط. وبدأت رؤيتها تجاه الظواهر المرئية وتمثيلاتها البصرية والتصورية، تعلن عن نفسها مع أعمال معرضها في غاليري "سانت جورج" في لندن العام 1947. وبعد أن انضمت إلى حلقة الفنانين المعاصرين في باريس، عرضت أعمالها إلى جانب الفنان الألماني هانز هارتنج، والفنان الروسي سيرجي بولياك. وربما كان وصف القيّم والناقد الفني تشارلز أستبين الأكثر ملامسةً للقيم الجمالية والتعبيرية التي انطوت عليها أعمالها الفنية آنذاك، والتي عدّها "بمثابة تجاوز مذهل يفتت التصنيفات الجمالية، ويحوّلها إلى قطع صغيرة تفصل بين البلاد والأعراق والثقافات".

 شاكر حسن آل سعيد : ظلّت فخر النساء زيد متلهفة للتعبير عن نوع من الصفاء الروحي








 
منجزها التشكيلي وتراكماته التعبيرية والجمالية على امتداد محطاتها الفنية، لا يترك مجالاً لتفادي الإنصات إلى صدى المفارقات المتحدّر من العلاقة بين سيرتها الحياتية، ومسيرتها الفنية؛ فهي ابنة السلطنة العثمانية التي عاشت في كنف الهاشميين الذين قوضوا نفوذ السلطنة في العالم العربي؛ مفارقاتٍ غطّت توشيحاتها الأولى، أفق التماهي بين الشرق والغرب، فكانت بمثابة انفتاحها الناعم على روحانية العالم المادي. فهي بحسب الفنان والناقد العراقي شاكر حسن آل سعيد "ظلّت متلهفة للتعبير عن نوع من الصفاء الروحي، إلى حد خلخلة الذات عن مركزيتها، وذلك عن طريق (مهاجمة) الجانب المادي وإنهاكه".
 بعد سقوط النظام الملكي عام 1958، حينما كان زوجها سفيراً للعراق في باريس، تفرّغت للفن، وحوّلت مرسمها الباريسي إلى صالون ثقافي. فكانت تلك المرحلة وما تلاها، من أخصب محطاتها الفنية. إنها المحطة التي شهدت ولادة لوحة "انشطار الذرة وحياة النبات" الشهيرة وصاحبة الرقم القياسي العالمي على مستوى الشرق الأوسط. وهي المحطة نفسها التي شهدت، أيضاً، ولادة لوحتها المسروقة من أمانة عمّان.
 
 
# فيديو عن لوحات الفنانة: 
 

كلمات مفتاحية

الفن العربي المعاصر تشكيل فنون الفنون البصرية الفنون التشكيلية