معرض "اللوحة الصغيرة" في دمشق.. الفن في أتون الحرب

أسعد عرابي 31 يناير 2020
تشكيل
(باسم دحدوح)
ما إن خُتم المعرض الأول في «غاليري مصطفى علي» (دمشق القديمة)، حتى ابتدأ المعرض التوأم الثاني تحت عنوان نظير «اللوحة الصغيرة»، ونافسه في أهميته، فهو لا يقل مفاجآت سعيدة عن سابقه: «المنحوتة الصغيرة»، الذي سبق أن كتبت عنه هنا، لأنه استمرار لاكتشاف مختبر «الرواد الجدد» (الذين ولدوا بعد عام السبعين)، والذين تملك مواهبهم التصويرية المدهشة استشرافاً حداثياً يتفوق على سعي الرواد الأسبق، رغم ريادتهم الأصيلة التأسيسيّة، ورغم التأثير التربوي لتقاليد الأول على الثاني.
لعلّ أبرز ما اتسمت به قياسات المعرض القزمة بحدود الثلاثين سم، أو أصغر، أن شكل المربع غلب على اختيارات الفراغ في الطرفين، كما سنرى، باعتباره الشكل الفراغي الأشد اختزالاً (ومنيمالية).
بدا المعرضان المتصلان بحبل سرة واحدة متكاملين ضمن التظاهرة العامة بموضوعها الأثير: «فعاليات أيام الفن التشكيلي السوري». استهلت المنحوتة الصغيرة في أواخر العام الفائت 2019م، وختمت توأمتها مع بدايات العام الراهن 2020م.

 

الرواد الأوائل
هم الذين قادوا روح الحداثة والمعاصرة بزاد من القطيعة المطلقة مع المؤسسين المستشرقين، أو الهواة، منذ سعيد تحسين، وميشيل كرشه، وفتحي محمد، وصلاح ناشف، والنشواتي

وقصيباتي وجلل وسعيد. تؤكد هذه القائمة المرتبكة تقصيرها عن مستوى فناني عصر التنوير (النهضوية التشكيلية)، وذلك ما بين راغب عياد، ومختار، ومحمود سعيد، في مصر، وصليبا الدويهي المصور، والنحاتة سلوى روضة شقير، في لبنان، ثم جواد سليم، وشاكر حسن، في العراق. بمعنى أن هذه النهضة وصلت مع التلاميذ الذين درسوا في مصر، والتحقوا بكلية فنون دمشق المؤسسة في بداية الستينيات مع الوحدة، من أمثال نشأت الزعبي، وممتاز البحرة، وعساني، وزيات، ونبعة، ثم بفضل رواد متينين على رأسهم الانطباعي المعلم ناظم الجعفري، والمنظر في علم الجمال، محمود حوا، والتعبيري الآرامي، فاتح المدرس، والمؤسس الحقيقي لكلية الفنون بثقافته الموسوعية، محمود حماد، وتأسيس قسم الحفر بفضل غياث الأخرس، وبرهان كركوتلي، مما قاد إلى ما نسميه بالرواد الحداثيين الأوائل، وعلى رأسهم يوسف عبدلكي، ونزار صابور، وعلي مقوص، وخيرو حجازي، والدحادحة الأربعة (من عائلة واحدة) ابتدأت بفائق وأخيه فؤاد، وانتهت بباسم، وعبدالعزيز، ثم مصطفى علي، وأحمد الأحمد، ومنذر كم نقش، وأحمد معلا، وعبدالكريم فرج، ومصطفى فتحي، وآخرون، علينا أن نستدرك أن هذه الفترة (ابتدأت بالانفصال، وانتهت بهزيمة 1967م) شهدت «جماعة العشرة» في دمشق آخر تجمع غير رسمي جمع محترفين منحازين إلى الحداثة والمعاصرة الأوروبية، وفق قياسهم المحلي، وهم: نذير نبعة، وأسعد عرابي، وخزيمة علواني، وغسان السباعي، وأحمد دراق السباعي، وعبدالقادر أرناؤوط، ونعيم إسماعيل، وغياث الأخرس، ونشأت الزعبي، وإلياس زيات، والناقد طارق الشريف، ثم أضيف منذر كم نقش، وعبد الله مراد. تزامنوا مع الصبوة نفسها في بغداد، بتجمع قاده ضياء العزاوي في بيانه عن «جماعة الرؤيا الجديدة»، من أبرزهم علي طالب، وسمرجي، وغيرهما. اقترف عشرة دمشق خطأ تاريخياً بعدم دعوة فاتح المدرس، ومحمود حماد. لا شك بأن من يُعرف بـ «جماعة حمص» يمثلون استمراراً لروح العشرة وهم: أكرم

معتوق، وإدوار شهدا، وغسان نعنع، وعبد الله مراد، وعبدالقادر عزوز، ثم تضاعف عددهم ففقدوا الروح الوثابة الأولى. شارك عدد من هؤلاء في التظاهرتين الحاليتين الخاصتين بقزمية قياس المنحوتة، ثم اللوحة. فإذا كان أبرزهم في المعرض الأول «فؤاد دحدوح» (النحات والمصور)، فإن أبرزهم في الثاني كان ابن أخيه «باسم دحدوح»، من خلال ثلاثية متواضعة القياس (كل واحدة 24x18سم)، وبتقنية مختلطة. ثلاثة رؤوس ساهمة تأملية حادة التعبير والسيماء والتأويل. متوحدة الحالة الوجدانية – الوجودية، ومتباعدة في لبوسها الخطي واللوني وقناعها التقني. رؤوس كافكاوية - سيزيفية، أبدية الغربة والاغتراب والإحباط والتقرح والعزلة، رؤوس محكومة بإعدام أبدي دون أن تعدم، شاهدة على المأساة المحلية التي تذعن لزكريا تامر عندما رفع الحدود بين عالم المدينة وعالم القبور.
عبدالعزيز دحدوح شارك في التظاهرتين بمتانة أشكاله ومعماريته الرؤيوية في النحت. أما الرابع، وهو أبرزهم، فائق دحدوح، فهو غائب منذ فترة بسبب نزوحه مع عائلته إلى ألمانيا.
تقف إلى جانب لوحات باسم، بالهامة التربوية نفسها أيقونات نزار صابور، فكلاهما مدرسان في قسم التصوير في كلية فنون بجامعة دمشق. لم يغادرا العاصمة خلال الحرب. درج صابور بأصالته، على مباغتة معجبيه بموضوعات متجددة دوماً. رست قريحته هذه المرة على استعادة الموضوع المسيحي الأثير: «العشاء الأخير»، وضمن منمنمة مختزلة الأداءات وفق منهج المصور الشعبي أبو صبحي التيناوي. غبطة وتلقائية العارف. أما النحات مصطفى علي، فقد عرف عنه بلاغة وبراءة رسومه السريعة (الإسكتش)، سواء الأحادية اللون، أم المختزلة في لونين. تعالج دوماً الأساطير الألفية المحلية (من جلجامش إلى عشتار): البابلية الآرامية الكنعانية العمورية ونظائرها.
«العارية» لدى المعلم إدوار شهدا ليست عارية، وإنما هي كائن نوراني (بوناري) مشكاتي. تتعشق عرائسه بدورها صور الغانيات السردية الشعبية، ومعاريج ملائكة الأيقونات السوريانية، عبوراً من تكعيبية بيكاسو، وتخمة ألوان شاغال. زميله عبدالله مراد يؤكد على كتاباته الحميمية الخطية بدعة وسكينة وشحوب الرذاذ الأصفر المألوف لديه، أو بالأحرى لون الورق، أو القماشة، يغذي بياضها الخطوط واندياحها في المساحات المتراكمة. الخط يعوم على المساحة تارة، والمساحة تهاجم الخط تارة أخرى، ليتوقف عند محطة تلقائية غير مكتملة تقنياً، ولكنها متخمة عاطفياً. لا تخفي خطوطه أثلاماً غائرة دامعة حتى التحرق المكبوت. تقطر بحزن أبدي قدرهُ لغة التشكيل. زميله غسان نعنع يصوّر الآخر في مرآة ذاته، بحيث يتحد مفهوم البورتريه بالأوتوبورتريه المغلفين برذاذ شبحي وضباب مجهري يسبر ذرات السطح والعالم دون أن تنجلي أبداً أسراره.

نزار صابور 

أما أستاذ الكرافيك في كلية الفنون، د. إحسان عينتابي، فيملك مع أحمد معلا، وقبلهما المرحوم عبدالقادر أرناؤوط، تأثيراً عميقاً على أساليب «الرواد الجدد» المحدثين، سواء في ميدان الإعلان، أم اللوحة. تشبه مناظره الطبيعيّة التربيعية (57.5 X56 سم) نوافذ فلكية ترصد تضاريس كوكب ما. مغلفة بالرذاذ الكوني، بالضباب البخاري، أو السديمي، يمثل تحولات أزمان ما قبل استيقاظ الفجر، أو نعاس الغسق، تضاريس معراجية رهيفة الألوان تستحضر الأطياف الطبيعية لليوناردو دا فنشي، التي تقع خلف «الجوكنده». يستعير من أدائه الوصفي الواقعي، أو ما يسمى «بالسفوماتو»، أي رؤية العالم ضمن ضباب تبدو التفاصيل نصف ممحية متوحدة النسيج. لا يكاد البعد الثالث يبين لأنه يتلاشى عند حدود الأفق.

 

الرواد الجدد أو المستقبليون
تذهب سحر الجاجه في مشاهدها التربيعية (45X35 سم) أبعد من الدكتور إحسان عينتابي، يتماهى مع الأفق والتضاريس الأمامية حتى يكاد يختفي البعد الثالث، وحتى نكاد نتحول من دلالة الفناءات الرحبة في الطبيعة إلى سطوح من التجريد الغنائي الرمادي، وضمن مختبر

صدفوي غير وصفي. إن التحول من نافذة عينتابي الطبيعية إلى مربع الجاجة شبه التجريدي الأحادي اللون والأحادي السطح وبؤرة الضوء وموقع النظر، يمثل التحول المجسّد من مختبر الرواد الأسبق إلى المفاهيم التجريبيّة للرواد الشباب الجدد (من مواليد ما بعد السبعين). مع مجد حناوي نحط على تجريد أشد حدة وحسماً، لأن سلوك المادة والفرشاة المتاهية المقتصرة على خلائط عجائن الأسود والرمادي والأبيض، أقول تصبح هدفاً بحد ذاتها، وذلك بما يناسب الفراغ الهلامي السديمي بغلبة الفراغ فيه على الامتلاء ضمن عصف التفافي يعبث في حضن الفراغ في عربدة صدفوية، لا تقبل التراجع، تتوقف بالتالي عند محطة مباغتة. تصنع آلاء كفوزي تجريداً كرافيكياً من نوع آخر، وبإيقاع متأنٍ تحز الخطوط والأثلام في جسد المادة العضوي، مقتصرة بدورها على مقامات شاحبة تتواتر في حيوية أرضيتها الغياب والحضور للخطوط الرهيفة. تجريدات حسن الماغوط مجهرية نسبية فلكية، أقرب إلى قزحيات المجرات في الفضاء اللامتناهي.
سأختم هذه الجولة بمربعي آية شحادة، لأنها الأشد أصالة وتعقيداً حداثياً. تشكيلات ملغزة بالغة التضاد اللوني، حاسمة الأشكال دون أدنى تردد أو حيرة. ملصقات مفاهيمية تتجاوز ملصقات التكعيبية والدادائية المحدثة، وروشنبرغ. بلاغة مستقبلية ما بعد حداثية، رغم أنها تحافظ على تقاليد «لوحة الحامل» ولا حاجة بها للمخاطرة بوسائط أخرى، مثل الإنشاءات، أو السبرنيتيك، أو المشهدية (البرفورمانس). تترسب في سيميائية الأشكال والتكوينات البالغة الإحكام تراكمات حداثة التصوير ما بين نيكولا دو ستائيل، والتعبيرية التجريدية الأميركية. لعله من سخريات الزمان أن أتون الحرب صهر وصقل مواهب «الرواد الجدد» في الداخل والخارج، بقي أن يجتمعوا في فضاء تشكيلي واحد. نحن في انتظار هذه المعجزة التي تكشف تفوّق الفن السوري على كبواته الوطنية.