الفن إذ يلامس الخوف.. غويا نموذجاً

سارة عابدين 19 أبريل 2020
تشكيل
فرانشيسكو دي غويا (1746 ـ 1828)
لا يمكن تصوّر قوة الفن وتأثيره، فهو يُظهر للحاضر والمستقبل معاناة الماضي. ويعتبر الخوف أحد الدوافع الرئيسية لصنع الفن، فرسم الإنسان البدائي الحيوانات المفترسة على جدران الكهوف لاعتقاده بأن سيطرته على صور الحيوانات المرسومة، تمنحه سيطرة عليها في الواقع، ولذا يشبه الفن الأساطير التي يسعى الإنسان من خلالها إلى تفسير الحياة وتدوين يومياته، ليصبح العمل الفني مكانا للقاء غير مرئي بين الفنان والمتلقي.

مع انتشار فيروس كورونا في العالم بالكامل، اختبرت البشرية مشاعر الخوف الجمعي، الذي لا يخص فئة أو مكانا محددا، لكنه خوف عام يسيطر على كوكب الأرض بالكامل، والخوف أحد المشاعر الإنسانية الغريزية التي تدفعنا للتعامل بحذر للبقاء على قيد الحياة.
في الفن هناك تمثيلات مختلفة لمشاعر الخوف، وأعمال فنية تثير الفزع والخوف، وهنا نظرة على أشهر تلك الأعمال الفنية وعلى سياق إنتاجها.

"ساتورن يلتهم ابنه".. فرانشيسكو دي غويا
توجد هذه اللوحة بمتحف برادو في مدريد، وتعتبر من أشهر أعمال الفنان الإسباني غويا. رسمها على جدران منزله مباشرة بين عامي 1819- 1823 وهي ضمن مجموعة تضم 14 لوحة عرفت باسم "اللوحات السوداء".
يظهر في اللوحة أحد آلهة الإغريق "ساتورن/زحل" في حالة من الجنون وهو يلتهم جسد أحد أبنائه. وفقا للأسطورة عرف زحل الذي أطاح بوالده، بأن أحد أبنائه سينقلب على سلطته بطريقة مماثلة. والتهم زحل كل أطفاله بمجرد ولادتهم حتى لا تتحقق النبوءة، لكن زوجته أخفت الطفل الأخير من الأب، وتحققت النبوءة بالفعل فيما بعد، كما تحكي الأسطورة.

لوحة "ساتورن يلتهم ابنه".. فرانشيسكو دي غويا 


















يظهر الرعب في اللوحة من خلال نظرة عين زحل وهو يلتهم الطفل، كما أن استخدام غويا للألوان الواضحة في بياض عينيه، وأماكن مفاصله وهو يمسك بجسد الطفل، مع شحوب ظهر الطفل، بالتضاد مع الألوان القاتمة المستخدمة في خلفية اللوحة، يجعل اللوحة أكثر قتامة وإثارة للخوف.

يصور غويا زحل باعتباره عملاقا مجنونا يلتهم الطفل بشكل محموم، ويظهر أنه التهم بالفعل الرأس والذراع اليسرى وجزءاً من الكتف. يشاع أنه عند اكتشاف اللوحة على جدران منزل غويا كانت تتضمن تصوير زحل في حالة من الإثارة الجنسية، لكن لم يتم التأكيد على ذلك، ربما بسبب تدهور حالة الجص خاصة بعد نقل اللوحة من الجدار إلى القماش، وربما تم إخفاء ما يشير إلى الحالة الجنسية عمدا قبل نقل اللوحة من الخاص إلى العام، خاصة أن غويا لم يقصد أبدا عرض هذه السلسلة السوداء للجمهور.

تكثر النظريات حول سبب رسم غويا لتلك القطع المرعبة على جدران منزله، خاصة أنه اختار منطقة الطعام في المنزل لرسم لوحة زحل يلتهم ابنه. يعتقد بعض النقاد أن غويا كان غاضبا للغاية من الاضطرابات السياسية في إسبانيا لدرجة جعلته راغبا في التعبير عن غضبه من خلال فنه، فاستخدم الرمزية للإشارة إلى حكام إسبانيا ويشير البعض الآخر إلى أنها تمثيل غير مباشر لعلاقته مع أبنائه.
بغض النظر عن دوافع غويا وراء اللوحة، تبقى صورة واضحة للصراع والخوف وشهوة الدم، وحتى الصراع النفسي القائم بداخل الشخص نفسه والذي تحدث عنه الناقد الفني ومؤرخ الفن جاي سكوت مورغان في مقال له بعنوان "لغز زحل لغويا" قائلاً "إن أفضل طريقة لفهم التناقضات المرعبة لهذه اللوحة هي تغطية إحدى عيني زحل ثم العين الأخرى، مع ملاحظة الحالات العاطفية المختلفة بكل عين. عندما نغطي الجانب الأيمن من الوجه، نجد التحدي ظاهرا في العين اليسرى، التي تحدق بوحشية وشراسة في شيء ما غير مرئي، بينما عندما نغطي الجانب الأيسر نجد الألم والرعب ظاهرين في العين اليمنى".
إذاً ما الذي أراد غويا أن يظهره؟ الشراسة أم الندم، أم الرعب؟

الرعب من أجل الرعب
 بعد عرض العمل الفني المرعب على الجمهور، ظهرت تساؤلات عن اللوحة وتفسيراتها، وبالطبع ظهرت التفسيرات السياسية والشخصية، وظل الجمهور بحاجة لوضع تفسير أو رسالة للوحة، وللشخص المجنون الشره الذي يظهر فيها، كما لو أن هناك انزعاجا فطريا من فكرة أن غويا يصور رجلا يأكل طفلا، لا أكثر ولا أقل. ولكن يبقى السؤال قائما: ماذا لو كان بالفعل هذا ما حدث: رعب من أجل الرعب فقط بدون أي خطابات سياسية أو تأويلات أخرى.
تثير اللوحة تساؤلا طالما طرحه نقاد الفن، هل يجوز أن يظهر الفن مرعبا في حد ذاته؟ خاصة مع الفن الحديث الذي منح الفنان حرية غير مسبوقة، وتحررا كاملا من كل القواعد الفنية. في تلك الحالة ربما لا يحب الفنان أن يقدم فنا جميلا، ولكن يقرر أن يقدم فنا ينتهك التفضيلات الجمالية والأعراف القديمة لمعنى الفن.

يمكن في هذه القضية الجدلية أن نعود لمعنى الرعب وهي كلمة تستخدم بطريقتين في النقد. يستخدم الرعب في المقام الأول للإشارة إلى استجابة عاطفية تحدث عند الخوف، أما الطريقة الثانية فيعبر الرعب عن نوع الفن المرتبط بطريقة ما بهذه المشاعر. في الفن الحديث لا يجب على الفن أن يحمل رسالة أخلاقية أو دينية ما، ولكن يتم الحكم على العمل الفني وفقا لمعاييره الخاصة، ومدى نجاحه في تحقيق التأثير الذي يريده الفنان، ومدى تواصل الجمهور مع الفكرة والمضمون الخاص بالعمل، لذلك يمكن الحكم على لوحة غويا من خلال وجهتي نظر متناقضتين، الأولى هي وجهة النظر القديمة التي تعزز القيم الأخلاقية والجمالية، والتي ثار عليها غويا في مراحل متأخرة من حياته. تلك الوجهة ربما لا تعتبر اللوحة عملا عظيما في حد ذاته بسبب محتواها المناقض للفطرة البشرية، ولكن ترتكز على أهمية اللوحة التي تعود إلى أهمية غويا تاريخيا وفنيا ليس أكثر.
بينما وجهة نظر الفن الحديث تفترض أن غويا أراد أن يصنع رعبا فنيا صرفا، كما سلسلة أفلام "saw" على سبيل المثال، رعب لا يهتم بالتأويلات ولكن يضع المتفرج أمام أسوأ مخاوفه، وأفكاره التي يخشى حتى أن يفكر بها وحيدا، ومن هنا تأتي قوة الفن وتأثيره الذي يحدث بشكل تلقائي حتى دون رغبة من المتفرج.

#فيديو يشرح أعمال غويا: 

كلمات مفتاحية

تشكيل الفن المعاصر ميثيولوجيا