عودة بوب ديلان.. سفر في الذات والتاريخ

نجيب مبارك 29 أبريل 2020
موسيقى
أغانيه تسمح بتأويلاتٍ وقراءات متعدّدة وكلماته دائما متوتّرة وغامضة

أحدث الشاعر والفنان بوب ديلان ثورة في الموسيقى الأميركية، منذ أن ظهرت أغانيه أوّل مرّة في مطلع الستينيات. لكنّه مؤخراً دخل في فترة صمتٍ طالت نسبياً، حيث يعود آخر أعماله إلى ما قبل ثماني سنوات، وهو ألبوم "Temest ) 2012) الذي احتفى فيه بفنّان عظيم آخر (جون لينون)، وأهداه لضحايا غرق سفينة تايتانك بعد مرور قرن على المأساة. ومنذ ذلك الحين، لم يصدر ديلان أيّ عمل جديد، واكتفى بإنجاز ثلاثة ألبومات تضمّ مختارات من روائع الريبرتوار الغنائي لفرانك سيناترا، إلّا أنه عاد إلى الواجهة بقوّة منذ أسابيع قليلة، في غمرة أزمة عالمية غير مسبوقة بسبب فيروس كورونا، وفاجأ جمهوره الواسع بأغنيتين جديدتين، تمثّلان سفراً مزدوجاً في الذات والتاريخ، لأنّهما تختلفان عن كلّ أعماله السابقة شكلاً ومضموناً.

 

















القتل الأكثر دناءة
يعود بوب ديلان في أغنيته الجديدة "Murder Most Foul" لتسليط الضوء على واحدة من أغرب جرائم القرن العشرين وأكثرها غموضاً، وهي جريمة اغتيال الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية جون فيتزجيرالد كينيدي، في تشرين الثاني/نوفمبر 1963 أثناء زيارته لمدينة دالاس. وقد كان لافتاً العنوان الذي اختاره لها: "القتل الأكثر دناءة" أو "الجريمة الأكثر وحشية".



وتمتدُّ الأغنية الجديدة إلى حوالي سبع عشرة دقيقة، وهي الأطول في مسيرة بوب ديلان حتّى الآن، وفيها يطلق الشاعر العنان لذاكرته لاستعادة الكثير من التفاصيل التاريخية التي صاحبت هذا الحادث المأساوي، ويمزجها ببعض التأمّلات السوداوية التي اشتهر بها، بينما انحصر دور الموسيقى في مصاحبة بسيطة للغاية، من خلال ثلاثة أوتار مخفّفة بين البيانو والكمان، على إيقاع بطيء جداً، يحظى فيه الإلقاء الشعري لديلان بالأولويّة ليبسط نبرته المميّزة على مساحة أوسع وأعمق. ورغم استخدامه لوسائل حديثة في التوزيع الموسيقي، فإنّ ديلان لم يفصح عن كثير من التفاصيل أثناء إعلانه عن الأغنية في حسابه على تويتر. إذ لم يكشف أيّ معلومات عن تاريخ تسجيل هذه الأغنية، أو أسماء الموسيقيين الذين رافقوه في العزف، ما يرجّح فرضية أنّها سجّلت منذ فترة قصيرة خلال هذا العام. والمثير للدهشة أنّ هذه الأغنية، فضلاً عن أنّها أطول ما سجّل ديلان على الإطلاق، هي أوّل أغنية تصل إلى المركز الأوّل في قائمة أفضل الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة يوم 8 نيسان/أبريل، وهو مركز لم يحلم به ديلان طيلة تاريخه الفنّي الحافل.

إنّ الشيء الأكثر أصالة وتأثيراً عند ديلان، والذي ظلّ راسخاً على مدى سنين طويلة، هو معاني كلمات أغانيه، التي تسمح بتأويلاتٍ وقراءات متعدّدة. وهي كلمات دائماً ما تأتي متوتّرة وغامضة، بحيث تتيح له أن يوجّه رسائل كثيرة إلى من يهمّهم الأمر. فهو في هذه الأغنية الجديدة لا يرسم فقط صورة لحقبة الستينيات، حين كان ما يزال في العشرينات من عمره، وإنّما يحاكم السياسة الأميركية على مدى أكثر من نصف القرن الماضي تقريباً، منذ اغتيال كينيدي إلى انتخاب دونالد ترامب. وهو إذ يسترجع نجوم الثقافة الشعبية الأميركية، خصوصاً من الستينيات إلى حدود الثمانينيات، بما فيها الثقافة السوداء - كينغ كول وليتل ريتشارد مثلاً- يسقط من لائحته السنوات التي تلت ذلك: إذ لا نجد إشارة إلى موسيقى الراب أو غيرها من الأشكال المستجدّة، ذلك أنّ الثقافة الأميركية الحقيقية في رأيه تنتمي إلى جيلٍ على وشك الاختفاء. ومع ذلك، لا يزال هذا التراث الغنيّ يضيء الحاضر، مثلما ما يزال صدى اغتيال كينيدي حاضراً إلى اليوم، إلى جانب اغتيالات أخرى حدثت في الستينيات: اغتيال روبرت كينيدي، شقيق الرئيس الراحل، ثم اغتيال زعيمي السود مارتن لوثر كينغ ومالكولم إكس، وهم جميعاً كانوا من أبرز الناشطين في ميدان الحقوق المدنية. وبخصوص هذه الجرائم الأربع، هناك حاجة ملحّة اليوم لإعادة فتح التحقيق فيها من جديد، وهو أحد المطالب الأساسية لبعض المثقفين الأميركيين المعارضين للسياسة القائمة.

تنقسم الأغنية إلى جزأين رئيسيين: الأوّل يسرد شعريّاً ما وقع يوم الاغتيال وما صاحبه من حيثيات، والجزء الثاني يشمل تعداداً لعناوين عشرات الأغاني التي طبعت المرحلة، وكأنّ ديلان يرى أن الموسيقى كانت وما تزال خير عزاء أمام فجائع التاريخ. وهو إذ يقدّم روايته الشخصية لمأساة اغتيال ج. ف. كينيدي، فلأنّه يعتبرها "أعظم خدعة سحرية في التاريخ"، ملمّحاً بوضوح إلى ما تروّجه نظرية المؤامرة منذ زمن طويل. إذ لا ننسى أنّه في الستينيات كانت دالاس معقل اليمين المتطرّف الأميركي، المعادي بشكل خاصّ لسياسة الرئيس كينيدي بشأن التمييز العنصري. ألا يبدو الوضع مشابهاً لما حدث ويحدث منذ انتخاب ترامب؟ وهل فكّر ديلان في العودة إلى سفينة السياسة التي غادرها من قبل، حين كان صوته الراديكالي المطالب بالتغيير يتردّد في كلّ أرجاء أميركا والعالم، إلى درجة أنّه تلقى تهديدات بالقتل في الستينيات؟ لقد انتبه لهذا الأمر كتّابُ سيرته الذاتية، حين لاحظوا أنّ ديلان طالما شعر بالغربة بعد تغييره القناع.


على خطى والت ويتمان
بعد أغنية "القتل الأكثر دناءة"، سيفاجئنا ديلان بأغنية ثانية جديدة، خلال ثلاثة أسابيع فقط، ما يدفع ربّما إلى التكهّن بأنّه بصدد التحضير لإصدار ألبوم جديد، وهي أغنية بعنوان " I Contain Multities "، مستلهمة من أحد أبيات قصيدة والت ويتمان الشهيرة "أغنية إلى نفسي". وجاءت أقصر بكثير وأقلّ طموحاً من سابقتها، فهي عبارة عن أغنية رقيقة مصحوبة بتوزيع بسيط (تصاحبها أوتار الغيتار، وتشيلو الهادئ، بدون قرع)، بينما لحنها أقرب إلى الموسيقى الأميركية الشعبية في مطلع القرن العشرين، وتذكّرنا في بعض أجزائها بعمله "ما وراء الأفق" الصادر عام 2006. وتكثر فيها الإحالات على كثير من الفنانين والشعراء، مثل ديفيد بوي وإدغار ألن بو والشاعر الإيرلندي أنتوي رافتيري، ووليم بليك وآخرين. يقول فيها: "أنا مثل آنا فرانك/ وأنديانا جونز/ وهؤلاء الأولاد البريطانيين السيّئين "رولينغ ستونز""، ثمّ يضيف في أحد المقاطع: "أنا رجل التناقضات/  أنا متعدّد الأمزجة".

تبدو الأغنية الجديدة بعيدة عن الطموح السردي لـلأغنية الأولى، لأنّها تنطوي على كثير من العناصر السيرذاتية، بدءاً من أبياتها الأولى، حيث يواصل ديلان تقديم نفسه على أنّه كائن هارب من العالم، غافل عن البيئة المحيطة به، وهو يعيد إلى الأذهان الصور الشعرية التي استخدمها والت ويتمان:

"اليوم وغداً وأمس أيضاً/ تَفنى الزهور مثل كلّ الأشياء". ثمّ يتابع إشاراته الواضحة إلى إدغار آلان بو وحكاية براميل أمونتيلادو: "لديّ قلب كاشف/ مثل السيد بو/ ثمّة هياكل عظمية على الجدار/ لأشخاصٍ تعرفهم". كما يقتبس أيضاً من ويليام بليك في قصائده عن البراءة والتجربة: "أنا في طريقي إلى إعادة ترتيب جميع الأشياء المفقودة/ غنّيتُ كلّ أغاني التجربة مثل ويليم بليك/ لستُ مضطرّاً للاعتذار عنها". وباختصار، يمزج ديلان في هذه الأغنية بين شعرائه المفضّلين ومراجع أخرى من الثقافة الشعبية الأميركية.

من زيمرمان إلى بوب ديلان
وُلد بوب ديلان عام 1941 في دولوث، مينيسوتا، واسمه الحقيقي هو روبرت آلان زيمرمان. اكتشف مبكراً موهبة العزف على آلة الهارمونيكا، الغيتار والبيانو، ومع ذلك ظلّت بداياته الفنية متواضعة.


وقد تأثّر كثيراً بموسيقى المغنّي الشعبي وودي غوثري، فاختار تغيير اسمه من زيمرمان إلى بوب ديلان، تيمّناً بالشاعر الويلزي ديلان توماس، ليبدأ الغناء في النوادي الليلية. وبعد توقّفه عن الدراسة في الجامعة، انتقل إلى نيويورك في 1960، حيث أصدر أول ألبوما ضم فقط أغنيتين أصليتين، لكن انطلاقته الحقيقية كانت في عام 1963، مع ألبوم  "بوب ديلان الحرّ"، الذي جمع عدداً كبيراً من القطع من تأليفه وتلحينه الخاص، من بينها أغنيته "Blowin' in the Wind  " التي صعدت به إلى سماء الشهرة، وأصبح يتصدّر واجهات الصحف الأميركية. وفي كلّ هذه الأغاني الاحتجاجية، التي لقيت انتشاراً واسعاً بين الشباب، واجه ديلان كلّ مظاهر الظلم الاجتماعي في عصره، وانتقد كثيراً الحرب والعنصرية، ما جعله يلعب دوراً بارزاً في حركة الدفاع عن الحقوق المدنية. وحتى لا يختزل نفسه في الموسيقى الاحتجاجية التي يردّدها الشباب الغاضب، أصدر ديلان ألبوماً جديداً عام 1964 ابتعد فيه عن الهموم السياسية، وركّز على استكشاف أبعاد جديدة، واختار له عنوان "الجانب الآخر لبوب ديلان".



في سنة 1965، تتبّع الفيلم الوثائقي الكلاسيكي "لا تنظر إلى الخلف" جولة ديلان البريطانية الأولى، وهي السنة نفسها التي أغضب فيها جمهور الموسيقى الشعبية، بسبب استخدامه الغيتار الكهربائي لأوّل مرة في مهرجان نيوبورت الشعبي في رود آيلاند. وقد حصلت ألبوماته اللاحقة، "زيارة ثانية لأوتوستراد 61" و"أشقر على أشقر"، على نجاح كبير، لكن مسيرته المهنية انقطعت في 1966 عندما أصيب في حادث دراجة نارية ما أثّر على وتيرة إنتاجه التسجيلي في السبعينيات، التي تعرضّت ألبوماته خلالها لانتقادات شديدة. لكن بحلول بداية الثمانينيات، ستعرف موسيقاه ولادة جديدة، ليشهد معجبوه من جديد تفجُّر موهبته السابقة في فترة التسعينيات. ومنذ بداية الألفية الثالثة، إلى جانب تسجيلاته المنتظمة وجولاته الموسيقية عبر العالم، قام ديلان بتقديم برنامج إذاعي منتظم، كما نشر كتاب "مذكرات" في 2004ـ لقي نجاحاً منقطع النظر. وفي عام 2016، فاجأت الأكاديمية السويدية العالم بمنح بوب ديلان جائزة نوبل للآداب، وجاء في حيثيات قرارها بأنّ ديلان "يمثّل رمزاً، وتأثيره عميق في الموسيقى المعاصرة"، بينما قال عضو الأكاديمية السويدية بير واستبرغ بأنّ ديلان "هو في الأغلب أعظم شاعر على قيد الحياة"!

كلمات مفتاحية

الموسيقى والشعر جائزة نوبل