فيلم "الحقيبة".. حصار الغربة

ضاهر عيطة 15 يونيو 2020
سينما
الأخوان ملص يشرحان عبر فيلم "الحقيبة" مأساة السوريين
في دقيقتين وبضع ثوان يحاول الأخوان ملص عبر فيلم "الحقيقة" أن يشرحا مأساة السوريين وقد مر عليها أكثر من تسعة أعوام، فلا وقت أمامهما للتأمل المجاني، وعين الكاميرا متعجلة لرصد ما يضج في أعماق اللاجئ السوري، المحاصر بالغربة والوحدة، وقد حاكاه الممثلان أحمد ومحمد ملص.
فمنذ اللقطة الأولى تبدو على وجه وجسد الممثل ملامح التعب والشقاء، وهو يصعد أدراجًا حديدية، حاملًا حقيبة سفره وترحاله، اللقطة هنا مأخوذة من الأعلى، حيث تظهر الممثل والأدراج الحديدية التي يعبرها، وكذلك قضبان السكك الحديدية، المتفرعة لعدة مسارات، كتعبير عن متاهات الدروب والعناوين، والإيحاء بالقسوة والبرد، مما يضاعف من الإحساس بحالة الحصار وانعدام ما يمكن أن يثلج الروح، حتى أن ثياب الممثل استحالت إلى خرق تشبعت بمياه الأمطار، وفي هذه المشهدية الغنية بالدلالات والايحاءات، يبدو الممثل/ اللاجئ، أشبه ما يكون بمتشرد، يفتقر لأدنى مقومات العطف والحنان والحب في عالم يبدو وكأن الآلات هي من تضبط إيقاعه، وما إن يصل الممثل إلى أعلى الدرج وقد هده التعب، يفصح معرفًا عن نفسه:

 من فيلم الحقيبة 

















أنا لاجئ؛ لننتقل إلى لقطة ثانية، نلمح فيها  لاجئًا آخر  شبيها بالأول، وكأننا أمام مرآة ترصد حضورًا فرديًا لتعكسه كحالة جمعية تسري على معظم  اللاجئين، وكلا الممثلين يقفان على ما يفترض أنها خشبة مسرح، واحد منهما يؤدي حركات بهلوانية فارغة من أي معنى أو دلالة، واضعًا القناع على وجهه، والآخر يقف ساكنًا، يراقب شبيهه بحيرة وضجر، وكأنه اعتاد على هذا الأداء العدمي في العراء، فوق كتلة إسمنتية صلبة، وما من جمهور يتفاعل هنا، فقط صمت، وطغيان كتل ضخمة من الأحجار في مقدمة الكادر، مما أفرغ معاني الحركات التي يؤديها الممثل، وحولته إلى بهلول يرتجل حركات مضحكة، غير أن الضحك في ظرف كهذا يتحول إلى حالة بكائية، والقناع على وجه الممثل يدلل على أن الممثل لا يؤدي سردًا عن مأساة فردية، إنما جمع شمل معظم اللاجئين السوريين، ليحولهم إلى بهاليل محاصرين بالوحدة والعزلة، ومتاهات السكك الحديدية، كذلك يعود هذا الجمع في بلاد اللجوء، إلى عمر الطفولة، إلى نقطة الصفر، فبالكاد هم يستطيعون تهجئة حروف ومفردات اللغة الجديدة، في فضاء لم يدركوا كنهه بعد، وبقدر ما هو فضاء مفتوح، بقدر ما هو مطبق بفكيه على الأرواح، وربما هذا يحيلنا إلى أنه فضاء مشابه لجدران بيوت لا تحيل ساكنيها إلا للخواء والبرد، وفي مثل هذه الحالة من تعلم اللغة، كلا الممثلين يكرران الأفعال والكلمات لتستقر في ذاكرتهما، ةيبدو لمن يراهما وكأنهما يعيشان حالة من الجنون، ليأتي ربط الجنون باللجوء دلالة على عدم الشعور بالاستقرار أو الطمأنينة وانعدام إدراك المحيط، إلى أن نصل للمشهد الأخير، حيث ترصد عين الكاميرا حقيبة ملقاة على الأرض وقد أصابها الهلاك من كثرة الترحال والسكن فيها مجازيًا، كفضاء يحل هنا بديلًا عن البيت أو الوطن، إلى حد أن هناك ثقبًا كبيرًا قد أصابها، ومن خلال هذا الثقب الذي استقر في وسطها، نرى الممثل المسرحي يمضي بعيدًا، بينما جلس الآخر على مقعد، لا غاية ولا  هدف له سوى حالة انتظار اللاشيء، بينما تموضعت على الأرض، وعلى مستوى الحقيبة، العديد من أوراق الأشجار الذابلة، لتحتل زقزقة العصافير مجمل المؤثرات الصوتية، إلى حد يكاد يخدش الأذنين، وكأن زقزقة العصافير في هذا السياق ليست إلا أنين إنسان يخترق نصل سكين حاد عظامه في أرض اللجوء. وبذلك استطاع الأخوان ملص، وعبر زمن شديد الإيجاز والتكثيف، ومن خلال أدوات بسيطة، أن يقولا الكثير الكثير في فيلم لا تكاد مدته الزمانية تتجاوز دقيقتين وبضع ثوان.

 #الأخوان ملص- الفيلم القصير "الحقيبة": 

كلمات مفتاحية

الثورة السورية المنفى والوطن الاغتراب عن الوطن اللاجئون السوريون