بوتيتشيلي فلورنسة.. أبرز محترفات عصر النهضة

أسعد عرابي 3 أكتوبر 2021
تشكيل
سيمونتا الجميلة - تامبيرا وألوان زيتية على صفيحة خشبية
ما بين العاشر من أيلول/ سبتمبر السنة الراهنة 2021م، ولغاية الرابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير من السنة المقبلة 2022م، يقيم متحف "جاكمار أندريه" (باريس) معرضًا بانوراميًا لأشهر لوحات ساندرو بوتيتشيلي (1445 ـ 1510)م، تكشف سيرة ومكامن ورشته الشهيرة ومساعديه فيها، ولوحات بعض من فناني هذه الفترة الذهبية في فلورنسة، والمتأثرين بمنهجه وأسلوبه، تحت حماية عائلة "ميديتشي" الاستثنائية في رعايتها للفنون.
استعيرت اللوحات الأشد شهرة لهذا الفنان من أبرز المتاحف الأوروبية، ابتداء من روما وفلورنسة، متحف اللوفر ـ باريس، والمتحف الوطني في لندن، وانتهاء بمتاحف برلين، وأمستردام، وغيرها.

بورتريه جوليان دي ميديتشي - تامبيرا وألوان زيتية على صفيحة خشبية (ساندرو بوتيتشيلي)


السؤال الشرعي الذي يطرح في هذا المقام: إذا كان بوتيتشيلي لا يقل أهمية عن الأعمدة الثلاثة العباقرة: ليوناردو دافينشي، ومايكل آنجلو، ورفائيل، فلماذا لا يوضع اسمه إلى جانبهم؟ الجواب البسيط أن هؤلاء ينتسبون إلى روما، رغم نشاطهم مع عائلة ميديتشي في فلورنسة، وبالعكس فإن بوتيتشيلي مولود في فلورنسة، وقضى أوقات نجاحاته فيها. فهو أول من أسس لتقاليد التعهد والورشة التعددية استجابة للطلبات المتراكمة، وخاصة سطوح الفريسك (التصاوير الجدارية العملاقة). ثم إنه توقف قبل ذلك عن التصوير خمسة عشر عامًا بسبب عدم فهم فنه الذي يعتمد على الأرابسك التواصلي في أفضلية التخطيط، ولا شك في أن تجديداته وحداثيته وصلت محترف هنري ماتيس في بداية القرن التاسع عشر، وحماية عائلة ميديتشي لموهبته الفذة شجعته للعودة ضمن صيغة جماعية لأول مرة، كما هي صيغة المساعدين في محترف أوغست رودان، بعد قرون من مبادرته.

مادونا العذراء والطفل - ألوان زيتية على قماش (ساندرو بوتيتشيلي)





يعانق المعرض أربعين من أشهر لوحاته، بما فيها "فينوس والصدفة"، تمثل ولادة الآلهة اليونانية الأسطورية في خضم أمواج البحر. إلى جانب لوحات مساعديه وفناني فلورنسة الذين عاصروه وتأثروا بمنهجه الجماعي وحساسيته الأسلوبية. كثير من النقاد يعدونه أشد فناني عصر النهضة تأثيرًا خاصة تقاليده الفلورنسية.
يؤكد المعرض على أسرار التقنية الجماعية هذه، رغم ما يكتنف أسرارها من غموض. هو المعرض الأول من نوعه بعد معرض 2003م، الذي أقيم في متحف لكسمبورغ، والذي تعقب أسلوبه الفني باعتباره مصورًا ورسامًا ومصممًا في آن واحد. ينتظر الجميع المعرض بسبب تكلفته الباهظة التي شاركت بنفقتها معونات متحف اللوفر، والمتحف الوطني في لندن، ومتحف أمستردام، والمكتبة الوطنية في الفاتيكان. والعناية باختيار الكوميسير ومعاونيه، تأجل مرات عديدة بسبب جائحة الكورونا. وأخيرًا، كانت المفاجأة السعيدة بافتتاحه المباغت.
إن تأمل لوحات المعرض يتيح الفرصة للتعرف على عبقريته الاستثنائية في تشريح طوبوغرافية التكوين، وإحكام مواقع عناصره، بحيث لا يمكن أن تكون إلا كما هي عليه، من احتلال تمفصل الفراغ، وحتمية وضعية الأجسام والرؤوس، ناهيك عن الحساسية والعمق البسيكولوجي في تعبير الوجوه، وسلوك الأجساد والألبسة، واندياح الظلال الرهيفة في المناطق المضيئة، بحيث يتفوق رسم الخطوط الدائرية، أو الحلزونية المتواصلة في عودها الأبدي.
إن وقفة فينوس الخالدة تكثف كل الموروث اليوناني ـ الروماني في قدسية الجسد العاري وطهرانيته منذ فيدياس ومعبد البارثينون الثُماني الأعمدة التي تحولت إلى آلهات مؤنثة تحمل أركان المعبد بجانب جبل الأولمبوس في أثينا.

عودة جودي - تامبيرا على صفيحة خشبية ( ساندرو بوتيتشيلي)


هي النزعة التي عرفت بمجملها بالشمولية "الإنسانية" التي تعدُّ الجسد البشري مركزًا للوجود المطلق، والتحول بالتالي من ميتافيزيقية الموضوعات الدينية إلى دنيويتها. هي التي شكلت شروط التفوق العقلي في إيطاليا وأوروبا، انتقلت هذه التقاليد مع بونابرت إلى فرنسا، حيث نحت كانوفا أخت بونابرت عارية، واستمرت هذه التقاليد المدعاة بمودة "بالطلينة" إلى التنظيم الحضري في عهد روتشيلو، فأعيد تخطيط باريس بالاستلهام من مخطط روما، واستمرت مع الرومانسية والانطباعية في منحوتات رودان، الذي كان ينحت العظماء، مثل فيكتور هوغو وكليمنصو، عراة ثم يكسيهم بالألبسة. أشهر لوحات المعرض التي لا تقدر بثمن استعيرت من المتحف الوطني في برلين وسميت "ميلاد فينوس" على الصدفة، منجزة ما بين عامي (1485 ـ 1490)م، زيت على قماش قياس 158 × 68.5 سم . ثم "بورتريه جوليان دو ميديتشي"، منجزة بين عامي (1478 ـ 1480)م، تامبيرا وألوان زيتية على صفيحة خشبية، من أكاديمية كارارا الإيطالية المشهورة بمقالعها الرخامية ـ قياس 95.5 × 39.3 سم . ثم " مادونا (العذراء والطفل)" (منجزة ما بين عام 1457 و1470)م، من متحف القصر الصغير، أفينيون ـ فرنسا، قياس 72 × 51 سم. ثم "سيمونيتا الجميلة" (منجزة عام 1485م) تامبيرا وألوان زيتية على صفيحة خشبية ـ قياس 81.8 × 54 سم متحف فرانكفورت.

العذراء الرائعة - تامبيرا على صفيحة خشبية دائرية ( ساندرو بوتيتشيلي)






لعله من الجدير بالذكر أن التكلفة الباهظة للمعرض ترجع بشكل أساسي إلى تكاليف شركات الضمان الكبرى للوحات المشهورة عالميًا وغيرها في التظاهرة، تكاليف لا يمكن تحملها من مشاريع العروض ما عدا المرتبطة بميزانية الدول الكبرى، فالمعرض الصيني الذي أقامه الرئيس جاك شيراك عن تاريخ التصوير في القرن الخامس عشر الذي يمثل الثروة الوطنية الطاوية، لم تكف في حينه ميزانية فرنسا ورصيدها العام لتغطية مبالغ الضمان، مما اضطر الصين لأن تغطي بقية الرصيد. المعرض الراهن من هذا النوع، لذا فإن زيارته تعتبر فرصة نادرة، تعطي لباريس الحق في مركزيتها التشكيلية الفرنسية والعالمية.