المرآة في الفنون.. انعكاس أم "صورة أخرى" للفن

تغريد عبد العال 26 نوفمبر 2021
تشكيل
يان فان إيك، بارميجيانينو، بيكاسو، ماغريت


كنا دائمًا نسمع عن الفن أنه مرآة لما يحدث حولنا، ولكن فيما بعد صارت هناك معان أخرى للفن تتراءى لنا، سواء اختلفنا مع ذلك أو اتفقنا. ظهر جدال قديم حول جمالية الفن، وهل هو الذي يقلد الحياة أم هي التي تقلده؟ ففي رواية "صورة دوريان غراي" تظهر فلسفة المسرحي والروائي أوسكار وايلد حين يقترح بأن الحياة هي التي تقلد الفن. ويكتب وايلد في مقدمة الرواية "الفن هو بلا جدوى"، وكأنه يريد لبطله أن يقلد البورتريه الخاص به بدون أن ينجح بذلك حتى حين طعن الصورة التي بدأت تشيخ شيئًا فشيئًا كلما غرق في الرذائل، فهو الذي مات وكانت جثته على الأرض. يكتب وايلد في مقالة له بعنوان "خراب الكذب" أن الفنان العظيم لا يرى الأشياء كما هي بل يراها غير حقيقية، أي أن الفن هو ما لا يحدث في الحياة. ثمة فلسفات وتيارات أخرى تعارض ذلك الاتجاه قديمًا كأرسطو الذي قال إن الفن يقلد الحياة وليس العكس. ولكن هنا نظرة نحو المرآة نفسها في الفنون، كيف حضرت، وهل تعطينا مفهومًا ما عن الفن وعن صورته وفكرته لدى فنانين قدماء ومعاصرين؟ هل هي رمز لفكرة الفن نفسه؟ أم انعكاس لما يدور في خلفيته؟ وهل ظهرت في أشكال جديدة ومهمة لتطرح فكرة ما عن الوجود الانساني المرئي واللامرئي؟

تحضر بادئ ذي بدء لوحة الفنان الهولندي يان فان إيك "بورتريه أرنولفيني" عام 1434 والتي يظهر فيها الزوجان حيث يضع الواحد منهما يده في يد الآخر. تحضر المرآة المحدبة في الخلف والتي نرى داخلها شاهدين على زواج هذين الزوجين. وكأن الفنان هنا لا يدعونا فقط لأن نرى أن هناك مرآة محدبة، بل ليجعلنا نفكر أن هناك أشخاصًا لا نراهم داخل اللوحة. إنها إذًا دعوة لرؤية اللامرئي ولأن نشعر بما يشعر به الرسام وهو يرسم هذه اللوحة. كانت المرآة تحتل فقط عشرة سينتمترات من اللوحة، وقد جعل فان إيك هذه المرآة تعمل في هذه اللوحة، لأنها ترينا ما هو خارج الإطار، وهو يان فان إيك نفسه، فيد أرنولفيني مرتفعة وكأنها تلوّح له، إذًا كانت تلك المرآة مجرد العين الثالثة لفان إيك، فها نحن نشعر بحضوره، وكأنه هنا، كما كتب لنا في أسفل اللوحة: "يان فان إيك كان هنا".
كان فان إيك أحد أهم رسامي عصر النهضة، ويشير الدارسون إلى أنه استخدم المرايا لعرض الصور المراد رسمها على سطح اللوحة، ما أتاح له نقل تفاصيل في منتهى الصغر، وقد ألهم الكثير من الفنانين بعده في هذا المجال.

يان فان إيك، " بورتريه أرنولفيني"



كانت دعوتنا للدخول إلى اللوحة هي أحد الأسباب التي جعلتنا نرى اللوحة وكأنها فضاء ثلاثي الأبعاد، لكن هناك ربما أسباب أخرى لرسم هذه المرايا. هكذا يرسم بارميجيانينو "بورتريه شخصي في مرآة محدبة" حيث المرآة هنا ليست لرؤية اللامرئي فقط بل لكونها تعكس البورتريه الشخصي لصاحبها الفنان. اللوحة هي صورة الفنان كما تعكسها المرآة المحدبة وكما ينظر هو نفسه إليها، فها هو يراها كما لو أنه يرسم نفسه بينما هو ينظر في المرآة ولذلك تبدو يده اليمنى كبيرة وحاضرة، ربما لأنه يرسم باليد الأخرى. وهنا يبدو لنا أننا نتطلع في مرآة محدبة وفي المرآة نرى الفنان ينظر إلى نفسه. وكتب الشاعر الأميركي جون أشبيري قصيدة طويلة حول هذا العمل الفني تحمل العنوان نفسه "بورتريه شخصي في مرآة محدبة"، لا بل سمى مجموعته الشعرية بهذا العنوان. في القصيدة يتأمل أشبيري اللوحة ويفسرها ويقتبس ما يقوله مؤرخ الفن فاساري عنها، فيورد مدخلًا مختصرًا لفاساري لتعريف القارئ بهذه المرآة المحدبة المصنوعة من نصف كرة خشبية والتي استخدمها بارميجيانينو ليرسم انعكاسه مجسدًا المدرسة النمطية التي ظهرت في عصر النهضة المتأخرة والتي ذهبت إلى صنع أشكال إنسانية غير متسقة الأبعاد والملامح، متجاوزة المدرسة التي ظهرت قبلها والتي كانت مذهلة في تجسيد الانسان في ملامحه المثالية.

لكن الأهم أن أشبيري يكتب أيضًا عن قصيدته لتصبح هي بذاتها بورتريه شخصيًا. ومن هذا الوصف للقصيدة وللوحة يذهب الشاعر للتعليق على مفهوم الشكل الفني وعلاقته بثقافة المجتمع الذي أنتجه. ويذهب أشبيري إلى اعتبار أن هناك توترًا في تصور الأشكال لكنه نسبي كما هو المعنى في الجملة الشعرية حيث يتم فهمه حسب الخلفيات المعرفية والثقافية، أي أن معناها منزلق وغير ثابت. 

بارميجيانينو، "بورتريه شخصي في مرآة محدبة"



أما بابلو بيكاسو فهو يريد شيئًا آخر من المرآة التي ارتبطت لوقت طويل بالنساء في الأعمال الفنية في تاريخ الفن. في لوحته الشهيرة "فتاة أمام المرآة" لا يرسم فقط صورة الفتاة المتطابقة في المرآة المقابلة، بل يرسم صورتها الداخلية. نشعر ونحن نطالع اللوحة أننا أمام صورة مشاعرها أو حالتها الجوانية، حيث تختلف قليلًا عما هي الصورة الخارجية. رسم بيكاسو اللوحة عام 1932، واستخدم خلالها أسلوبه التكعيبي في إظهار الأبعاد الهندسية وكانت صاحبة اللوحة هي تيريز، عشيقته. هناك حزن ما في الانعكاس، ألم وأسى ودمعة تسيل من العين، بينما الفتاة فرحة وألوانها مشرقة. فهل هذه هي ازدواجية الحياة التي تقسمها المرآة إلى قسمين؟ يبدو أن بريق المرأة يخبو في المرآة التي ترى فيها نفسها وكأنها ناقصة أو أن ألقها غير كاف. إنها الطريقة التي ننظر فيها إلى أنفسنا في مقابل الطريقة التي ينظر فيها الآخرون إلينا، إنها إذًا نظرة داخلية إلى الأشياء حيث تختلف كل مرة ننظر فيها إلى اللوحة. وهنا ربما يعيدنا بيكاسو لأن نرى كم كانت الحضارة القديمة تعتبر أن المرآة هي صورة الروح. المثير هنا أن المرأة لا تنظر إلى جمهور بل إلى نفسها، ونظرتها إلى ذاتها تجعلنا نراها كما ترى هي نفسها لا كما نراها نحن. المرآة إذًا هي نظرة هنا، نظرة إلى الداخل.

لكن الفنان البلجيكي السريالي رينيه ماغريت ينظر بشكل آخر إلى مرآته، وخاصة في لوحته "لا يعاد إنتاجه"، حيث لا نرى هناك انعكاسًا لصورة الرجل الواقف أمام المرآة. بل هناك شخص يعطي ظهره، ونحن هنا لا نرى وجهه. وبجانب الرجل هناك نسخة من كتاب لإدغار آلان بو الذي تأثر فيه ماغريت كثيرًا. ولكننا نرى انعكاسًا حقيقيا للكتاب وليس للرجل، المرآة هنا كما عنوان اللوحة تعيد إنتاج الصورة ولا تعكسها. يعيدنا ماغريت هنا بمزاجه السريالي إلى معنى الفن القديم بوصفه مجرد إعادة إنتاج للصورة وكأنه يقول إن الأصالة لا يمكن إعادة إنتاجها.


بيكاسو ، "فتاة أمام المرآة"



كان ماغريت دائمًا يخفي الوجوه في لوحاته، ليجعلنا نتساءل لماذا لم نر الوجه بل رأينا الكتاب في انعكاس دقيق، هل لأن الكتاب والكلمات داخله لا يمكن أن تتغير؟ يتحدى هذا العمل رؤيتنا له، فيستفزنا من الداخل، ليحفزنا بأن لا نأخذ الأشياء بسهولة. لا يمكن لمرآة أن تفعل ذلك، نقول في داخلنا، ونحن نعلم أن عالمًا ما يجعلنا نتوهم، هل هو حقيقي ما نراه في المرآة؟ لا يمكن رؤية الإنسان من الداخل عبر مرآة ماغريت كما فعل بيكاسو بل لا يمكن رؤيته من جهة واحدة، ربما يلزم الأمر أكثر من مرآة وربما يأخذنا ذلك للتفكير بالفن الذي هو أكثر تعقيدًا بالنسبة لماغريت.

هناك زوايا كثيرة للنظر إلى تلك المرآة التي أرادها الفنانون أكثر من أداة، فهي بالنسبة لهم نظرة أخرى للفن، وتغيرت رؤيتها لتصبح فلسفة خاصة للفنان ليرى صورة الوجود حوله وانتقلت منها إلى الشعر والأدب لتصبح كما قال الشاعر الكولومبي خوان مانويل روكا في مجموعته "صانع المرايا": "المرايا لا تحكي ماضيها/ لا تشي بسكانها القدامى"، في إشارة إلى أن المرايا تعبر البشر كما تعبرنا الحكايا والوجوه والذكريات. 


رينيه ماغريت، "لا يعاد إنتاجه"