ساهر كعبي.. اللوحة الخطّية بين التجريب والالتزام

مليحة مسلماني 1 ديسمبر 2021





استثنت التصورات الغربية لمفهوم الفنّ الفنونَ البصرية العربية والإسلامية من مصطلحات "الفنون الجميلة" و"الفن الحديث" و"الفن المعاصر"، وغيرها من التسميات التي حاولت نفيَ صفةِ الإبداعِ عن تلك الفنون معتبرةً إياها مجرد فنون "تنميقٍ وتزيين"، وأطلقت عليها بالمقابل مصطلحات مثل "الفنّ الشعبيّ" و"الفن الحِرَفيّ" و"الفن التطبيقي"، وغيرها من التسميات التي تؤكد التمييز الثقافي، والثنائية الحادّة في الفكر الغربي الاستعماري، والتي حاول أن يفرضها ضمن تصوراته عن الشرق وضمن صياغته للعلاقة معه، كعلاقة استعمارية اشتملت على التمييز الاجتماعي والسياسي، والثقافي أيضًا. فكما انطوى الفكر الغربي على ثنائيات التمييز بين "أضداد ثقافية"، مثل الرجل الأبيض "المتحضّر" مقابل الشرقيّ "المتخلّف"، وضع كذلك تصنيفات للفنون على أساس أيديولوجيّ ثنائيّ ـ تقييميّ يميّز بين "الفنّ الهابط" و"الفنّ الراقي"، فالأول يمثّل "الفنّ المتحضّر" مقابل الثاني الذي يُعتبر "فنًّا بدائيًّا".

ذلك مدخلٌ ضروريٌّ للولوج في أعمال ساهر كعبي في اللوحة الخطّية العربية المعاصرة، ذلك أن أية قراءة معاصرة لمفهوم الفن وللأعمال الفنية العربية المعاصرة يجب أن تضع في اعتبارها ضرورة التعريف المستمر للمفاهيم والمصطلحات ونقدها وتفنيدها، من أجل عدم البقاء في أسر تبعيةٍ فكريةٍ لا تجادل فيما يُفرض من أُطر وتصنيفات للإبداع.



اللوحة الخطّية العربية

تشكل أعمال ساهر كعبي نموذجًا للبحث المستمر في مسيرة الفنان العربي في اللوحة الخطّية، والتي، ومع استمرار الاشتغال والتجديد عليها والتجريب فيها، من غير الممكن أن تبقى ضمن التصنيف الذي يضعها في إطار "الفنون التقليدية"، ما دامت لا تزال تشكل هاجس الفنان ابن المرحلة المعاصرة، وما دامت تنفتح على تجريبه المستمر في خلق تكوينات بصرية من العلاقات بين الكلمات والسطور المرسومة بالخطوط العربية. وفنّ الخطّ العربي كبقية الفنون العربية والإسلامية الأخرى، مثل الرقش والزخرفة وغيرها، يستلهم هويته البصريّة، بما فيها من دائريّة وتكراريّة وترادفيّة، من الفلسفة الروحية في الإسلام، كدينٍ يستند إلى مقومات رئيسية من بينها التوحيد المطلق للخالق الذي "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (سورة الشورى، 11).

تتنوّع الخطوط التي يستخدمها ساهر كعبي في أعماله ما بين الثُّلث والثُّلث الجليّ والنسخ، بالإضافة إلى خطّ التعليق الفارسيّ والخطّ الديوانيّ وغيرها. تتمظهر تلك الخطوط ضمن أعمال تتعدد أساليبها بين لوحات وجداريات وحفْر على الخشب في المساجد والأماكن العامة. ويُذكر أن الفنان أنهى في أواخر عام 2019 كتابة المصحف الفلسطينيّ الأول (مصحف المسجد الأقصى المبارك)، ما يعدّ إضافة هامّة وضرورية للإرث الثقافيّ والبصريّ الفلسطينيّ.





روافد دينية ـ وطنية ـ ثقافية

وفي مقابل تنوع الأساليب الخطّية والأدوات الفنية، تتعدد مضامين أعمال ساهر كعبي، إذ تستلهم نصوصها من الديني والمقدّس، ومن الثقافة والأدب العربييْن، ومن الإرث الكلامي الوطني الفلسطيني؛ فتشتمل أعماله على آيات من القرآن الكريم، وعلى أحاديث نبوية وأشعار من الأدب العربي ومن الأدب الفلسطيني كذلك. يأتي هذا التكامل بين الأسلوب والمضمون في أعمال ساهر كعبي مرادفًا لهوّيةٍ تعنون ذاتها حضورًا عربيًا مستمرًا يشكّلُ فسيفساءَ تتناغم داخلها مضامين فكرية وثقافية ودينية وأدبية ووطنية.

أنجز ساهر كعبي العديد من الأعمال المألوفة في المشهد البصري الخطّي العربي؛ والتي تشتمل على آيات وأحاديث وأبيات شعرية. في إحدى لوحاته يرسم الفنان بخطّ الثلث أبيات القصيدة المعروفة للإمام الشافعيّ والتي مطلعها "دعِ الأيامّ تفعلُ ما تشاءُ، وطِبْ نفسًا إذا حكَمَ القضاءُ". نُسِّقَ الشكل العام للوحة بطريقة المرقّعات القديمة، بحيث تُدوَّن كلمات السطر الأول بخطّ الثّلث، بحجم كبير، ثم تليها ثلاثة سطور بحجم أصغر مدوّنة بخط النسخ، يتكرر التكوين البصري للخطّ بسطرٍ بالثّلث وثلاثة بالنسخ وهكذا. يتكرر ذات التنسيق للسطور في لوحة أخرى يسجّل فيها الفنان أبيات للشاعر الإماراتي صقر بن سلطان القاسمي يمجّد فيها فلسطين وأبناءها، مستخدمًا خطّ الثلث الجليّ في كتابة الأبيات الشعرية، ثم يكرّر البيت ذاته في الأسفل بخطّ النسخ، ويشغل التكرار هنا دورًا جماليًا بالإضافة إلى دوره التوضيحيّ.

تكامل التكوين البصري

تتأكد المضامين الوطنية الفلسطينية في لوحات أخرى يدوّن فيها ساهر كعبي أشعار ومقاطع من قصائد لمحمود درويش تدور مضامينها في أفلاك الأرض والوطن والهوية واللغة، كما في عمل دُوِّن فيه بخطّ الثّلث مقطعًا من قصيدة للشاعر هو "والأرضُ تُوْرَثُ كاللغة". تُمنَح مفردة "الأرض" المساحة الأكبر من اللوحة ما يعزّز التكامل المنشود في التكوين البصريّ بين الأسلوب والمضمون، وبين النصّي والبصري، وبين اللغة والأرض كمكوّنيْن أساسيْن في الهوية. تبدأ الألوان بالدخول إلى أعمال الفنان كما في تلك اللوحة، إذ تأخذ كلمة "الأرض" اللون الأسود بينما تُرسم بقية كلمات المقطع "تُوْرَثُ كاللغة" باللون الأحمر، في تأكيد مرة أخرى على علاقة الترادف والارتباط والتشابه بين عنصريْ الهوية ـ الأرض واللغة. ويحضر شعر درويش في لوحة أخرى يرسم فيها الفنان بخط الثّلث الجليّ اسم الشاعر "محمود"، وفي داخل امتداد كل حرف من حروف الاسم دُوِّن بالخطّ الديوانيّ الجليّ ما قاله درويش عن حروف اسمه في "جدارية"؛ "ميمُ/ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى"، يظهر هذا المقطع متداخلًا مع جزء من امتداد حرف الميم الأول في اللوحة، ويقول الشاعر "حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان"، وهو مقطع يظهر في جزء من امتداد حرف الحاء في اللوحة، ويكمل الفنان بالطريقة ذاتها تدوين ما قاله الشاعر في كل حرفٍ من حروف اسمه، في امتدادِ الحرفِ ذاته في اللوحة:

ميمُ/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيًّا، مريضَ المُشْتَهَى
واو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين
دال/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني.





بين الالتزام والتجريب

تستمر أعمال ساهر كعبي في التحرر من التكوينات البصرية التقليدية والمألوفة للخطّ العربي، لكنها تُبقي دائمًا على القواعد المتعارف عليها في كل أسلوب خطّي في كتابة الحروف والكلمات. يمثل أحد الأعمال تجريبًا في اللوحة الخطّية يتم عبر خلق تكوينات خطّية وعلاقات جديدة بين الحروف والكلمات؛ يبدو هذا العمل الذي دُوّن فيه بيتان من قصيدة "سَلُوا قلبي" لأحمد شوقي، كلوحةٍ داخل لوحة، بحيث يتموضع في مربّعٍ في المركز تكوينٌ بخطّ الثلث الجليّ لبيت من القصيدة هو "وما استعصى على قومٍ مَنالٌ، إذا الإِقدامُ كان لهم رِكابًا". تنقطع بعض الحروف في التكوين الداخلي عند الحواف معطيةً المساحة للكلمات التي تعمل إطارًا في تكوينٍ يحيط بها، التقطّع في الحروف يعزز التداخل في العمل الذي يبدو كطبقات. في التكوين المحيط دوّن الفنان في النصف الأسفل من اللوحة البيت الشعري السابق مرة أخرى، وفي النصف الأعلى منها دوّن بيتًا آخر من القصيدة ذاتها وهو "وما نيلُ المطالب بالتمني، ولكن تؤخذُ الدنيا غِلابًا". استخدم الفنان في كتابة كلمات التكوين الخارجي أسلوب المَشْق، والمَشْق في عرف الخطّاطين يعني السعي إلى ضبط الحروف والقواعد باستخدام النقاط التي تمثل الوحدة التي يقيس بها الخطّاط امتداد الحروف والمسافات فيما بينها، ليختار التصوير الأمثل للحروف والعلاقات والتراكيب فيما بينها. يُبقي الفنان على النقاط التي تشغل في العمل دور القياس، لكنها تأتي أيضًا لتثري التكوين بجماليات تخلقها بالعلاقات التي تقيمها بينها ومع الحروف والكلمات. 

تشكّل أعمال ساهر كعبي تجربة متفرّدة ومتميّزة في المشهد البصريّ ـ النصّيّ الفلسطينيّ، إذ هي تستند إلى فنّ الخطّ وقواعد كتابة الخطوط العربية لتشكيلِ عالمها البصريّ بما فيه من تكوينات تخلقها الحروف والكلمات، وتتلمّس طريقها نحو تشكيلات بصريّة جديدة عبر التجريب والتجديد. وهي في استلهامها من الموروث الدينيّ والوطنيّ والثقافيّ الفلسطينيّ والعربيّ، تسعى إلى اكتمالِ الهويّة البصريّة التي تصونُ جوهرها بالإطارِ الشكليّ اللازمِ لها لتعريفِ ذاتها أمام ذاتها ومقابل الآخر.

*المقال (بتصرّف وتعديل) من كتاب "تجلّيات الحرف، جماليّات النصّ في الفن الفلسطيني المعاصر"، للكاتبة مليحة مسلماني، مكتبة كل شيء، حيفا، 2015.