ثمة كاميرا كانت تعمل من خارج الفيلم، وبين الحين والآخر تتسع لقطاتها إلى حد يسمح برصد ما يبث من أحداث الفيلم عبر شاشة العرض، وما ينتاب المشاهدين من انفعالات وهم أمام مادة تتحدث عن السجون السورية. بهذا المعنى، يمكن القول إن هناك اشتغالًا على الفيلم من داخل وخارج الفيلم، والمشاهدون ينتقلون من حكاية إلى أخرى، يرويها سجناء عادوا من الموت. وإذا ما توقف الراوي، فجأة، يُوظَّف هذا القطع لإفساح المجال لبروز رواية جديدة، أو لتجسيد مشهد يُؤدَّى تمثيلًا. ها هي أصوات الضرب والتعذيب تدمي روح المعتقل القابع في زنزانته وحيدًا، ونلمح إشارة الصليب وقد رسمت على ذراعه، مع عبارات تناجي الرب، إذ يسترق السمع، باحثًا عن مصدر تلك الأصوات، والريبة تنهش ملامح وجهه. يضرب بيده على الفراش الممدد عليه بإيقاع زمن يأبى أن يتحرك، أو كأنه يفرغ طاقة الخوف التي تنهش أعماقه. وحين تتسع اللقطة، يتبين لنا أنه كان يعمل على تحريك يده على ذلك النحو، ليعيد إليها مجرى الدم، لئلا ينال منها العطب. أما الجدار الذي يحاصره، فيشبه جدار قبر، وقد نال منه السواد وعفن الزمن.
كذلك، نرى السجناء يضربون الأرض بأقدامهم العارية والمتسخة، تعبيرًا عن اعتزازهم بأنفسهم، بينما السياط تنهال على أجسادهم، وهم يساقون إلى ساحة التنفس، برؤوس منحنية. ومع خلو المهجع منهم، تتضح معالم تكوينه، وحالة الخراب الساكنة فيه، فتظهر الطراريح، والأدوات التي يستعملونها للشرب والغسيل، وقد ترك الباب مواربًا لنسمع أصوات الجلادين وهي تمعن في إهانة المساجين وضربهم. ومع تجوال الكاميرا في أرجاء المهجع، نلمح بعض المساجين، وقد مكثوا في زاوية، ولم يخرجوا مع رفاقهم للتنفس، فنفهم، في ما بعد، أنهم، ونتيجة للتعذيب، بقوا لشهور طويلة غير قادرين على السير، أو الوقوف. ثم نعود مجددًا إلى رواية سجين آخر، يتحدث عن اللحظات الأولى لدخول المعتقل، وكيف كان الجلادون يعذبونهم بسياط مصنوعة من "قشاط" دبابة حربية، وهو قاس ومتين في الشتاء، وأقل قسوة وليونة في الصيف، لكنه في الحالتين يدمي ويعطب الأجساد والأرواح. سجين آخر يروي عن تجربته مع الدولاب، وقد ربطت أطرافه بحبل شد إلى قطعة معدنية، على ألا يقل عدد الجلدات عن مئتين وخمسين جلدة، وعلى الضحية أن تعد الجلدات النازلة على جسدها، وهي في حالة من التألم والصراخ، وإذا ما فشلت في ذكر العدد الصحيح، يعاود الجلد من نقطة الصفر. هنا، ربما لم يستطع الممثل في روايته هذه، ونتيجة للآثار التي لم تزل عالقة في ذاكرته، الاكتفاء بالروي، فلجأ في أحيان كثيرة إلى تمثيل الحدث، عبر الإيماءات والإشارات، شارحًا للمتلقي كيف تصبح حال السجين حين يكون محصورًا في دولاب على نحو يفقده القدرة على النجاة من أية جلدة، سيما وأن ثلاثة من الجلادين يتناوبون على جلده، لئلا ينقطع أثر التعذيب ولو لثانية. هنا، أيضًا، تنقطع الحكاية فجأة، لنستمع إلى سجين يصف لنا أهوال ما يعانيه من رعب وخوف، وهو يستمع إلى صراخ المعتقلين الذين يشاركونه المهجع، وهو مدرك أن دوره في تعذيب مماثل آت لا محالة. وإذا ما انقطع الروي، مرة أخرى، نعود إلى متابعة الحكاية التي سبقتها، ومنها إلى مشهد جماعي لمعتقلين وجوههم إلى الحائط، رؤوسهم محنية، والسياط كعادتها تنهال على أجسادهم. ورغم أنهم يؤدون الدور تمثيلًا، إلا أن ملامح وجوههم ونظراتهم توحي أنهم سجناء فعلًا. ربما يعود ذلك إلى مرارة تجاربهم السابقة، التي مكنتهم من الإتيان بأداء يكاد يفتقد إليه كثير من الممثلين المحترفين. هذا يعود أيضًا، إلى عبقرية المخرج لقمان سليم، وزوجته مونيكا بيورغمان، وكيفة تعاملهما مع الممثل، وتحريضه على تأدية دوره بهذا الأداء الساحر.
وقد تجلت تلك العبقرية في تصميم فضاء الحدث، فهو، رغم بساطة تأسيسه، يوحي كأننا قد حللنا في معتقل حقيقي يطبق على أنفاسنا، ويرهبنا بالمقدار الذي نلمح ونحس فيه، بالرهبة المرسومة على وجوه المعتقلين، والسياط التي تلسع ظهورهم، كأنها تحل على ظهورنا، حتى إذا ما اتسعت عين الكاميرا، رأينا العديد من المشاهدين وقد غرقوا في البكاء والنحيب، نتيجة لهذا الإمعان في التعذيب، الذي تعتمده المؤسسة الأمنية السورية كمنهجية، غايتها سحق آدمية الإنسان، وتحويله إلى كائن حيواني يمكن لجلاده أن يتعامل معه حسب ما تمليه عليه نوازعه وغرائزه التي باتت مفتونة بالتعذيب، وتستمتع به، لصرف طاقة العنف الكامن فيه، لكونه هو في دوره، أي الجلاد، مستعبد بشكل أو بآخر، وبصرف النظر عن انتمائه الديني، أو القومي، أو الحزبي، فالكل هنا محل ريبة وشك، وعرضة للتجريد من اعتباره الإنساني، وإن كنا أمام تجربة سجناء كانوا قد نجوا من مقتلة السجون الأسدية، وأمكن لهم بمساعدة المخرج لقمان سليم وزوجته مونيكا، إعادة تمثيل وتجسيد ما عانوه في جحيم المعتقل، فماذا عن الذين قضوا نحبهم هناك، وكيف كان لهم أن يرووا، ويجسدوا لنا مشاهد موتهم، التي روى عنها بعض الناجين، حيث كانوا يشهدون في كل يوم العديد من رفاقهم وقد استحالوا إلى جثث متعفنة، تترك بينهم لفترة طويلة، إلى حد أنهم ينامون ويأكلون، ويمارسون حياتهم الطبيعية في المعتقل، والجثث تستلقي بينهم، وكأنها لعنة من السماء قد حلت على رؤوسهم، وربما يتضح معنى تلك اللعنة حين تكتمل حلقة الروايات، بالعودة إلى حكاية الحفرة في أعلى السقف، والتي كنا قد أبصرناها في أول لقطة من فيلم "تدمر". فمن خلال تلك الحفرة، كانت تتم عملية مراقبة السجناء، وأي سجين يبيح لنفسه النظر إليها، سيدفع ثمنًا باهظًا من التعذيب، ونتيجة لذلك تبقى عيونهم مطرقة إلى الأسفل، وأبصارهم مغطاة بقطع قماشية. ولكونهم لا يرون جلاديهم، ولا يعرفون لهم أسماء، يطلقون عليهم أسماء مستعارة، يعود جميعها إلى ذاكرتهم التعذيبية، مثل "أبو الشوربة"، وهو الجلاد الذي يضع رأس السجين في وعاء الشوربة، سواء كان ساخنًا، أو باردًا، "وأبو الحديدة" الذي لا يضرب إلا بالحديد، و"أبو الخمس مية" الذي يضرب خمسمئة سوط. وإن كانوا لا يتذوقون طعم اللحم إلا في أعياد البعث، يأتي السجان ويتبول على ذلك اللحم قبل توزيعه على المساجين. يروي لنا السجين الذي أبصر هذه الواقعة عن الحيرة التي وقع فيها، فهل عليه أن يخبر رفاقه المساجين بما حدث، أم يتركهم يأكلون الوجبة من دون أن يكشف عن هذا السر، لئلا يكون مصيره الموت. ولئلا يفقد ذلك السجين القابع في الزنزانة القدرة على الكلام، راح يتحدث مع الذباب والحشرات، متمنيًا لو يكون ذبابة، أو حشرة، يستطيع الدخول والخروج مثلها من هذا الجحيم، حتى أن بعض المساجين كانوا يفقدون عقولهم، وتصل بهم الأمور إلى حد الصراخ، وسب جلاديهم، فيحاول الأصدقاء إسكاتهم، ولو بالقوة، فصراخ وجنون الضحية يعد جرمًا خطيرًا في دولة البعث، لأنه يعني التحرر من سلطتها، وكأنها دولة الرب، التي لا يجد العبد أمامها إلا أن يشكرها على كل حال، حتى لو تم انتزاع رموش العيون، ومعه لا يستطيع السجين تحمل وجع اطباق الجفنين على بعضهما، مما يضطره إلى النوم وهو في حالة اليقظة لليال طويلة، أو حين تسحق أطراف الأصابع ويتفجر الدم منها، جراء الضرب عليها بالحذاء العسكري، كما روى واحد من السجناء، ذلك الحذاء الذي بات يقدسه الشبيحة مؤخرًا.
وقبل المشهد الأخير من الفيلم، تسلط الكاميرا على المعتقلين وهم نيام، والرؤوس تصطف إلى جانب الأقدام، وكأنهم جثث مرمية في مقبرة تركت مكشوفة في العراء، فلا أرواحهم تتحرر منها، ولا عبارات المناجاة المكتوبة على ذراع ذلك السجين أمكن لها أن تصل إلى الرب، وكذلك حال المشاهدين، لا يجدون إلا الدموع مخلصًا لهم من جحيم العيش في زمن الطغاة. كان حضور لقمان سليم، وحديثه عن الفيلم أمام الحضور قد كنس صبغة العزاء والحزن عن الخيمة التي أقيمت لعرض فيلم "تدمر" بتلك الطاقة الحيوية والجرأة التي تمتع بها، هذا الحضور، حينذاك، لم يزل يشع، ويحول دون إمكانية موته، سيما وأن ذاك الحضور، وتلك الجرأة، مارسها وسط الأراضي اللبنانية المرتعشة خوفًا من إمبراطورية القتل والتصفية.