في جمالية أعمال فنية غير منتهية

تغريد عبد العال 22 سبتمبر 2021
تشكيل
"موت مارات" Marat death - جاك لويس ديفيد

 

 

"هناك فرق كبير بين عمل كامل وعمل انتهى، لأن العمل الذي اكتمل لم ينته، والشيء الذي انتهى كليا لا يحتاج لأن يكون كاملا"- هذا ما قاله شارل بودلير. فمتى نقول عن عمل فني إنه انتهى بشكل كامل؟ وما الذي يلفت في هذه الأعمال ويجعلها كاملة أحيانا في نظرنا؟ قد تكون هناك أسباب كثيرة لعدم الاكتمال، كالموت والمرض والانتقال إلى مشاريع وأعمال أخرى وقد تكون هناك أسباب غيرها. فعندما توفي كافكا عام 1924، ترك روايته "القلعة" غير منتهية عند منتصف الجملة، وكان قد أوصى صديقه ماكس برود بحرق جميع مخطوطاته عندما يموت، لكن برود نشر الرواية بعد موته مدركًا أهميتها مما جعلها فيما بعد من أفضل روايات كافكا.

في الفن أيضًا تعطينا الأعمال الفنية غير المنتهية انطباعًا آخر عن عمل الفنان والعملية الإبداعية لأن السبب في عدم الانتهاء يعود أحيانًا لعوامل فنية تتعلق بنظرة الفنان للوحته أو شخصيته الفنية ومزاجه. وقد يضيف لنا هذا العمل الفني أشياء أخرى، فلا نعود نراه وكأنه غير مكتمل وندرك قيمته الجمالية.  

فلا أحد يدرك أن لوحة كلود مونيه "آنية الزهور" غير منتهية. لكن مونيه كتب في إحدى مراسلاته أنه لا يستطيع أن يعبّر عن الضوء الذي يحيط بالأزهار والأوراق بشكل يرضيه، مما جعله يضيف كل مرة بعض اللون، فبقيت اللوحة أربعين عامًا معلقة على جدار في مرسمه. ولكن ما الذي جعله يقتنع فيما بعد ويضيف توقيعه عليها؟ سؤال ربما لم يستطع فنانو ذلك القرن الإجابة عنه. ربما لأن أحد الأسباب التي تمنعهم من اكتمال أعمالهم هو شخصيتهم الفنية، واحد من الأمثلة هو الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي الذي كانت موهبته الفنية وراء طموحه لبلوغ الكمال قافزًا من لوحة لأخرى ومن مشروع لآخر دون أن يكمله، وهو ما جعل كاتب السيرة جيورجيو فاساري يكتب عنه قائلًا: "إنه لا ينهي الأعمال الفنية لأن اليدين بالنسبة له لا تستطيعان أن تنجزا الكمال الذي يتخيله". وهكذا ترك ليوناردو لوحته "افتتان المجوس" غير مكتملة، ليبدأ بلوحة أخرى في ميلانو. لكن هذه اللوحة غير المكتملة، تعطي انطباعًا ما لدارسي الفن ومؤرخي الفن عن العملية الفنية لدافينشي، لا سيما وأن العمل يظهر الخطوات العملية لصناعة هذه اللوحات، في الطبقات اللونية، وكما عبّر جامع اللوحات كيلي بوم عام 2016  في معرض "غير منته"، فإن الصورة غير المنتهية من شأنها أن تُظهر لنا خلفية اللوحة وما تم إخفاؤه.

"افتتان المجوس" -  ليوناردو دافينشي


ومثل دافينشي أيضًا الفنان بارميجانينو، الذي أمضى سنوات كثيرة وهو يعمل على لوحة "مادونا وعنقها الطويل" ومات قبل أن يكملها. أما اللوحة الغريبة التي طرحت أسئلة حول الفن فهي لوحة "موت مارات" Marat Death التي رسمها الفنان جاك لويس ديفيد عام 1793، ومارات هو شهيد في الثورة الفرنسية، وكانت هذه اللوحة قد استخدمت كبوستر وحملها الفنان في أحد شوارع المظاهرة؛ وكان في عجلة من أمره فلم ينه اللوحة، فبقيت الخلفية غير منتهية تغطيها طبقة رقيقة من الألوان. وقرأ دارسو الفن هذه اللوحة غير المكتملة على أنها شبيهة بحياة مارات القصيرة والتي لم تكتمل، وهي الآن في متحف اللوفر في باريس.

وترك الفنان النمساوي غوستاف كليمت لوحات كثيرة غير منتهية، منها لوحة "العروس" التي تعكس كم يعمل كليمت على الطبقات الداخلية للأجساد العارية التي يرسمها، وهناك أيضًا لوحة بورتريه ريا مونك التي انتحرت بعد فشل علاقتها العاطفية مع حبيبها وكلفت والدتها كليمت برسمها، فرسمها واقفة تنظر إلينا وتبتسم، لكنه لم يكمل الفستان والخلفية واكتفى برسمهما بالفحم الخفيف، وهذا ما أعطى لنا فكرة عن تقنيات كليمت وطريقة رسمه، وأظهر أنه كان عفويًا وجريئًا، فقد رسمها مباشرة بدون عمل بروفات ولكن بدون أن يكملها.

وبالنسبة إلى تمثال "ديفيد أبوللو" لميخائيل أنجلو الذي اختلف الجميع على هويته، يقال إن التمثيل الرخامي بدأ كتمثيل لديفيد التوراتي ولكن أنجلو حاول أن يحوله ليصور أبوللو الأسطوري، ثم ترك التمثال غير مكتمل فيما بعد لكن سيعرف دائمًا بـ"ديفيد أبوللو". كان أنجلو قد رسم ونحت أعمالًا كثيرة ولم ينهها كما كان يفعل ليوناردو دافينشي، مثل لوحة "مانشستر مادونا" التي رسمها عام 1490 والتي توحي بالكثير عن طريقة أنجلو في الفن، فقد لاحظ دارسو الفن أنه كان يرسم الشخصيات على حدة، جاعلًا اللون الأخضر كخلفية للجسد أو كلون الجسم. وما لاحظه مؤرخ الفن جيورجيو فاساري حول أعمال أنجلو غير المكتملة أنه كان يتركها وأحيانًا يخربها لشعور داخله بأنها ستبدو غير كاملة. وأصبح ذلك فيما بعد أسلوبًا جماليًا لفناني النهضة مثل أنجلو ودافينشي وداناتيللو أن يتركوا أعمالهم غير مكتملة وأصبح هناك مصطلح يطلق على هذه الأعمال Non Finito. ومع تقدم الانطباعية في القرن التاسع عشر، ذهب فنانو هذه الحقبة نحو التعبير عن حساسية الفنان وليس دقة المشهد، مثل أعمال ديغاس ومانيه وفان غوخ.
 

"منعطف الطريق"  بول سيزان



"وابي سابي"

تكون هذه الأعمال تجريبية، هذا ما تقوله لنا أعمال بول سيزان التي رسمها عام 1905  بعنوان Turning Road أو "منعطف الطريق"، والتي ترك أجزاء كبيرة منها غير ملونة. قد نشعر لوهلة ما أن هذه الأعمال غير منتهية ربما لضعف في بصر الفنان وخصوصًا أنها لا توحي في أي وقت من النهار تعكس، ولكن سيزان فضّل أن يترك فراغات بين الألوان لأنه كان مقتنعًا أن الأقل هو الأكثر، وهذا يأخذنا إلى مفهوم الفلسفة اليابانية "وابي سابي" أي "إيجاد الجمال في عدم الاكتمال"، وهذا المفهوم مشتق من تعاليم البوذية التي هي على عكس الفلسفات اليونانية القديمة وخاصة أفلاطون الذي كان يعتقد أن الفن تقليد للقداسة والألوهية.

تُقدِّم فلسفة "وابي سابي" اليابانية نموذجًا جماليًا مضادًا للنموذج الجمالي الغربي الكلاسيكي الذي يسعى للمثالية. "إيجاد الجمال في الأمور الناقصة الفانية وغير المثالية"- هكذا عرّف ليونارد كورين "وابي سابي" في كتابه: "وابي سابي.. للفنانين والمصممين والشعراء والفلاسفة". و"وابي سابي" هي فلسفة جمالية يابانية ترتكز على ثلاثة مبادئ أساسية هي: لا شيء يدوم وكل شيء في حالة تغير مستمر، لا شيء ينتهي (يكتمل)، لا شيء مثاليًا/ كاملًا. وقد ظهرت في نهايات القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر في اليابان كرد فعل مضاد لانشغال المجتمع الياباني وقتها بالجمالية السائدة والمعنية بالزخرفة والفخامة والمواد الغالية، وبرزت بشكل خاص في طقوس تقديم الشاي في تفضيل استخدام الخزف الياباني التقليدي البسيط على الصيني المثالي المتخم بالزخارف، وربما برزت كنتاج طبيعي لمجتمع يواجه الكثير من الزلازل والكوارث الطبيعية بشكل شبه معتاد كمحاولة للتصالح مع تهديدات الطبيعة وتقبلها والبحث عن الجمال فيها، والسير وفقا لقوى الطبيعة ومسار الزمن لا ضدهما.

تمثال ديفيد أبوللو - ميخائيل أنجلو 


واستمرت تلك الأفكار وتأثيراتها على الفنانين حتى النهضة حيث صار الفنانون يعانون لبلوغ الكمال، وبرزت فيما بعد أعمال كثيرة وأمثلة أخرى عن كيف يصبح الفن غير المنتهي جميلًا، فقد رسمت الفنانة أليس نيل التي كانت تدعو الغرباء كي ترسمهم جيمس هانتر عام 1965. ولكن في هذا العام أثناء حرب الفيتنام، دعت السلطات الأميركية الكثيرين إلى الخدمة، وكان جيمس منهم. فغادر ولم يستطع العودة ولم تنته الفنانة من رسم البورتريه فقد رسمت الوجه واليدين وأضافت تخطيطات سريعة للجسد ولكنها وضعت توقيعها عليه وتركته غير مكتمل. فأعطى هذا العمل الإحساس بأن الفن يكمل طريق الأشخاص حتى حين يغيبون وبالرغم من أن العمل لم يكتمل.

ولكن كما يقول ليوناردو دافينشي "الفن لا ينتهي، إنه يترك"، كذلك هي لوحات كثيرة منتهية ولكن غير كاملة، كأن الكمال طريق طويل قد لا ينتهي، ومن هنا نشعر أن بابًا سريًا يفتحه هذا الفن أمامنا أو أي فن كان، ربما يتركنا نكمل اللوحات بخيالنا، أليست كذلك هي الفراغات والمساحات البيضاء والصمت الذي تحتاجه اللغة والحياة؟

اعتاد الفنان جان ميشيل باسكيات على كتابة كلمات على لوحاته ثم على شطبها، وعندما سُئل عن ذلك أجاب: "أنا أشطب الكلمات كي ترونها أكثر، فحقيقة كونها مطموسة تجعلك ترغب أكثر في قراءتها"، أو كما قال سلفادور دالي: "الأخطاء في معظم الأحيان ذات طبيعة مقدسة، لا تحاول تصحيحها، بل على العكس، حاول أن تفهمها بدقة ثم حاول أن تصقلها"!