الأصالةُ في أفقِها المُنْفَتِح.. نماذج من الفن التشكيلي العربيّ

محمد جميل خضر 25 سبتمبر 2021
تشكيل
جدارية الريف للفنان حسن عبد الرحمن حسن (حسن الشرق)
يتجلّى الإغراق في المحليّة عند الفنان التشكيليّ المصريّ حسن عبد الرحمن حسن (حسن الشرق)، بوصفه أنموذجًا فذًّا للكيفيةِ التي يفتح عبرها هذا الانصهار آفاقًا كبرى نحو العالمية.

الموهبة الساطعة، الفطرة الصادقة النقيّة، الانتباه الذوّاق للتفاصيل المحيطة والبيئة الحاضنة، الالتقاط الفطن، الابتكاريةُ الخلّاقة، التفاعل البنّاء، الحساسية الشفيفة. ثم، وربما الأهم، اللحظة المفصلية الفارقة، المتعلقة بانبثاق فرصةٍ مواتيةٍ قد لا تتكرّر، عناوين صنعت مجد حسن الشرق. ولكن العنوان الذي يستحق ألَّ التعريف المُكتفية بذاتِها لِذاتها هو تلك الأصالة المتشرنقة داخل يرقات روحه محمّلة بانفتاحٍ بريءٍ من الادّعاء و(الفذلكة) نحو الآخر، نحو كل من يتقاطع معه ويهجس هواجسه داخل حدود محليّته. إنها الأصالة في أفقِها المنفتح، الانتماءُ في زيِّهِ الخالي من التعصّب والفوقيةِ والتقوقعِ المريض.
سار عليه قبله، ومعه، وسيسير بعده، الفطريونَ الطالعونَ من رحيقِ القمح، وسعْف النخيل، وأنغامِ الميجنا، وتضاريس الفلاة، وتوهّج الشمس، وأغنيات المراكب، وترانيمِ الفَناء، وفسحةِ الفِناء، وتغندُر البرتقال، وبياضِ القطن، وتورّد التفاح، وتخندقِ القثّاء، وأسرارِ الطريق الساحليّ، وسعادة القهوة المجبولة بالقات، ورموزِ اللحظة المتحققةِ في زمانٍ بعينِه، ومكانٍ دون غيرِه.



عبد الحيّ وآدم وحسن

حسن الشرق يذوب في مفردات بيئته 


في صعيديْن كبيريْن: النحت والرسم، يصعد لِما أرمي إليه من محلية تفتح آفاق العالمية ثلاثة فنانين: الفنان الفلسطيني/ الأردني عبد الحيّ مسلّم (1933 ـ 2020)، والنحّاتُ المصريّ آدم حنين (1929 ـ 2020)، وحسن الشرق (1949)، موضوع انتباهِنا هُنا، ومحرّك حروف هذا المقال والمقام.
هذا لا يعني أنهم وحدهم من صنع هذا المعنى، وأقام هذا الجسر الممتد حتى لكأنه لا ينتهي، فمهندس عِمارة الفقراء المصري حسن فتحي (1900 ـ 1989) خاض قبلهم غِمار المتح من المعطيات حوله، محوّلًا إياها إلى قيمٍ معماريةٍ عالمية كبرى. وغيرهم جميعهم ممن لا أعرفهم، أو لم تتح لهم توافقات لحظة استثنائية كبرى تقيّم جهدهم، وتصنع ما يستحقونه من مجد حفروه بما أنجزوه.



نشارة الخشب وأشياء العطّارين

الفنان عبد الحي مسلّم 


من نشارةِ الخشب التي منحها المخرج السينمائي الفلسطيني، محمد مواس، لقب نشارة الذهب، صنع عبد الحيّ مسلّم، ابن قرية الدوايمة، قضاء الخليل، مجده ولحظته التشكيلية الفطرية الفارقة.

دار أم عبد الحي (عبد الحي مسلم)

ومن وصفات العطّارين: أحمر مخللات السفرجل، وأزرق (التفت) الذي يستخدمه الخيّاطون لحياكة شال النساء في بر الصعيد، وجريد النخل للتلوين، صنع حسن الشرق خلطته السحرية الخاصة. ومن الطوب اللبِن، صنع حسن فتحي أسرار عِمارته. ومن المساحة المُطْلقة للحجر (الغرانيت على وجه الخصوص) والشجر (النخل على وجه الخصوص)، والتمازج المدهش بين النحت والعمارة، يصنع آدم حنين، بعيدًا عن أي مدرسية مدّعاة، لحظته الفارقة: (أنا ما عنديش مدارس ومعنديش نقلات) بلهجته المصرية التي نخبرها جميعنا.




إنّها المثابرة، إنّه الحدس الدؤوب والتلمّس العميق الذي لا يملّ ولا يكلّ ولا ينحني.

المعماري حسن فتحي 


وباستثناء الدرجات الأكاديمية التي حصّلها فتحي، والدرجة الأكاديمية الأولى التي حصّلها حنين، ابن أسيوط وحيّ باب الشعرية، من جامعة القاهرة، فإننا نتحدث عن شِبهِ أمّية، وتجلياتِ إبداعٍ فطرية بالنسبة لمسلّم والشرق.




أما القاسم المشترك الأعظم بينهم جميعهم فهو العودة لمقدراتنا فوق أرض وجودنا، النّهل من خصوصياتنا، والذوبان في أقصى سمات محليّتنا، فإذا بنا ننتزع احترام كل الآخرين، ونجعلهم يقرّون أننا لسنا جميعنا أبناء مدرسة "أبولو" (مع احترامي للشّابي، وكثيرٍ من شعرائها)، أو أحفاد طه حسين (مع احترامي لبعض تنظيراته وخصوصية حياته).

طوبة حمراء بروح حسن فتحي 


منشور الخشب هو انكباب على خصوصية ملتقطة من المحيط، واستثمار هذه الخصوصية في صناعة فنية لا تشبه غيرها، ولا تقلّد سواها، ولم تقع أسيرة لمدارس جاءت مع الاستعمار، وتغلغلت عبر أدواته وسلطته وأبواق التهليل له.
هضم أكاسير اللون الطالع من شجن الطبيعة حولنا، وطحنها وخلطها وتوضيبها بما يعجز عنه غيرنا، كما فعل حسن الشرق، هو انتصار لِما نحوزه بين أيدينا، وما يمكننا بأقل التكاليف، وأكثر تجليات الانتماء ترفّعًا عن التقليد، أن نحققه بفهمنا لطبيعة محطينا وخصب معطياتنا.
أمّا الموضوعات التي تناولها الفطريون؛ رسّامون ونحّاتون ومعماريون وصانعو أمل، فهي حكايات الناس وهمومهم واحتياجاتهم وأشجانهم وأوجاعهم وتطلعاتهم.

خطوط تروي الحكايات وتلون الموروث (حسن الشرق)


حسن الشرق يخوض في قصص الشاطر حسن، و(أبو زيد الهلالي)، ويلوّن مفردات الثقافة الشعبية الصعيدية الفلّاحية في المنيا، وما حولها، وبرّ الصعيد، على وجه العموم، وفي جداريته الأهم ضمن مسيرته "جدارية الرّيف"، يرسم مقاربة خصبة للفارس المقدام، للتحطيب (المبارزة بالخشب النبّوتي الصّلب)، للآلات الموسيقية الشعبية، مثل الرَّبابة والنّاي، للخيل الأصيلة، لِلاعب الحجلة، للسّيجة، لجنيِ القُطن، لِسقيِ الحقول، للأغاني الصوفية والرباعيات الشعرية.




عبد الحيّ مسلّم يتناولُ "شمّ النسيم"، و"السّامر"، و"صيام رمضان" و"العودة من كرومِ العِنب والتّين". ومن الأعمال اللافتة لوحته: "دار أم عبد الحي"، حيث يرسم بيته في القرية التي عاش فيها حتى عام 1948، وكانت الصبايا تتجمّع فيه كل يوم، لأنه يخلو من الرجال إلا من عبد الحي، الذي كان يتسلّق شجرة الرّمان ويستمع إلى أحاديث النساء اللاتي يرددن:
"يا حِلو خلّيني رقّ البصل والثوم لا أُوكل ولا أشْرب ولا ييجِي عَ بالي النّوم" (سامر إسماعيل، "ضفة ثالثة"، 29 كانون الثاتي/ يناير 2017).
إنها جميعها موضوعات طالعة من أصالة الحضور، محلقة نحوَ أقاصي الحوار.
أليس هذا ما حقّقه حسن فتحي صاحب صرخة "آنَ الأوانُ لإنقاذِ الفقراءِ من مساكنِهِم"، خلال مسيرته المعمارية المتوّجة بالمجدِ كلّه؟
أليست هي هواجس حسن الشرق الذي حوّل أوراق تغليف اللحم في ملحمة أبيه (جزّار القرية) إلى خامات رسم مستقلّة عن الحاجة للغريب؟
أليست مساعيه في تحويل أنّات أموات قريته زاوية سلطان (15 كيلومترًا شرق المنيا) إلى موجباتِ حياةٍ ممهورة بعمارة تلك القبور وتناغمها مع حضارات قديمة رومانية وقبطية وإسلامية؟
زاوية سلطان (أو زاوية موت) بسبب المقبرة الممتدة فوق هضبة ارتفاعها، شكّلت ثيمةً حيّة وحيويةً في مفردات لوحاتِ حسن الشرق، وبعض هواجس انتصاره على أوجاع مكانه وزمانه.



أحزانٌ مشتركة

خلطة لونية لا تشبه غيرها  (حسن الشرق)


يشترك المبدعون الفطريون بأوجاعٍ واحدة: إثباتِ الهويّة، وإنقاذِ المحيطِ الغارق بأوجاعِ التحققيّة، والانتصارِ على مزاعمٍ دونيةٍ استعماريةٍ كولونياليّة.
مسلّم حقق هويةَ أبناءِ قضيّتِهِ بأعمالٍ تنتصر لذاكرةِ ما قبل احتلالِ فلسطين. لنسائهِ الذائباتِ في الخشبِ الذائِب، الذاهباتِ لِما كان يطلبهُ زمانُ ما قبلَ الاحتلالِ من مطالِب. للرّقص في العرسِ الكبير، لمشيخاتِ الرجّال الصابرينَ على الأسى، وللتفاصيل الموغلةِ في التأصيلِ لِزمانٍ غيرِ زمانِ الصّهاينة. لِنهجِ البلاغةِ في تصويرِ عناوينِ الفَراسة، لكيفَ يأتي الفعلُ من دونِ مدرسةٍ ولا دِراسة.




الشّرقُ حقّق هويّة أبناءِ الصّعيد بتمجيدِ حكاياتِهم، ورسم ملامحِ صبواتِهم، وتفجيرِ ممكناتِ وجوهِهم ووجودِهم. صاغهم كما كبرَ داخل شغفِ حكاياتِهم. لوّن أساطيرَ صراعِهم مع أنفسهِم وموجباتِ الاختلافِ حولَهم. أصغى لأسرارِ مقبّرة تزنّر الجبلَ شرقَ قريتِه، نقّب عن عرائسِ الماءِ في دروبِ النّيل، حلُمَ فإذا بالحلمِ يصبحُ سيمفونيةً عاليةَ المدّ، وإذا بالمستشرقةِ تنصفه حين لم ينصفه أحدٌ غيرها.
هي الحكاية نفسها يروي فصولها حسن فتحي بلسانِ وليام ر. بولك، فإذا ببيوتِ الطينِ تصير أغنيةً ونشيدَ بقاء.



الاستشراقُ الأمين
في حالةِ حسن الشّرق، تجلّى الاستشراقُ المهنيُّ الأمينُ بوصفه منارةَ بحثٍ وعِلْمٍ وأكاديميا.
فها هي المستشرقة الألمانية أورزولا (أو أورسولا سيّان) شيورنج، وأجزم أنها مدفوعةٌ بالشّغف، تسعى نحو حَسن، تسأله هل صحيح ما يقولونه عنك أنك ترسم، يجيبها: نعم أرسم. يركض نحو صندوق جدّته الذي قال عنه راوي فيلمٍ أنتجته "الجزيرة الوثائقية" حول فنان المنيا ومصر والعالَم، تحت عنوان: "حسن الشرق: صانع الألوان" إنه كان يجمع فيه كل ما يرسمه، فإذا بهذا الصندوق يتجلّى بوصفه كنزَه الثمين الذي يشعره في قرارة نفسه أنه سَيفتح ذات يومٍ، فيخرجُ منه كلُّ هؤلاء الأبطال الذين جسّدهم في رسوماته، يطوفون به الدنيا، ويأخذونه إلى عالمٍ رحبٍ لطالما حلُم به..
يقول الشّرق حوْلَ هذه التجربة: "جاءتني سيدةٌ أجنبيةٌ، وسألتني هل صحيحٌ أنك ترسم.. أجبتها نعم، صحيح. وأحضرت صندوق جدتي (كنزي). أخرجتُ ورق اللحمة (الشرقُ كان يرسمُ على الورقِ الذي كان والده يغلف به اللحمة التي يشتريها زبائنُه)، فإذا بي أرى في عيونها أعمالي بعين ثانية وروح جديدة.. قالت لي سأقيم لك معرضًا في القاهرة.. بعد 15 يومًا من انطلاق المعرض كانت نصف الأعمال المعروضة فيه قد حجزت.. وكانت المرّة الأولى التي تكتب فيها الصحافة عنّي وعن فني وأعمالي، وأوّل مرّة تجري التلفزيونات فيها معي مقابلات.. قفزة العمر، سلّمي نحو العالمية.. ألمانيا كانت عتبتي الكبرى نحو باقي دول أوروبا والعالم.. كتبوا: افتتاح معرض لفرعوني القرن العشرين.. بسبب طريقة كلامي وجدية ملامحي وخصوصية صوري و(بورتريهاتي).
الفلاح الطالع من برّ الصعيد يروي كيف اقتحم المدينة من أوسع أبوابها: "كل هذا المجد مكّنني من دخول المدينة من أوسع أبوابها، بعد طول إقامتي في القُرى.. نلتُ مفتاح المدن الذهبي الذي يقول لي اتفضّل يا (باشا) ادخلها بسلام آمنًا مظفرًا.. المدينة حقك قبل غيرك، وهي بيتك الجديد.. شكرًا أورسولا".
فهل التحوّل من القرية إلى المدينة شكّل مطمحًا جوهريًّا عند هؤلاء الفطريين؟ لا أعتقد. ولكنّ حسن الشرق، على وجه التحديد، الذي لم يحصّل من التعليم إلا مرحلته الإعدادية، وواظب على الجلوس فوق تلّة القرية المحاطة بالنيل والمقبرة، رأى في كل هذا السطوع، وفي أخذ أعماله له نحو أربع جهات الأرض، ومنحه الدرجات الفخرية (الدكتوراة وغيرها) من أرقى الجامعات العالمية، وتحويله القارات جميعها إلى قرية صغيرة تقول فيه القول نفسه، وتركض نحوه الركض نفسه، وتهلل له التهليل نفسه، جعله كل هذا وذاك، يفتتن بما أنجزه، ويبتهج لكيف صارت المدن تستقبل فتحه العظيم لها واقتحامه أسوارها.
ملعقة الشاي الصغيرة مع نشارة الخشب والغِراء صنعت في مسيرة عبد الحيّ فارقًا لن ينتهي بالتقادم، حيث سلاح الطيران يتحوّل إلى فرصةٍ للتحليق، وحيث البيت الصغير في جبل القصور وسط العاصمة الأردنية عمّان يتحوّل إلى مزار. وفي الحالتين: حالة عبد الحيّ مسلّم، وحالة حسن الشرق، فإن النساء هنّ أكثر الزائرين، وأكثر المحتفين بتلك الخلطة النادرة من الفطرة النقيّة واللغة الفنيّة الجماليّة العالية والمتفرّدة للتعبير عن الذات وهواجسها.




يقول الشاعر والروائيّ رسول حمزاتوف (1923 ـ 2003) في كتابه "داغستان بلدي" إن العالمية تبدأ من أصغر حارةٍ في قريتي تسادا الآفاريّة البعيدة النائية شرق القوقاز.
هكذا رآها (العالمية) المبدع الذي سنّ الشِّعر فوق نصل خنجره، وجاب البلاد جميعها ليعود إلى دفء بيته: "شيئان في هذه الحياة يستحقان الصراع، وطن حنون، وامرأة رائعة".



مداراتُ الخلود

أسلوبية خاصة تعزف على وتر واحد (حسن الشرق) 


من موسيقى الصعيد والغيطان، نبتت ألوان الفنان المصري الفطري حسن الشرق: (ولا كل من شد اللجام فارس.. ولا كل من سحب اللجام بارز.. ولا كل من ركب الحصان خيال). من رباعيات الشعر ومواويل الحكايات. من لحظة فارقة صنع بها خلطة ألوانه الباقيات (أكد مختبر في كولومبيا أن الألوان التي يصنعها حسن الشرق تملك ثباتية تؤهلها للصمود آلاف الأعوام). يشترك المبدعون الفطريون بأنهم خارج حسابات المدرسية الجامدة، يتمردون خارج شرنقة التقوقع، يجعلون البحر جسرًا نحو الضفة الأخرى. عبد الحيّ يغوص في نفسه وذاكرة بيته المغتصب. آدم يشرب المدى حوله ثم ينقشه عِمارة باقية. حسن الرّسام يحمّل الجلابية والشال سمة عالمية، أتقن تصوير الحيوات النابضات في برّه السعيد، فإذا به نسيج وحده وفريد في منهجه، هو المدرسة وما سبقه من تاريخ الفن تجديف. وأما حسن المعماريّ فقد انحاز من دون هوادة للفقراء، قرّبهم منه ومن عالمهم حولهم فإذا بالطوب الأحمر رصيدًا، مستفيدًا من المُتاح (فلسفةُ المُمكن)، وباحثًا عن حلولٍ لِمن يظلّ البيتُ المستقلّ، أو البيتُ (المُلْك)، أو البيتُ الكَريم، طوالَ حياتِه، مجرّد حلمٍ بعيدَ المَنال. صنع فتحي عِمارته، تمامًا كما صنع الشرق ألوانه، وكما أطلق مسلّم العنان لِنشارته، وكما لا يزال آدم حنين يُبْحِرُ في سفينتِه.