"من القاهرة".. كيف تنجو النساء بمصر من الخوف؟

أريج جمال 4 أغسطس 2022


قبل بضعة أيام من وقوع جريمة قتل فتاة مصرية، داخل حرم جامعة المنصورة، الجريمة التي قسمت الرأي العام بعنف في مصر، بين مُبررين للجريمة، ونساء مرتعبات من نفس المصير، وأظهرت شيئًا من البؤس الذي تعيشه الإناث في العالم العربي، كُنا مجتمعين في سينما زاوية، لمُشاهدة الفيلم التسجيلي "من القاهرة"، ضمن عروض أيام القاهرة السينمائية. الفيلم من كتابة وإخراج هالة جلال، إنتاج قسمت السيد، وتصوير إيناس مرزوق وقسمت السيد ومصطفى بهجت وجون حاتم، ومن مونتاج آية يوسف، وقد فاز بجائزة أفضل فيلم تسجيلي في مسابقة آفاق السينما العربية، في الدورة الماضية لمهرجان القاهرة. ويتحدث الفيلم بالأخص عن الخوف، ويبدأ وينتهي بسيرة خوف النساء من الحياة في القاهرة (كمجاز بكل تأكيد للحياة في مصر، لأنه في القاهرة على الأقل قد تحظى النساء ببعض الحرية، إذا ما قورن وضعهن بمدن أخرى بعيدة بطريقة أو بأخرى عن العاصمة).

إذًا، ممَ بالضبط تخاف النساء؟ تُحصي مخرجة الفيلم، في دقائقه الأولى، قائمة بالمخاوف اليومية التي تعيشها: خوف من الخروج إلى الشارع، من قيادة السيارة، من مواجهة الحياة، الحياة في شوارع تقول عنها المخرجة إنها تخلو تمامًا من كلمات الود والغرام التي تملأ الأغنيات وشرائط الصوت في الأفلام (بعضها تُزين به هالة جلال فيلمها، وتستخدمه لخلق نوع من الحنين إلى عالم وردي، لسنا أصلًا على يقين من وجوده). تختار صانعة الأفلام، التي لا تستسلم بكل تأكيد، أن تواجه مخاوفها، بصورة يومية أيضًا. إنها تعيش ما يشبه الحرب، بينها وبين ذلك الفزع اللانهائي.

في رحلتها تلك، رحلة صناعة الفيلم، تلجأ هالة إلى فنانتين أخرتين، من جيلين مختلفين؛ هبة خليفة الفنانة التشكيلية والمصورة، وآية يوسف المونتيرة. في لحظة معينة، تتركهما تتحدثان، ربما بالنيابة عنها، عن رحلتيهما، ويصفان لها ولنا، كيف ابتكرت كل منهما وصفتها لهزيمة الخوف مؤقتًا، من أجل أن تتحرك ولو قيد أنملة على الطريق.

آنذاك، أي عندما كانت هالة جلال تصور فيلمها، كانت هبة خليفة مشغولة بالعمل على مشروع تصوير فوتوغرافيا، أسمته "صُنع في البيت"، وكانت الثيمة الرئيسية لهذا المشروع هي علاقة الفتيات والنساء بأجسادهن. رتّب المشروع على هبة، أن تستقبل النساء، ليس فقط في بيتها في وسط البلد، مع ابنتها الصغيرة ورد، التي تقول عنها بشكل دال "ورد خلّفتها بعد الثورة"، لكن أيضًا أن تستقبلهن داخل متن حياتها ومخاوفها. فتصوّر إحداهن مرة، وهي تحت تأثير الدبابيس الحادة، التي تشوّك الجسد، أو تحت تأثير نوبات الصداع الذي يتجسد في الصورة على شكل غراب، إنه بشكل ما نوبات التفكير الزائد، الذي يُنهك صاحبته ولا يصل بها إلى حل.

المخرجة هالة جلال خلال التحضير لتصوير الفيلم



"ينتهي الغلاء حين تتحجب النساء"!

كان العنوان أعلاه أحد الشعارات التي سادت لسنوات طويلة، لا سيما قبل ثورة 2011. كتبها أشخاص ينتمون إلى تيارات سلفية وأصولية، في رد فعل عكسي على القهر السياسي والاجتماعي الذي كان سائدًا في ذلك الوقت. من المعروف أن الضغط السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يولّد بطبيعة الحال ضغطًا مُضاعفًا على النساء والأطفال. منذ ذلك الحين، لم تنتهِ الملاحقات لأجساد النساء وشعورهن، والرغبة المُعلنة في تحجيبهن، أي حجبهن عن الفضاء العام. لا تكمن المشكلة فيما حاولت تلك السلطة، التي تتخذ الشكل الديني الذكوري، فرضه على حياة النساء، أو حياة أفراد المجتمع عمومًا، لكنها تتجسد بصورة أبشع في قناعة النساء أنفسهن إزاء أجسادهن، وفي التبني اللاشعوري لهذه الصور السلبية عن الجسد، ما يستدعي في حالات الوعي بالأزمة محاولة الصُلح بين الجسد وصاحبته، لأن حربًا كتلك لا يُمكن أن تتسامح معها الحياة.

تقول الكاتبة الفرنسية مونا شوليه في كتابها "ساحرات" Sorcières الذي صدر للمرة الأولى عام 2018 (وتُرجم إلى العديد من اللغات، ليس من بينها العربية حتى الآن!) إن الكثير من الأفكار النمطية السائدة عن النساء، يعود تحديدًا إلى الممارسات الهوسية التي تمت ضد النساء، حين اتُهمن في فترة عصر النهضة الأوروبي وما بعد ذلك، بممارسة السحر، فنُكل بهن إلى أقصى حد، واختُرعت طرائق متنوعة لتعذيب أجسادهن، قبل إعدامهن نهائيًا، وذلك من أجل التخلص من الشرير الذي ظل رابضًا، مع كل ذلك هناك، في عقول جلاديهن. تزعم شوليه أن جذور الخوف من أجساد النساء، يعود إلى هذه المرحلة. لكن ماذا نفعل، ونحن في العالم العربي، لم ندرس بعد موضوع ساحراتنا بشكل كافٍ، بل وما زال بعض مُردّدي الخطاب الديني يرون النساء ساحرات، يكمن في أجسادهن شبح الشرير، أو إبليس حسب الاصطلاح العربي، ويُريدون من الآخرين والأخريات أن يرونه على هذه الحال.

إن كانت هبة خليفة قد اختارت محاولة فك تعقيد هذه العلاقة مع الجسد بالفن، فإن آية يوسف، البطلة الثانية، حاولت أن تجد حلًا آخر باللجوء إلى الرياضة، وهو حلّ تعترف مخرجة الفيلم نفسها بأنها تحسد آية عليه، فلم تستطع في أي مرحلة من مراحل حياتها أن تلتزم بالرياضة، كما تفعل الآن آية.

تعلمت آية من الرياضة ألا تستسلم للسقوط، وأن تجاري الرِتم السريع لرياضة "الدربي"، التي مجددًا لا يعترف بها الأشخاص من حولها. إنها عُزلة مزدوجة! "طالما مفيش كرة يبقى دي مش رياضة"، تتحدى آية بهذه الممارسة، التي يمكن أن تنجم عنها إصابات يهوّل منها دائمًا الآخرون من حولها تصورات المجتمع حتى عن شكل الرياضة، ولا صوت يعلو في مصر فوق صوت كُرة القدم.

لقطة من الفيلم



عالم بلا رجال

لكن أين هو الرجل من هذه المحاولات، محاولات الصلح مع الذات؟ تُعلّق هالة جلال على جلسة الرجال في الشارع، وهم يُحدقون في الكاميرا التي تمرّ، والكاميرا تُمثل المخرجة في هذه اللحظة، قائلة إنها تشعر بالمُراقبة طوال الوقت: "كأني مستنية نمرة"، نوع من التقييم على الهيئة والمظهر، لكن ذلك التقييم، يمتد بطبيعة الحال إلى أسلوب الحياة، وإلى الموقع من الحياة الاجتماعية.

هكذا يبدو الرجال في فيلم "من القاهرة"، برغم نظراتهم المُتطلعة إلى بطلاته وحضورهن الجسدي، مجرد ضيوف شرف، وكأن هذا العالم الذي نتحرك خلاله ليس سوى عالم بلا رجال، ومن واجب النساء فيه إعادة ترتيب حيواتهن على فكرة الوحدة. تروي هبة خليفة شيئًا عن طلاقها المُبكر بعد إنجاب ورد مباشرة. وتُشير آية، فيما تتحدث عن الفيلم الأول الذي تحاول تحقيقه، إلى شخصية سمر، التي تعرّفت عليها بعد أن انتقم منها حبيبها السابق، بتشويه وجهها بماء النار. تسعى سمر منذ سنوات إلى تجاوز صدمتها، وتسعى آية كذلك معها بصناعتها للفيلم. إن الرجل هنا مصدر خوف، وليس مصدر أمان، كما كان يقول المجتمع للنساء.. وإن كان سيُسند له أي فضل، فسيكون أنه بغياب دوره الإيجابي يقدّم العامل المُحفّز لارتجال أولئك النساء نمطًا جديدًا من الحياة، يقوم على التعاضد لتعويض إما نقص الحُب، كما تبوح بعض بطلات مشروع هبة "صُنع في البيت"، وإما ربما للهرب منه، فالحُب مثل كل شيء في القاهرة، تعرض للتلوث وإساءة الاستخدام. بطريقة تبدو معها لقطات المانيكانات الحبيسة في فاترينات المحال، كأنها نساء مسلوبة الإرادة والحياة.

تتنقل البطلات بين القاهرة وبيروت ودبي، في محاولة للاستمتاع بالمُتاح من الحياة. تُحرض الأغنيات التي يستعين بها صُناع الفيلم، والمُنبعثة بطريقة ما من إذاعة الأغاني، على الاستمتاع كذلك بالفيلم، رغم الهم الذي تحمله بطلاته، وليس هناك مَخرج مُحتمل منه. بالمثل، كانت ضحكة الصغيرة ورد، وقفشاتها، وبراءتها في الأسئلة والإجابات، وسيلة أخرى لربط المُتفرجين بالفيلم، رغم اعترافات بطلاته القاسية في بعض الأحيان. ألا تمنحنا ورد أيضًا بعض الأمل، عن إمكانيات أخرى أكثر بساطة وسعادة لجيل جديد من النساء في مصر؟

جاء "من القاهرة" مشحونًا، وبدا طويلًا وهو الذي لم يمتد زمنه للساعة والربع، إنها حياة كاملة تلك التي يحاول تكديسها في شريط قصير صُناع الفيلم، حياة تشبه بكل تأكيد القاهرة.