"ماراثون": حين يحكي الفيلم فكرته من دون كلام

أحمد طمليه 14 يونيو 2024
سينما
الفيلم إنتاج عام 2005، من إخراج يوون شول شونغ
أتيح لي، مؤخرًا، أن أشاهد، ضمن عروض إحدى الملحقيات الثقافية في عمان، الفيلم الكوري الجنوبي "ماراثون".
ما إن دخلت القاعة وجلست على المقعد حتى اكتشفت أن الفيلم غير مترجم، وأن مشاهدته ستتم بلغته الأم، وقد أقلقني هذا الأمر إلى أن بدأ العرض، إذ لاحظت أنني أبحر في آفاق سينمائية واسعة، وأن آخر ما أحتاجه للتواصل مع الفيلم هو الحوار، أو فهم الحوار، فثمة أدوات تعبير عديدة تعبر عن نفسها بنفسها، وها أنذا أكتب عن الفيلم من وحي تلك الأدوات، والإيماءات والتداعيات، من دون أن أعتمد على كلمة واحدة نطقت في الفيلم.
تدور قصة الفيلم حول فتى مصاب بمرض "التوحد" يعيش وسط أسرة مكونة من أب وأم وشقيق، ولكنه يحظى برعاية خاصة من أمه، التي لا تريد أن تصدق أن ابنها معاق وهي تمعن النظر فيه وتتلمسه بيديها، وتنظر في عينيه فتعرفه ويعرفها فكيف له أن يكون مختلًا عقليًا، ومصابًا بذاك المرض الذي يدفعك لأن تعيش وحدك، وتحدث نفسك، وتتحاور مع ذاتك، وتقوم بتصرفات لا تليق، كأن تأكل بشراهة، وقد تخلع ملابسك الداخلية في الطريق، وقد تمد يدك إلى امرأة لمجرد لمس الخطوط اللامعة المرسومة على بنطالها من الخلف. الأم لا تصدق ذلك، وترى ابنها هو الأجمل. تحاول أن تعلمه كيف يبتسم على نحو صحيح، وتظل تكرر على مسمعه كلمة: ابتسامة... ابتسامة... وتحرك أثناء ذلك شفتيها على النحو الذي تبدو فيه وكأنها تبتسم، ولكنه يبتسم ببلاهة، فهو لا يتحكم بالقدرة على تحريك شفتيه، فتأتي الابتسامة دائمًا بلهاء، ناهيكم عن عجزه عن التحكم بلعابه الذي يسيل.
ومع ذلك، فالأم مؤمنة بولدها حتى عندما يداهمها المطر، وهما في الطريق تقول له: مطر... إنها تمطر، لكنه يعجز عن ترديد ما تقوله، فتكرر بصوت عال: مطر... مطر... إنها تمطر، وتستمر في ذلك، والدموع تسيل من عينيها، بينما ابنها المتوحد عاجز عن إدراك ما تقصده، أو ما الذي تريده منه بالضبط.
الابن المعاق مفتون بأمرين: الزرافة، والعدو، أي الركض لمسافات طويلة، وهذا ما يحمس والدته لأن تذهب به إلى أحد المدربين ليدربه على الركض، ويقودها حظها إلى مدرب هو نجم سابق في العدو يشعر بالمرارة ويقبل المهمة بتردد، لأنه مرغم على أداء خدمة اجتماعية نتيجة صدور حكم ضده بسبب قيادته سيارته وهو مخمور. فيتولى المدرب مهمته على مضض، ويكاد أن يسخر من حركات الفتى البلهاء، بل إنه في إحدى المرات يسرق منه طعامه، ولكن شيئًا فشيئًا يدرك المدرب أن في أعماق هذا الفتى المعاق ثمة إنسان يحب الحياة، تمامًا كما نحبها جميعًا، وذلك حين يركضان سوية تحت المطر، فتنفرج أسارير الفتى، ويبدو للحظة فتى طبيعيًا مثلنا، يستمتع بالمطر، ويلهو بالهواء وهو يداعب وجهه، فيمسك المدرب بيد الفتى فيجدها دافئة، مسكينة، أحوج لمن يضمها لا لمن ينهرها، وفي لحظة تجل يسحب الفتى يده من يد المدرب، ويبدأ بملامسة أوراق الشجر، على حافة الطريق وهو يركض، كأنه سوف يطير والسعادة تشع من عينيه، وحين يصلان وقد ركضا مسافة طويلة يتمددان على الأرض وقد نال منهما اللهاث مناله، غير أن الفتى يتحرك نحو حقيبته، ويحضر ماء لمدربه الذي تصدمه هذه اللفتة من الفتى المعاق، ويدرك إنسانية هذا الانسان، وكم هو طيب، وصاف من الداخل.
قلت إن الفتى مسكون بالزرافة وألوانها، وهذا ما يقودنا إلى مشهد من أكثر المشاهد تأثيرًا، وذلك عندما يتواجد الفتى وأمه في سوق مكتظة بالناس: تذهب الأم لشراء شيء ما، فيلمح الفتى بين الزحام ألوانًا تشبه ألوان الزرافة، فيقترب منها بحذر وسط المجاميع، ويمد يده إليها فيكون بذلك قد مد يده على مؤخرة امرأة ترتدي تنورة بألوان الزرافة، فتصرخ السيدة وينظر الجميع نحو الفتى بدهشة، ولكن الفتى بريء يواصل النظر إلى تنورة المرأة، حيث ألوان الزرافة، ويحاول أن يمد يده من جديد، فيباغته زوج السيدة بلكمة قوية على وجهه تطرحه أرضًا، تحضر الأم ويصعقها المشهد، فتهجم على الرجل مثل النمر المفترس ليرفع يديه عن ابنها المسكين وهي تكرر بصوت عال: مريض، إنه من ذوي الاحتياجات الخاصة. وهنا تقشعر الأبدان، حيث يصرخ الفتى وهو يجهش بالبكاء: أنا حالة خاصة... أنا حالة خاصة. أي إدراك هذا الذي تجلى في ذهن الفتى الذي يلمس المطر بين يديه ويعجز عن إدراك أو النطق بأن السماء تمطر، وأية إنسانية تلك التي تجاوزت إعاقتها وراحت تدافع عن نفسها، أو تعزي نفسها! إنه مشهد لا ينسى يسجل للفتى الذي قام بالدور، والذي قيل إنه أمضى في مصحة نفسية فترة من الزمن كان فيها يراقب المصابين بمرض التوحد، حتى أتقن تصرفاتهم، فبات وكأنه واحدًا منهم، لا يستطيع أحد أن يميزه عن المصابين فعلًا بمرض التوحد.
مشهد آخر لا يقل أهمية، حين تصاب الأم بوعكة صحية شديدة، ترقد بسببها في المستشفى، ونرى الفتى وهو ينظر إليها من خلف الزجاج وفي عينيه توسل أن تصحو قليلًا، في هذه الأثناء تمطر السماء، فيخرج الفتى ويقف تحت المطر، ويكرر ما كانت تقوله له أمه وهو صغير: مطر... مطر... إنها تمطر... إنها تمطر.




ونصل إلى ذروة المشاهد، حين تصحو الأم ذات يوم فلا تجد ابنها، فتخرج للبحث عنه، وبعد عناء تجده، حيث سيقام "ماراثون" كبير يشارك فيه الآلاف من المشاركين، تتوسل إليه أن لا يشارك، فصحته لا تسمح، لكنه يتوسل إليها بعينيه، ويتم المشهد وهما واقفان وسط مجاميع المشاركين. تشعر الأم أن قلب ابنها مع المشاركين، وأنه يتمنى أن يطير معهم، لكن قلبها لا يطيعها، فتمسك بيده في ما يحاول هو أن يسحب يده ويرجوها بعينيه أن تعطيه الفرصة... لحظات تمر إلى أن تنهار الأم أمام توسل ابنها فتنطلق يده لينطلق مع المشاركين، ويا لها من مشاهد ونحن نراه يركض... ويركض... يداعب أوراق الشجر على حواف الطريق. وتكبر الصورة، ويهيأ لنا وكأن الأرض تركض معه، والسماء تحلق فوقه، والأشجار تدور حوله... يركض... ويركض... إلى أن ينال منه التعب فيقع على الأرض، لكنه في أعماقه يريد أن يتحدى ويستمر، نرى الحزن في عينيه واللهاث يملأ صدره، وفجأة ينهمر المطر فيقف على قدميه كطير يزهو بجناحيه ويطير... المطر والركض وشهيق وزفير هي الحياة نستنشقها... هي الحياة نوشك تحت المطر أن نلمسها، وبين الشجر أن نحضنها... يتمكن الفتى من الوصول إلى خط النهاية، وهذا ما يعد إنجازًا، فيحلق حوله أهله: أمه ووالده وشقيقه ومدربه. فيطلب الأب أن يلتقط لابنه صورة، فيدعوه لأن يبتسم... فيتذكر حركة الشفتين التي لطالما تمنى أن يتقنها، ولكن هذه المرة تنفرج شفتاه من تلقاء نفسها معلنة عن ابتسامة ولا أجمل... وينتهي الفيلم.
ما سبق عرض للفيلم الكوري ماراثون أكتبه من دون الاعتماد بتاتًا على الحوار، فالصورة في حد ذاتها كانت تحكي عن نفسها. تجربتي مع هذا الفيلم تجعلني أقول إن الفيلم الحقيقي لا يحتاج إلى ترجمة بصرف النظر عن جنسيته ولغته. أما الأفلام الهابطة التجارية فإن السهو عن مقطع واحد من الحوار يجعلك غائبًا تمامًا عن مجريات الفيلم.
كما أن مشاهدة هذا الفيلم تثير الانتباه إلى أن أول ما يخطر في ذهن المشاهد عندما يقبل على مشاهدة فيلم أجنبي، وخاصة أسابيع الأفلام التي تعرضها الملحقيات الثقافية في السفارات العاملة في عمان هو: هل الفيلم مترجم؟ على النحو الذي يوحي أن الترجمة هي أداة التواصل الوحيدة ما بين المشاهد والفيلم، مع العلم أن الترجمة تقتصر فقط على الحوار، وفي عالم السينما، فإن الحوار هو أداة واحدة من ضمن أدوات كثيرة للتواصل، فهناك الصورة، والأداء والإيحاء، والتعبير، والديكور، والموسيقى التصويرية، وغير ذلك من أدوات التعبير التي يستطيع المخرج عبرها أن يوصل فكرته من دون أن ينطق بكلمة واحدة.
وهذا يدل على أن الاعتماد على الترجمة، أي الحوار في الفيلم، يشير إلى أن السواد الأعظم من الأفلام المتاحة للجمهور هي أفلام تعتمد وسيلة واحدة للتعبير، وهو الحوار. وهنا، أقول إن الفيلم الذي يعتمد بشكل أساسي على الحوار هو برأيي فيلم ضعيف فنيًا، كونه يفتقد إلى أدوات التواصل الأخرى الأكثر بلاغة وتعبيرًا.
الفيلم إنتاج عام 2005، من إخراج يوون شول شونغ. ويعد واحدًا من أهم الأفلام الفنية عالميًا، وما زالت كوريا الجنوبية تحتفظ به كتحفة إبداعية، ولا تتوانى عن الدفع به لتمثيلها في المهرجانات السينمائية العالمية.