قراءات

"العقرب" للإيراني حسين مرتضائيان آبكناز: صوت من الجهة الأخرى

لؤي حمزة عبّاس

5 نوفمبر 2017
 

أعدّ مشاركتي في الحديث عن رواية إيرانية حدثاً فارقاً وعلامة مميّزة من علامات حياتي، فأنا أنتمي لجيل عراقي عاش كبرى تجاربه وأهمها على الإطلاق في حرب الثمانينيات الطاحنة، وتبلور وعيه بعيداً عن حقول الموت التي وجد نفسه فيها، ولطالما فكّرت أن إيرانياً مثلي لا شأن له بالحرب ودعاوى عدالتها، لا تشغله سوى حياته التي تتهشم، وها هي أفكاري تتجسد بين يدي كاتب لم يسبق لي معرفته هو حسين مرتضائيان آبكناز، وهو في الوقت نفسه الإيراني الذي فكرت به حتى عرفته معرفتي أصدقائي القريبين، وسمعت صوته وهو يستعيد بعض مخاوفي، وعندما أتحدث اليوم عن روايته فأنا في الحقيقة أحدثكم عن تجارب الصبي الجندي الذي كنته، وتجارب الكاتب الذي صرت عليه، فرحلتي الكتابية هي نوع من مطاردة الصبا الذي أضاعته سنوات الحرب المريرة.

ليس من الغريب أن تأخذنا نوفيلا "العقرب على أدراج سلم محطة أنديمشك" (ترجمة حسين طرفي عليوي) لمواجهة واحدة من أعقد مشكلات الثقافة العراقية على امتداد أربعة عقود، وهي النوفيلا القادمة من الجانب الآخر لجبهة حرب الأعوام الثمانية بكل عنفها ووحشية تفاصيلها، وربما لأنها قادمة من الجانب الآخر سيكون بمستطاعها الكشف عن المشكلة، فليس للحرب سوى وجه قبيح واحد وأحزان كثيرة.

تخرج "العقرب". على سلطة الخطاب المؤدلج، محدّد الاتجاه والدلالة، لتنتج قولها الخاص وتكتب عالمها، عالم حربها الذي يحيا بعيداً عن الأناشيد والنياشين والأضواء والبطولات، تختار الظل للتعبير عن قسوة التجربة التي ذاق مرارتها كلٌ من شريكي الدمار على جانبي الجبهة، فعلى الجانبين كان ثمة خوف مرير من موت مجاني لا معنى له ولا مسوغ، وفي الجبهتين حسرة من ضياع العمر بلا قيمة ولا جدوى، الخوف والحسرة لم يكونا حاضرين في كتابة المشهد الرسمي، فلا مجال لهما في أدب تعبوي كُتب "للرقص على أكتاف الموت"، حسب عنوان أولى روايات الحرب على الجانب العراقي، ولا وقت للحسرة والخسران في مقام البطولة والانتصار العادل على الجانبين.

تتوقف الحرب بما يشبه الحلم الممض، وتنحسر غيوم الكتابة المؤدلجة كأنها لم تكن، ويدور الزمان دورته فتُكتب رواية إيرانية وتترجم إلى اللغة العربية وتطبع في دار نشر عراقية وها أنا أتحدث عنها، في حدث لا يخلو من سخرية من الحرب وأدبها المؤدلج، معنى آخر للبطولة تستحضره "العقرب" لم يكن مسموحاً بكشفه والتعبير عنه، بطولة الجندي الذي يستعيد وقائع انكساره عبر لحظات كابوسية غير منتظمة، فالحرب تشوش الذاكرة وتربك انتظام الوجود لتنتهي في مشاهد هي الأكثر تعبيراً عن رؤية الجندي المنكسر لحرب ليست حربَه على أية حال. الجندي مرتضى هدايتي يواصل رحلته في عالم كافكوي (مليء برائحة الدم والحديد)، في فصل أخير من فصول حياته العسكرية، ويعيش تفاصيل تبدو غريبةً وغير مفهومة لمن لم يعش جانباً من الحرب المجنونة على الجبهتين حتى ليبدو واحداً من أبطال عدم الإرادة الذين لايمثل الفعل التراجيدي بالنسبة لهم غير الصورة المثلى لما عانوا من تجارب وما خبروا من أهوال.

يقدّم الأدب المؤدلَج مرويته للوقائع التاريخية بحسب ما تمليه عليه المؤسسة المؤدلِجة فيتلبس رؤيتها وينطق بلغتها ويتمثل خصائصها ويُجرِّد، بذلك، خطابه من بعده الإنساني، البعد الأهم بين ما ينطوي عليه الأدب من أبعاد.

عبر الأيديولوجيا وممارساتها التعبوية تعيد السلطة توجيه تجاربنا بما تنتج من خطابات وقد جعلت منها أداة من أدوات القوة ووسيلة من وسائلها، إن الخروج على مقولات السلطة في رواية "العقرب" يُعيد للخطاب صوته وبنيته الشعورية ويمنحه فرصة الحياة خارج أفق التجربة ومحدودية زمنها وأعبائها التاريخية منتقلاً من قول السلطة إلى سلطة القول. إن الاستجابة، بالمقابل، لمحددات التوجه الأيديولوجي في الأدب تزوير للأدب وتشويش لما ينتجه من تمثلات، وهو في النهاية إضعاف للصلة المؤثرة بين الأدب والحياة، فعلى امتداد ما يقارب العقد بقي أدب الحرب في كل من إيران والعراق خاضعاً لإرادة السلطة مستجيباً لرؤيتها في عدّ الحرب شرطاً وطنياً دفاعياً لا بديل عنه يلغى معه كل شرط فردي في الممارسة والحياة، ومصداق ذلك ما قرأناه في مدونة أدب الحرب في العراق التي استجابت لرؤية السلطة وخضعت لشروطها ومقومات إنتاجها، لكن نوعاً آخر من الأدب أنتج آلياته بما يمثل الوجه الخفي، غير المصرّح به، من رؤية الحرب على الجانبين، وها هي رواية "العقرب" تقدم أنموذجاً لهذا النوع الذي اختار أن يكتب مرويته على وفق رؤيته الخاصة ويسعى للخلاص من عبء الحرب مثلما سعى حسين مرتضائيان آبكناز للخلاص من عبء خطابها، فيقدم خطاباً تراجيدياً مفعما بحضور إنساني محبط في لحظة تاريخية هي الأصعب في حياة كل من العراق وإيران، يراهن على تحقيق مساحته التعبيرية الواسعة، فهو إيراني بحكم اللغة التي كتب فيها، وهو عراقي بحكم ما أنتجه من موقف صريح ضد الحرب وآلتها العمياء، وهو إنساني، بالضرورة، طالما انشغل بالإنسان وحده كاشفاً كوامن نفسه ومعبّراً عن أوجاعها.

 

 *كاتب من العراق

 

(ورقة قدمت في البيت الثقافي، البصرة بتاريخ 2/ 11 بمناسبة صدور الترجمة العربية لرواية العقرب)