قراءات

"اللغة والفلسفة اللغوية العربية" لجرجي زيدان:علامة فارقة في حقله

بدر الحمري

4 ديسمبر 2017

كتاب جرجي زيدان "اللغة والفلسفة اللغوية العربية" الذي نشر في طبعته الأولى سنة 1886، وأعاد نشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في طبعته الأولى، قطر، يوليو/ تموز 2017، في إطار مشروع سلسلة "طي الذاكرة" الذي يقوم به المركز، وهي سلسلة تهدفُ إلى إخراج الكتب من طي النسيان إلى طي الذاكرة؛ هذا الكتاب يحمل كثيراً من الأفكار تحتاجُ بدورها إلى إعادة نظر، أو بمعنى أصح إلى إعادة "تذكير"، نظراً لما تحتويه من تصورات حول اللغة عامة، واللغة العربية بصفة خاصة، كشفت عن قيمة التفكير النهضوي الذي تميز به الكاتب، ودقة نظره إلى قضايا اللغة والواقع الاجتماعي.

المؤلف السابق يجمع بين دفتيه كتابين، الأول تحت عنوان "الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية"، والثاني عنوانه "تاريخ اللغة العربية". وسنكتفي في هذا المقام بالحديث عن الكتاب الأول.

منذ بداية الكتاب يعلن زيدان أنّه يرفع دراسته إلى أهل النظر والتحقيق لمزيد من التأمل والنظر، بمعنى أنّ كتابه ليس لعامة المثقفين الذين لم يأنسوا كتب النظر العقلية، فما بالك بكتاب ينظر في دقيقة لغوية تنتمي إلى المباحث اللغوية العقلية المحضة. أما الإشكال العامّ للكتاب فهو: كيف نشأت اللغة العربية وتكونّت؟

للإجابة عن هذا السؤال، وبعد تحديد مفهوم اللغة العربية، دار البحث فيه حول خمس قضايا، تتلوها خمس نتائج، أما القضايا فهي:

1- الألفاظ المتقاربة لفظاً ومعنى هي تنوعات لفظ واحد، وأن هذه التنوعات قد حصلت بموجب ناموسين عظيمي الاعتبار هما: القلب والإبدال؛ الأول – القلب - يميل إلى تخفيف اللفظ أو التفنن فيه. والثاني – الإبدالُ - يأتي نتيجة علة طبيعية في أعضاء النطق في أول الأمر، ثم بالاستعمال تحفظ التنوعات، وربما خصصوا كل تنوع لفظي بتنوع من المعنى الأصلي، ويشبه ذلك ما حدث في العامية المصرية.

2- الألفاظ المانعة الدالة على معنى في غيرها إنما هي بقايا ألفاظ ذات معنى في نفسها؛ والدليل أن استقراء هذه الألفاظ في لغات متفاوتة يري أنها تقرب من الدالة على معنى في نفسها بقدر ما تبتعد من الاتقاء والتهذيب حتى نصل أخيراً إلى أدنى اللغات، فنراها خالية من الأدوات والحروف على الإطلاق، ولكنها تستخدم بعض الأفعال أو الأسماء لقضاء وظيفتها... من ثمة صحّ أن الاشتقاق والتصريف مثلا حادثان في اللغة يتبعان بيئة الأمة التي ينتميان إليها فقط. أما أصل الألفاظ فهو البساطة، ثم تتكاثر بارتقاء تلك اللغة. وعليه يستنتج الكتاب أن اللغة العربية من أرقى اللغات بياناً.

3- الألفاظ المانعة الدالة على معنى في نفسها يرد معظمها بالاستقراء إلى أصول ثنائية أحادية المقطع تحاكي أصواتاً طبيعية؛ حيث تشتمل على الاسم والفعل وما يشتق منهما، وإن ردهما اللغويون إلى أصول ثلاثية أو رباعية، فإن الكتاب ردها إلى أصول أقل من ذلك، تحاكي أصواتاً طبيعية ومن كون ألفاظ اللغة من شأنها التغير والتنوع لفظاً ومعنى، على أن الألفاظ المانعة الدالة على معنى في نفسها يرد معظمها إلى أصول ثنائية أحادية المقطع تحاكي أصواتاً  طبيعية.

4- جميع الألفاظ المطلقة كالضمائر وأسماء الإشارة ونحوها قابلة الرد بالاستقراء إلى لفظ واحد أو بضعة ألفاظ؛ حيث تمكنُ الدلالة بواحدة منها على أي نوع من الموجودات، تشمل الضمائر واسم الإشارة والاسم الموصول، مع العلم أن هذه الألفاظ كما لاحظ جرجي زيدان تكاد تكون واحدة جميعها، وأنها من الأدلة الواضحة على وحدة الأصل فيها. كما يؤكد أن تحسن الإشارة عند الاقتضاء إلى أوجه المشابهة بينها لعلها تسعفنا في تتبع الأصل المتفرعة عنه كل هذه الفروع.

5- ما يستعمل للدلالة المعنوية من الألفاظ، وضع أصلاً للدلالة الحسية ثم حمل على المجاز لتشابه في الصور الذهنية؛ وبالتالي فإن الدلالة الحسية هي الأصل والمعنوية هي الفرع، حملت مجازاً لتشابه في الصور الذهنية لأن المحسوسات كما يؤكد جرجي زيدان هي أول ما تستلفت انتباه الإنسان، وهي سابقة في ذهنه على المعنويات لأنه في أبسط أحوال عيشه لم يكن في احتياج إلا للمعاني الحسية.

ومن النتائج التي خلص إليها الكتاب، الآتي:

يلاحظ جرجي زيدان أن الاختلافات الموجودة بين اللغات، إنما ترجع إلى ما عليه اللغة من التعرض للمؤثرات الخارجية التي طالما غيرت ولم تزل تغير من سائر أحوالنا، عملاً بناموس الارتقاء العام. وهذا الاختلاف في الألفاظ يلاحظ في الأمة الواحدة لعلة طبيعية في أعضاء النطق. ومن الأمور المثيرة التي يتوقف عندها الكتاب أن اللغة العربية من أسمى اللغات السامية التي تعد معرفتها ضرورية لإتقان أخواتها. وقد كانت محصورة في شبه جزيرة العرب، فلما زهر الإسلام أخذت في الانتشار إلى أن ملأت الخافقين بسبب الفتوح الإسلامية المشهورة، فامتدت من الشرق إلى الغرب بين أواسط الهند وبوغاز جبل طارق ومن الشمال إلى الجنوب بين البحر الأسود وبحر العرب... فعمت معظم العالم المتمدن في ذلك الحين. ولولا القرآن لاستقلت لغة كل شعب حتى لم يعد الشعب الآخر يفهمها كما حصل في فروع اللغة اللاتينية، لكن محافظة المتكلمين بالعربية على لغة القرآن والرجوع إليها في ما يكتبونه ويخطبون فيه جعل لغاتهم المولدة مرجعاً يجمع لغاتهم إلى أصل واحد لا يخفى. ثم مسألة أخرى يؤكدها جرجي زيدان، أن اللغة أصولها قليلة، محاكاة من "الطبيعة" أو أصوات "الغريزة"، ومن هذه الأصول القليلة نشأت الأفكار وتعددت الألفاظ بتعدد احتياجات المتكلمين بها، وتعدد أشكال التعبير ومعاني الألفاظ بتنوع الأحوال.

إنّ تعدد الألفاظ وأحوال التعبير جرت على طرق أهمها أربع، بحسب جرجي زيدان: النحت والإبدال، والقلب والاستعارة، وقد حصل ذلك قبل أن تفترق اللغة العربية ولا تزال في حجر أمها وبعبارة أخرى قبل افتراقها عن أخواتها السامية العبرانية والسريانية وغيرهما، أي إذ كانت هي رهن لغة واحدة.

وقصارى الكلام، أنّ التفرعات والتنوعات والأدوات اللغوية وطرق الاشتقاق والتصريف قد بلغت معظم ارتقائها في أزمنة غاب عن الإنسان حدها. لكن الأسئلة التي تبقى قائمة في هذا السياق كلها تدور كلها حول منشأ أصل اللغات السامية أو الآرامية التي توصف بكونها "أم اللغات"؟.

خلاصة القول، إنّ كتاب جرجي زيدان "اللغة والفلسفة اللغوية العربية"، يعدّ علامة فارقة في الدراسات اللغوية العربية في عصر النهضة، وقد أحسن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بإعادة إصدار هذا الكتاب نظراً لأهميته التاريخية والمعرفية والفلسفية اللغوية، لأن مسألة اللغة العربية وإنعاشها وتطورها - كما جاء في المقدمة - باتت شديدة الحيوية اليوم في عصر متسارع يكادُ يبيد كل قديم.