قراءات

التراث الأدبي الألباني:خلفية تجاهل أو ازدراء المؤثرات الشرقية؟

يبدو أن ثنائية الشرق - الغرب المفتعلة، التي تغذّي على الدوام النزعة المركزية الأوروبية، لا تزال راهنة وستبقى كذلك ضمن حالة الاستقطاب التي تميّز الأكاديميين والمثقفين في العالم الألباني، خاصة في ألبانيا وكوسوفو، التي تنعكس في مقاربة التراث الأدبي الألباني وفي الدراسات المختلفة التي تسعى إلى تجاهل كبير وحتى إلى ازدراء المؤثرات الشرقية (بالتحديد العربية الإسلامية) في الأدب الألباني التي جاءت نتيجة لحوالي 500 سنة من الحكم العثماني.

وكان الفتح العثماني لبلاد الألبان قد مدّ مفهوم "الشرق" حتى ساحل البحر الأدرياتيكي مع انتشار الإسلام والثقافة المرتبطة به لدى غالبية الألبان على مدى عدة قرون، ومن ذلك كتابة اللغة الألبانية بحروف عربية وظهور أدب جديد أطلق عليه "الأدب الألباني بالأبجدية العربية"، وهو الذي عالجناه في كتاب صدر عن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية في 1983. لكن هذا الأدب الذي يحمل جديداً كان ضحية الإيديولوجيا بعد استقلال ألبانيا عن الحكم العثماني في عام 1912، خاصة بعد وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم (1945-1990) ثم موجة "الأوربة" التي اجتاحت ألبانيا، وانعكاس كل ذلك على كوسوفو التي استقلت عن صربيا بالتدريج خلال 1999-2008.

في هذا السياق صدر مؤخراً في العاصمة الكوسوفية بريشتينا كتاب بمقاربة نقدية غير مألوفة لهذه النزعة التجاهلية أو الازدرائية للمؤثرات الشرقية في التراث الأدبي الألباني. صحيح أنه كانت لدينا قبل ذلك أصوات ومقالات هنا وهناك، لكن أن يكون المؤلف هذه المرة مدير أهم المؤسسات البحثية في كوسوفو (معهد الدراسات الألبانية) فهذا يوجّه رسالة مفادها بأن الوقت قد حان لإعادة النظر في هذا الموقف السلبي أو الإيديولوجي من المؤثرات الشرقية في التراث الأدبي الألباني. 

كل ثقافة تأخذ وتعطي

ينطلق د. حسين ماتوشي في كتابه "مقاربات ألبانولوجية" (بريشتينا، معهد الدراسات الألبانية 2016) من الوضع الجيوسياسي والجيوثقافي للبلقان ذاته، للتدليل على أن الحالة الألبانية ليست استثناء في هذا المجال. فالبلقان كان على الدوام "نقطة التقاء وافتراق بين الإمبراطوريات والشعوب والثقافات والأديان والمصالح الإقليمية والدولية"، وهو ما أدى إلى تفاعل الثقافات بين الشعوب المختلفة، ولذلك فإن "الثقافة الألبانية لا يمكن أن تكون خارج هذا السياق". وبالاختلاف مع المقاربة الإيديولوجية القومية، التي تركّز وتُبرز ما هو أصيل أو مؤثر لدى الثقافات الأخرى، يسلّم د. ماتوشي بأن هذه العلاقات الثقافية التي تنعكس على الأدب ليست باتجاه واحد بل باتجاهين، أي أن كل ثقافة تأخذ وتعطي. ومن هنا ينتقد د. ماتوشي "التوجه غير الصحيح وغير العلمي" الذي يعترف فقط بوجود مؤثرات ألبانية في الثقافات/ الآداب الأخرى ولا يعترف بوجود العكس.

في هذا السياق يوضح د. ماتوشي خصوصية الألبان، سواء في موقعهم بين الشرق والغرب أو في انتشار الجاليات أو التجمعات الألبانية الكبيرة في عمق الشرق والغرب، ومن ذلك الجالية الألبانية الكبيرة في عاصمة الدولة العثمانية (إستانبول) أو الجالية الألبانية الكبيرة في جنوب إيطاليا. وحسب المؤلف فإن الجالية الألبانية الكبيرة في إستانبول، التي كانت تضم نخبة من المثقفين والكتاب الألبان، كان لها دورها في "استفادة الأدب الألباني من التقاليد الأدبية للشرق"، كما أن الجالية الألبانية الكبيرة في إيطاليا كان لها دورها في التعرف على التيارات الأدبية الجديدة في الغرب (الرومانسية) خلال القرن التاسع عشر. وبعبارة أخرى ينتهي د. ماتوشي إلى التسليم بأنه في الوقت الذي لم تنقطع فيه وسائل التواصل مع الأدب الأوروبي المجاور فإن الصلة الوثيقة لم تنقطع أيضاً بين الأدب الألباني وآداب الشرق خلال قرون الحكم العثماني.

"أدب الأبيات"

على الرغم من القيمة الإبداعية للأدب الألباني الجديد الذي نشأ ضمن هذا التواصل مع آداب الشرق، إلا أنه تم تجاهله وازدراؤه بإطلاق اسم "أدب الأبيات" عليه. و"الأبيات" هنا جمع لبيت الشعر الذي قامت عليه القصائد العربية التي كانت تجمع في دواوين للشعراء، وهو ما أصبح يطلق على هؤلاء أيضا "مدرسة الديوان". فحتى الفتح العثماني كان الأدب الألباني القديم، كما يوضح المؤلف، تسود فيه فقط الموضوعات الدينية (المسيحية)، بينما أصبح الأدب الألباني الجديد المكتوب بالأبجدية العربية يحتوي لأول مرة على موضوعات عاطفية واجتماعية وفلسفية وساخرة وعلى القصص الشعرية وحتى على الملاحم الشعرية.

ومع ذلك ينتقد د. ماتوشي بقوة "المقاربة الأحادية" أو "النظرة الانتقائية" لمؤرخي الأدب في ألبانيا بعد الاستقلال عن الحكم العثماني، خاصة خلال الحكم الشيوعي 1945-1990، التي كانت تعتمد على "مدى انسجام الكاتب أو الشاعر الذي يراد دراسته مع المسار الإيديولوجي المعاصر". فقد كان من الطبيعي بين المثقفين أن يتقبل البعض وأن يرفض البعض الأفكار الماركسية الجديدة، وأن يُحسب البعض على اليمين أو على اليسار، ولكن مع وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم أصبح الكتّاب الذين عارضوا الحزب الشيوعي يُحسبون ضمن "أعداء الشعب"، وهو ما أدى إلى تغييبهم جسدياً بالاعتقال والسجن والموت البطيء أو معنوياً بحذفهم من كتب تاريخ الأدب.

ومن ناحية أخرى نظر الحكم الجديد إلى "الأدب الألباني بالأبجدية العربية" بتحفظ شديد لما يتضمن من موضوعات دينية (إسلامية)، ولذلك أخذت المقاربة الإيديولوجية الجديدة تعمل على ازدراء هذا الأدب والتقليل من قيمته الإبداعية. وقد وصلت هذه النزعة في "قاموس اللغة الألبانية" إلى حد إطلاق اسم "أدب أصحاب الأبيات" عليه، مع توضيح ما يلي: "أبيات تعني قصيدة سيئة، أبيات دونما قيمة، أما صاحب الأبيات فهو الشخص الذي يكتب الأبيات أو الشاعر السيئ". وبالاستناد إلى ذلك، ينتهي د. ماتوشي إلى أن الأدب الألباني بالأبجدية العربية، الذي يضمّ موضوعات مبتكرة وقصائد قصصية طويلة وملاحم "يصبح حسب هذه التصورات المسبقة أدباً دونما أي قيمة فنية"، ويصل في نقده إلى القول "إن النزعة التي تقوم على تعديل أو تكييف الهوية حسب الأجندة المعاصرة أدت أكثر من مرة إلى تزوير المصدر الرئيس للثقافة القومية: الأدب".

ويقارن د. ماتوشي هنا بين هذه النزعة الإيديولوجية التي استمرت مع موجة "الأوربة" بعد نهاية الحكم الشيوعي وبين المقاربة الأكاديمية أو العلمية لهذا النوع من الأدب الأوروبي (المكتوب بالأبجدية العربية) في إسبانيا والبرتغال والبوسنة وغيرها، التي لا تزدري هذا الأدب بل تدرسه وتعطيه حقه ضمن السياق التاريخي الثقافي.

ويقدم د. ماتوشي في فصل خاص بالكتاب نموذجاً فجاً لنتائج هذا الازدراء للكتّاب الذين كانوا يمثلون ذلك التواصل مع الشرق، وهو الذي يتعلق بالحافظ إبراهيم داليو Ibrahim Dalliu 1878-1952. فعلى الرغم من كونه قد درس العلوم الدينية في إستانبول وأصبح من المعممين إلا أنه برز في الحركة القومية الألبانية المطالبة بالحقوق الثقافية وكان له الفضل بالمشاركة في تأسيس أول دار للمعلمين في اللغة الألبانية في 1909، حيث عمل فيها وتعرض آنذاك للسجن عدة مرات من قبل السلطات العثمانية، في حين أنه بعد الاستقلال في 1912 برز في الشعر الألباني كرائد للشعر الانتقادي الساخر، بعد أن طبع ديوانه الأول عام 1915 بعنوان "الدبابير الحمراء لتيرانا" ثم ديوانه "هراء الرماد" في 1922، ثم توجه إلى تفسير القرآن باللغة الألبانية ليكون في متناول الجميع. ولكن معارضته للحكم الشيوعي أدت إلى اعتقاله في 1945 باعتباره من "أعداء الشعب" إلى أن توفي في 1952.

وبسبب ذلك يأخذ د. ماتوشي على السلطة الإيديولوجية التي صنفت "تاريخ الأدب الألباني" الصادر في 1983 أنها لم تشر بسطر واحد إلى هذا الشاعر وريادته في الشعر الساخر، بينما أنصفه بأربعة سطور الباحث الكندي المتخصص في الدراسات الألبانية روبرت إلسي R.Elsie حين أصدر في 1995 "تاريخ الأدب الألباني"!

كتاب د. ماتوشي يشير إلى مشكلة جدية تقسم المثقفين والباحثين في تاريخ الأدب الألباني وتتعلق بنظرة إيديولوجية إقصائية لتراث أدبي مهم في التاريخ الألباني لسبب واحد فقط: الشرق مصدر للتخلف.