في "قُبلة الماء" لعائشة بلحاج.. بلاغة الفقد وعدمية الموقف
زهير كريم
20 نوفمبر 2020في نص "جارتي المقبرة" تقول عائشة بلحاج:
من المقبرة التي خلف بيتي
يمشي الموتى نحو نوافذي
يقفون تحتها ويغنون
تحت الضوء الشاحب لعمود الإنارة
تضيء أجسادهم الطيفية...
وهذا النص بالذات يقودنا إلى الثيمة الأساس في الديوان: الفقد، حيث تذهب الأشياء بعيدًا، ولا يمكن أن تحضر إلا على شكل أطياف، أو ندوب في القلب. فالحقل الدلالي هنا مثاليٌ جدًا،
يتوافق مع الشعور بالفقد: المقبرة، الموتى، الضوء الشاحب، الأجساد الطيفية.. حيث تختفي القدرة على الإمساك بالمادي، ويحضر الغناء باعتباره صدى الزمن، إذ يبدو كل شيء مغادرًا، وهذه المغادرة تتضمن اللاعودة، أو العودة على شكل أطياف، أو صدى أغنية تحت النافذة، في الضوء الشاحب للوجود.
الأحبة الذين كثقوب في القلب،
لا تأتي منهم سوى ريح
توجع الأبواب.
وهذه البلاغة العاطفية تتكرر في نصوص المجموعة، وهو شعور منفتح على صورة الأشياء الغائبة كلها، وليس الأحبة وحسب، أما الريح هي وحدها من يطرق الأبواب. هذه الالتقاطة تحيلنا إلى فكرة الوعي المرن، وهو يعبر عن استيعاب الأزمة الوجودية، ممزوجة بهذا الحنين الذي لا يمكن التقاط حضوره إلا من خلال الأبواب التي لو فتحت لن يجد المرء أمامه سوى الفراغ.
ويتكاثف الشعور بالاغتراب والعدمية في نصوص كثيرة أخرى داخل هذا المتن الشعري، حيث تظهر قصديات الشعري موجهة إلى موقف وجودي، يتفاعل مع نموذج الغائب، صورته التي لا تأتي إلا كونها فراغًا، هكذا يشعر من يفتح يده، ويقبضها، يفتحها ويقبضها، لكنه لا يمسك سوى الفراغ.
لست ابنة أحد
لست أحدًا
أنا طيف نساءٍ قُطّر دمهنّ.
وهذا الاغتراب بالطبع له محرضاته؛ فالقصد الشعري يتجه إلى تلك الرغبات المقموعة،
المتكلسة التي لم تجد لها نافذة لكي تطل على العالم. يحدث ذلك بسبب الإرث الأبوي، باعتباره استعارة وجودية، فيحضر دالًا مهيمنا، يقودنا إلى طبقة أعمق تنطوي على ثنائية الذكورة والأنوثة، السلطة الضاغطة، والتي تخلق دائمًا فضيلة عند الكائن مسلوب الإرادة. هي فضيلة الفرار، لكن تحقق هذه الفضيلة ليس متاحًا دائمًا، ربما من خلال الكتابة، أو من خلال الصوت، الغناء الذي ينبعث من تحت النافذة، إنه في الحقيقة صدى الزمن. تقول عائشة في نص آخر:
ورثت عينيْ أمي،
ومن أبي عمق النظرة
حدتها التي
خففت ما لمع من رغبات في القاع.
وهذا ما يجعل فضيلة الفرار هاجسًا دائمًا، سؤالًا محيرًا، أو محاولة أخيرة للنجاة، حيث تقول في نص "الهيكل العظمي لوردة":
أكتب عنه
ذلك الذي يحمل وجه أبي وصوته:
هات يدك. يقول
فأهرب.
والكتابة هنا هي الوجه الآخر لفضيلة الفرار، الصورة المناقضة للانغلاق داخل سرداب المهيمنات، حيث تقوم الكتابة نفسها بإخراج الرغبات التي في القاع. فيظهر في المجموعة صوت الأنثى بشكل واضح، إنه قبلة على الماء، والنجاة دائمًا هو في الخارج، أما الانغلاق داخل الفضاءات التي يهيمن عليها الأبوي، هي تمثيل للموت، وإن استجواب النفس لتخليصها من القيد هو المحاولة الأخيرة لنزع قناع الحكاية القديمة المكررة. هذا ما أرادت عائشة ان تقوله في النهاية!
بخفة سمكة اكتشفتْ أصلها المائي
أنزل الخطوة
خلف الأخرى
أطفو على الكؤوس ولا تفيض بي
أروي عطش غيري
وبي يباس صحراء.
*كاتب عراقي.