قراءات

هانغ كانغ.. حتى العمق لونه أبيض

في اللغة السويدية، يقولون عن شخص خام إنه أخضر، وعن شخص ساذج إن عينيه زرقاوان.
تدخل الألوان في اللغة لتقول شيئًا جديدًا، وكأن اللون عالم آخر داخلها، فما الذي تضيفه كلمة بيضاء على قلب، وصفراء على ضحكة، ووردية على أحلام؟ ربما يختلف الأمر من لغة إلى أخرى، ففي الإنكليزية أيضًا أن تقول لشخص ما أن تصير أصفر، يعني أن تكون خائفًا حد القدرة على اللاعمل. أما اللون الأبيض، الذي يمثل النقاء والطيبة، فهو في ثقافات كثيرة معنى آخر للولادة كما للموت. كما أن اللون الأزرق أيضًا ارتبط بالحزن، ففي الميثولوجيا اليونانية، يقولون إن زيوس جعل المطر يسقط لأنه كان حزينًا، لذلك ارتبط المطر بالحزن، وباللون الأزرق.
هنالك دراسات عديدة تؤكد أن كيفية رؤيتنا لبعض الألوان تعتمد على ثقافاتنا ولغتنا، فاللغة هي ما تجعلنا نميز الأطياف المختلفة للأزرق والأحمر، ففي اللغات القديمة، كاليونانية، كلمة أخضر
لم تكن موجودة، ولذلك كانت هناك صعوبة لتمييزه عن الأزرق.
ليس غريبًا أن تجد هانغ كانغ، الروائية الكورية الحائزة على مان بوكر، عن روايتها النباتية معنى آخر للبياض في كتابها (الكتاب الأبيض)، وتجعل له حكاية طويلة، تتأملها بجمال، لتؤسس بذلك معنى للولادة مقابل الموت. إن مثل هذه التأملات تطول، فتبدأ في تأمل لحظة ولادة أختها وموتها، وهي طفلة، وتنقل انطباعاتها لتشمل عصيدة الأرز، الثلج، الضحكة البيضاء في اللغة الكورية، والباب والقمر، وحتى المرهم الذي تستخدمه لترطيب الجرح. تضع الكاتبة لائحة طويلة من الأشياء، وتبدأ بسرد حكاية عنها، عما تعنيه لها وما تتركه داخلها.
وفي أحيان أخرى، تترك هانغ الأشياء تعبر عن ذاتها، لتحكي قصتها من خلالها، وكأنها تعطي لأختها حياة أخرى، مبتعدة عن السرد الروائي المتعارف عليه وكأنها تريد خلق قصة الولادة والموت من لون واحد هو اللون الأبيض. إنه كتاب يمسك بالأشياء ويلقيها في وجوهنا، لعلنا نرى كيف تلتقي في قصة أختها، أو في إقامتها في وارسو. نشعر ونحن نقرأ أننا نعيش داخل قاموس جميل، من كلمات تأخذنا نحو البياض الذي لا تمل الكاتبة من ذكره. تتذكر الملح الأبيض الذي ما إن تضعه على الجرح حتى تعلم معنى أن تقدر الأمثال التي تعلمتها.
هل تشبه الحياة تلك الكتابة السوداء على ورقة بيضاء، تتساءل هانغ وهي تتأمل الحياة
كمجموعة أسطر فوق طبقة من الفضاء الأبيض. يذكرنا ذلك البياض بالصمت، وبانسداد القدرة على الكتابة عند بعض الكتاب، لكن الكاتبة لا تصل إلى جواب في كتابها هذا، إنها تفتح أمامنا الخيال لنكتب معها الكتاب، بطريقتنا.
إنها محاولة لاستعادة حياة مفقودة عبر ثلاثية جمعتها الذاكرة، حيث تقسم الكاتبة الكتاب إلى ثلاثة أقسام، أنا، هي، وكل البياض. وهنا يشارك البياض في الكشف عن تلك الحياة المفقودة وإعطائها حياة أخرى لا تقل قيمة عن غيابها الصادم. لا نستطيع القول إن هذه هي قصة الكتاب، لكنها ربما المحور الأهم، حيث لا أحداث تتسلسل، إنما تترك الكاتبة تلك الفراغات لتجعله كتابًا أشبه بالتأملات، لتعطي لونًا واحدًا للكتاب هو الأبيض، وشخصية واحدة هي الأخت الميتة، وأما الشخصيات الأخرى فيطلون على النص من بعيد، ويغيبون فجأة. إنها تؤكد لنا في بداية الكتاب أنه بالنسبة لها تحول جذري، فهو تجربة جديدة بالنسبة لها، تجربة تختلف قبلها عن ما بعدها، ربما كتابة بين الشعر والنثر، ومحاولة للدخول عميقًا في فعل الكتابة، حيث هو فعل للتحرر من الذات بالدرجة الأولى.
ورغم أن هانغ تجعلنا نبتعد قليلًا عن طفولتها في كوريا، ونقيم معها في وارسو، إلا أننا فجأة نشعر وكأننا ارتدينا تلك الروح التي تعود إليها وهي تسرد هذا البياض، وخصوصًا عندما تذكر أنه عند زواج أحد الأبناء، فعليه أن يهدي الوالدين رداء قطنيًا أبيض. وفي حالة الوفاة، فإن الرداء يحرق. تقول هانغ، بعد أن تتحلل الثياب بتلك الطريقة، سترتديها روح. وفي نهاية الكتاب، تقول مخاطبة البياض: بعينيك سأرى المكان الأكثر عمقًا وسطوعًا، داخل زهرة ملفوف بيضاء، حيث تلتف البتلات الصغيرة لتخفي قلبها. إنها دعوة لرؤية حياتها في عمق ذاك البياض، حيث يقيم القلب.