"آخر الجنود".. هاجس الوطن والحرب بين ثناياه
محمود أبو حامد
18 مايو 2020"آخر الجنود".. هاجس الوطن والحرب بين ثناياه
محمود أبو حامد
18 مايو 2020
بناء محكم
بانزياحات مجازية واستعارات مغايرة، وفي الفضاءات ذاتها والحالة المربكة بين المعنى السائد للأرق ومعناه المستجد، يتابع البكر سرديته المشهدية في بناء هندسي محكم لا يخرج الكلمة من سياقها وقلق معناها، ولا القصيدة من منطقها الخاص.
خارج غرفته ثمّةَ حياةٌ لكنها "صامتة".. الأشجارُ مشغولةٌ بالأوراقِ الجديدةِ، وحتى النظارات لا ترى ما يقرأُه الصمتُ في كتابٍ أبيضَ بلا كلام.
#صدر_حديثا
">
|
كنزيلٍ في فندقٍ لا يسكنه أحدٌ/ منسيٌّ تمامًا/ إلا من نظاراتٍ/ لا ترى ما يقرأُه الصمتُ/ في كتابٍ أبيضَ بلا كلام/ يتحدّث عن أطفالٍ من سوريا/ حاولوا عبورَ البحرِ/ وطافُوا هناك.
ويتابع الشاعر دوائر الحكايات عن "الحكاية" ويستحضر الأصدقاء والجيران، وأطفال سورية، والأمكنة وأشياءها، والطبيعة بليلها وأقواس قزحها.. وفي مقطع القصيد الأخير، يرجع للتاريخ ويحضرُه دونكيشوت باحثًا عن فارسٍ مثله يبارزُ السهرَ في سريره.
.. يرمي رمحَه/ في الخارجِ/ يتركُ الحصانَ وحيدًا./ نبدّدُ الليلَ معًا/ ندماءَ بلا حدود/ كأن الأرقَ يدومُ إلى الأبد/ ولا يأتي من مكان.
إن هذه التقنية السردية لم تتوقف على حالات نفسية معينة كالشعور بالوحدة أو الوحشة أو الأحاسيس الداخلية للإنسان، بل تعدتها لتطال الطفولة والصبا كما في قصيدة "بدايات" والحرب والحنين للوطن، "الحسكة دائمًا" والحوار مع الأمكنة والطبيعة، "أشجارُ لندن".. وغيرها من القصائد ضمن جدلية موحية بين الأنا والآخر والذاتي والموضوعي، وصولاّ إلى علاقة مفتوحة بين القصيدة والقرّاء.
التقصي الابتكاري
فعل التقصي بين "المعجمي والاصطلاحي" يتمظهر بمعان متعددة عند الصحافي بشير البكر، فالذي أقصي عن وطنه، ما زال يتقصى ذاكرة الطفولة، وأوجاع الغربة والاغتراب، يتقصى الأصدقاء والأمكنة والشوارع ويستحضر شريطه الخاص من الماضي العميق لبحثه عن صور الحاضر الجديدة.. البكر بحدْسه الصحافي يتقصى حقائق عن الذات والآخر لكنه لا يصل إلى أقصى رؤياه لأنه لا يؤمن بالمحصلات ولا بالنهايات المطلقة.
في الكأسِ الأخير/ سيكونُ علينا النسيان/ مثلما في كافةِ الأوقاتِ/ التي كنا نأسفُ فيها/ على بقيةِ الحكايةِ/ في جملةٍ لا بدايةَ لها.
في تقصّيه للأمكنة وذاكرتها لا يستعين البكر بأدوات وصفية أو كلمات بلاغية أو مرادفات جمالية.. يتقصى البكر "الحسكة" بأبعادها التاريخية والجغرافية وصيرورة وسيرورة الحياة فيها.. يستعيد طفولته ويتذكر بيته الكبير بين الفراتِ ودجلةَ على ضفافِ الخابورِ ومدرسته وجيرانه.. يتذكر الحقول بفلاحيها ورائحة تعبهم ومواسمهم وطقوس حياتهم.
في مثلِ هذا القيظِ/ كانت رفوفُ القطا/ ترافقُ الملاياتِ/ من قرى الحسكةِ/
باتجاه المخاضاتِ البعيدةِ على الخابور/ في تلك الأيامِ/ كان القطا يرسم حدودَ الجزيرةِ/ من نصيبين إلى الفرات/ ومن ماردينَ حتى الرقة/ سارحًا في قمحِ العشائر.
في الديوان وجدانيات ومناجاة وحروب وحنين وأطلال وطن، وعواطف ومحبة "جبرانية" ووحشة وأرق.. فيه حياة كاملة، وبتدوينه لأي حالة من هذه الحياة يغدو تقصي الأشياء والأمكنة هدفًا ووسيلة لتحديد نقاط ارتكاز تداعيات، مهما وضحت أو غمضت، تصب في مجرى حكاية الشاعر وتولد بسردية مشهدية خصوصية شعرية يدرك البكر عمقها التاريخي والفلسفي والنفسي والأيديولوجي بدقة متناهية، تمنح - رغم شمولية المشهد في بعض القصائد- لما أنتجه التقصي المبدع أبعادًا متباينة ومعاني متعددة.
ففي "نهار لندن" تفاصيل مدينة بطقسها وناسها وشوارعها وبيوتها وأضوائها وعتمتها وبردها، بهدوئها وصخبها.. ومع كل نبضها ثمة من يتقصى حياة هذه المدينة المنفى بكل حيادية، ويعيش يومياتها التي ربما عاشها من قبل وحيدًا بوحشته وأرقه..
كان نهارًا ضائعًا/ نسيتُ أن أخمّنَ شيئًا/ من أجلِ المساءِ/ حين أرفعُ نخبي وحيدًا/ مثلَ مشردٍ في مأوى للفقراء.
هذا التداعي بين الذات والموضوع، في ظل شمولية المشهد، منح للقصيدة استعارات ومجازات ولدت تواترًا شعريًا فتح أبواب التأويل وأثار أسئلة جديدة عن نهار آخر في لندن أو في المنافي.
لا ضوءَ في نهارِ لندن/ أسرَى وراءَ النّوافذِ/ ننتظرُ رحيلَ الشتاءِ البطيءِ/ الطويلِ كندمٍ متأخّر/ تطفُو الشمسُ/ مثلَ شمعةٍ صغيرةٍ/ في بيتٍ عتيقٍ/ ينضحُ بالرطوبةِ.
عناوين وهواجس
درجت العادة على أن يحمل الديوان عنوان قصيدة ما من قصائده أو اسم بلد أو شخصية أو مكان ما.. لكن "آخر الجنود" هذا العنوان البسيط العميق الموحي أراده بشير البكر أن يكون من وعن الجو العام لقصائده وفضاءات رؤيتها، وجاء هذا الغلاف بفنية لافتة ومعبرة لتواكب ما أراد الشاعر. في حين ثمة تكرار، وقد يكون مقصودًا، وقد يكون مرتبطًا بأنماط المخزون اللغوي للشاعر، تكرار لعناوين من دواوين سابقة، ولعناوين قصائد تختلف مضامينها في هذا الديوان، كباريس، والشجرة، ولحظة، وأرق، والشام.. كما نلاحظ وجود تكرار لمفردات مثل محطة، وخريف، وغيمة، وليل.. في عدة عناوين، بالإضافة إلى تكرار كلمة (كالشجرة مثلًا) بعينها بين ثنايا عدة قصائد.
وحينَ تلتقيان/ تصيران شراعًا/ في الفراغِ الشاغرِ من السريرِ/ حينئذٍ لن تتذكرَ/ ما تجرشُه أسنانُكَ/ ولا شجرةَ التفاحِ/ التي غطّيتَها بوشاحٍ/ عندَما رأيتَها/ وحدَها في البردِ/ تبدّلُ أوراقَها.
ومع كل هذا ترتبط عناوين القصائد عند البكر برؤيتها ومضامينها بخيوط واضحة تارة وخفية تارة أخرى، لكنها تبقى ضمن بناء القصيدة المتماسك. وتجدر الإشارة هنا إلى عنوان "بورتريهات" اللافت الذي يشكل إطارًا لصور أصدقاء ومعارف، وأخوة وأبناء، شعراء وشهداء، لكنها ليست مجرد أسماء وذكريات، إنها من صلب تجواله في العواصم والمنافي ومعايشته لثقافات شعوب، وتقاطعاته مع نماذج متباينة مفعمة بالخيال المبدع، جمعها الإطار لكنه لم يؤطرها، بل واكبت فضاءات وأجواء الديوان.
ومما قاله لصديقه تشارلز سيميك الذي يتشارك معه الحرب: يا سيّد سيميك/ لم نكفَّ عن الموتُ/ لم يتوقفِ القتلُ/ انظر ماذا حلَّ بالبيوتِ
في الأريافِ والمدنِ/ دمارٌ كأنّنا سنبقى في البراري/ لن نرجعَ من الحربِ
وسيمتهنُ الجنودُ صنعةَ القتل.
الحرب كلازمة
مفردة الحرب تتسلل إلى أغلب قصائد بشير البكر، خلسة تارة، ومباشرة تارة أخرى، في سياقات مختلفة أو تعبيرات عابرة أحيانًا، وفي مواقف صادمة أحيانًا أخرى "كأنَّها لم تكُنْ ثورةً".. فهل الحرب هاجسه أم هواجسه، وهل كانت في ثنايا قصائده قبل الثورة السورية.. وما الذي قد يؤديه من أغراض شعرية أو أيديولوجية تكرار هذه المفردة وغيرها؟ وكيف تبدو المفردة كلازمة في سياق القصيدة.
التي تركها الرصاصُ/ لكنّها ظلت معلقةً فوق الحبالِ/ بآثار البارود.
إن هذه القصيدة التي حملت عنوان "الحرب" بعيدة كل البعد عن الوحشية والعنف والقتل والحرائق والدمار، لكنها قريبة مما أسفرت عنه، فالأحداث بنتائجها تنبش ألمًا كان وسيبقى، وتترك أثرًا عميقًا ملطخًا برائحة البارود. في حين تتسلل هذه المفردة في قصيدة المحطة الأخيرة، ولا تخرج عن السياق العام لبنائها، ولا تخرج الكلمة عن بيئتها، لكنها وخزة لكل من عايش وعايش الحروب.
قلتُ دعني أعودُ/ قد لا تعبرينَ/ ولا أرى أحدًا/ وأكونُ وحيدًا في المدينةِ
ربّما ترجعُ ليَ الحكايةُ ذاتُها/ تلكَ التي أبحثُ عنها/ ولا أجدُها منذ العام الأول للحرب.
إن هذه اللازمة "الحرب/الثورة" مبثوثة في ثنايا أغلب قصائد الديوان رغم تنوع موضوعاتها ورؤياها، ففي "آخر النهار" ساعي البريد العائد من الحرب، وفي "أنسي الحاج" كافرًا بالحربِ والنياشين، وفي "فرحان" قبل أن تقعَ الحربُ بقليل، وفي "حمزة الخطيب" الطفلُ الأولُ للثورة، وغيرها من الأمثلة. وإن لم توجد المفردة واضحة أو مواربة فإنها تأتي موحية بما تركته أو فعلته الحرب، كما في قصيدة أرق.
.. إلا من نظاراتٍ/ لا ترى ما يقرأُه الصمتُ/ في كتابٍ أبيضَ بلا كلام/ يتحدّث عن أطفالٍ من سوريا/ حاولوا عبورَ البحرِ/ وطافُوا هناك.
ثمة خصوصية في علاقة الشاعر مع هذه اللازمة، تراكمت عبر تجربته الحياتية والشعرية، فبشير البكر الذي يتذكر النكسة وتبلور وعيه مع أيلول الأسود وحرب تشرين.. وبلور مواقفه الفكرية واتجاهاته السياسية مع بداية تل الزعتر وهروبه من الاعتقالات في سورية إلى حصار بيروت والحروب الأهلية في اليمن.. بشير الذي عاش وعايش كل هذه الأحداث الدموية والمأساوية.. صارت "للحرب" في أعماله أبعاد سياسية وأيديولوجية وتاريخية أسست لمرجعيات عميقة اختلط فيها الإنساني مع الفكري والوجودي والشعري، وارتبطت بثنائية الوطن.. الوطن المدمر المحروق المسلوب.. والوطن الأطلال الحنين الطفولة الهوية الانتماء.