الصهيونيّة بمنظور كولونياليّ.. عودة إلى الأصل
أنطوان شلحت
29 يونيو 2020الصهيونيّة بمنظور كولونياليّ.. عودة إلى الأصل
أنطوان شلحت
29 يونيو 2020(*) الثاني: إماطة اللثام عن وثائق من فترة عام 1948 كانت حتّى ذلك التاريخ -أي النصف الثاني من ثمانينيّات القرن العشرين الفائت- طيّ السرّيّة التامّة.
لكن ما ينبغي قوله هو أنّ شفير يفترق عن هؤلاء بعودته إلى فحص جذور الصراع الصهيونيّ - الفلسطينيّ، وهي عودة كانت حتّى موعد تأليفه لكتابه هذا لا تزال مقتصرة عليه وعلى قلائل من الباحثين أمثاله، وفي مقدَّمهم الباحث النفسانيّ بنيامين بِيتْ_هَلَحْمِي الذي سبق شفير في هذا المضمار. يُضاف إلى ذلك أنّ المراجع الأرشيفيّة، التي يستعين بها شفير في هذه المقالة، شأنها شأن المراجع الأرشيفيّة في كتابه الكامل، لم تكن من بين تلك التي أميط عنها اللثام في الفترة المذكورة؛ وإنّما كانت، قبل ذلك، مفتوحة أمام مرمى أبصار المؤرّخين والباحثين. وعلى الرغم من كونها كذلك، فإنّ شفير يعترف بأنّها تطلّبت منه "قراءة جديدة للموادّ القديمة"، في سيرورة يُراد لها أن تعيد إلى هذه المراجع ما سبق أن غاب -أو جرى تغييبه عمدًا- عن أعين القرّاء السابقين.
كلّ ذلك حدث قبل أن ينكفئ الكثير من رموز تيّار "التأريخ الجديد" على أنفسهم تحت تأثير عوامل عدّة، من أبرزها -إن لم يكن الأبرز- عاملُ الانتفاضة الفلسطينيّة في أيلول/ سبتمبر عام 2000. وهذا موضوع مكانه ليس هنا.
كذلك يجدر القول إنّه حتّى ظهور مقاربة شفير المعبَّر عنها في مقالته المترجَمة هنا، كان المنظور الكولونياليّ منبوذًا على نحوٍ يكاد يكون مطْلقًا في التيّار الأكاديميّ الإسرائيليّ العامّ. أمّا على وجه العموم، فإنّ الفكرة التي تتعامل مع إسرائيل باعتبارها مجتمعًا كولونياليًّا لم تجد أصداءً لها داخل المجتمع اليهوديّ، إلّا في أوساط جماعات هامشيّة من المثقّفين فقط، أبرزها جماعة "ماتسـﭘـين" ("بوصلة") المنشقّة عن الحزب الشيوعي الإسرائيليّ، والتي تشكّلت عام 1962 من طرف شبّان راديكاليّين تركوا صفوف هذا الحزب والتحقوا في وقت لاحق بالأمميّة الرابعة التروتسكيّة. وتؤكّد دراسات عديدة أنّ برنامج "ماتسـﭘـين" كان بمثابة أوّل تعبير عن النظر إلى المجتمع اليهوديّ في إسرائيل من منظور كولونياليّ صريح.
ويتكرّر حُكم القيمة السالف بالنسبة إلى مقالة شفير هذه في الكثير من المناسبات، وتحتاج الإحاطة بها إلى ما هو أبعد من غاية هذا التقديم. وبناء على ذلك، سأتوقّف عند مناسبتين يفصل بينهما نحوُ عَقدين من الأعوام.
الأولى، دراسة أوري رام التي تحمل العنوان "الموقف من الكولونياليّة في علم الاجتماع الإسرائيليّ"، والتي نُشرت عام 1999، ويشير فيها إلى أنّ توصيف الصهيونيّة كحركة كولونياليّة، حتّى الفترة التي ظهرت فيها مقاربةُ شفير، اعتُبِر بمثابة "نوع من التشويه" لهذه الحركة، حيث إنّ النظر إلى إسرائيل كمجتمع كولونياليّ ينطوي على اعتراف ضمنيّ بأنّ اليهود احتلّوا وسلبوا أرضًا مأهولة، واستغلّوا أو طردوا السكّان الأصلانيّين، وفي هذا ما يتنافى مع صميم الصورة الذاتيّة التي رسمها الصهيونيّون عن الصهيونيّة باعتبارها حركة "شعب بلا أرض يعود إلى أرض بلا شعب". وهو اعتُبِر منفّرًا في نظر "اليسار الصهيونيّ" في إسرائيل، الذي جرى العرف لديه على الكلام بشأن التحرّر الذاتيّ وتخليص أرض (فلسطين) كانت قفراء بواسطة الكدح، كما أنّه اعتُبر منفّرًا بالقدر نفسه في نظر اليمين الإسرائيليّ الذي يقول إنّ "أرض إسرائيل الكاملة" مُلك للشعب اليهوديّ، وهي ملْكيّة لا تقبل الدحض بحكم "الحقوق التاريخيّة" والوعد الإلهيّ.(2)
الثانية، المناسبة التي تتعلّق بإشارة أستاذ الفلسفة اليهوديّة والتلمود في جامعة تل أبيب، يشاي روزين تسڤي، في سياق مقال نشره في صحيفة "هآرتس" في 11/10/2018، إلى أنّ المقولة أنّ الصهيونيّة حركة كولونياليّة لا تزال حتّى أيّامنا الراهنة بمثابة تابو في الخطاب الإسرائيليّ العامّ.(3) وهي كذلك برأيه لكون السِّمَة الكولونياليّة ما انفكّت ملازمة للعقيدة الصهيونيّة ولم تتحوّل إلى شيءٍ ما من الماضي، وهو يؤكّد أنّه في دولة تقوم بسَنّ "قانون القوميّة" السالف، وفيها أكثر من نصف مليون مستوطن في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ عام 1967، وتتواتر من جانبها مشاريع ترمي إلى تهويد النقب والجليل، لا يمكن الكلام حول الكولونياليّة الاستيطانيّة كما لو أنّها أمر ينتمي إلى الماضي.
وفي ضوء ذلك، من المتوقّع أن تظلّ تلك المقولة عرضة للحَجْب والإنكار تحت طبقات سميكة من علم الاجتماع والتأريخ الرسميّ الإسرائيليّ.
هوامش:
(1) ليس ثمّة دستور معتمَد في إسرائيل لأسباب كثيرة، ولذا بادر الكنيست الإسرائيليّ منذ خمسينيّات القرن الفائت إلى سَنّ قوانين أساس أصبحت بمرور الزمن ما يشبه الدستور.
(2) Ram, Uri. (1999). The colonization perspective in Israeli sociology (Pp 49-72). In Ilan Pappé (Ed.). The Israel/Palestine question. London: Routledge.
(3) تسڤي، روزين يشاي. (2018، 11 تشرين الأوّل/ أكتوبر). الإنكار الكبير للكولونياليّة الصهيونيّة. هآرتس.