قراءات

الاستشراق الألماني مفكّكًا

إدريس الخضراوي

7 أغسطس 2020
يعدّ البحث في الصور والتمثيلات التي تمّ ويتمّ عبرها التفكير الغربي في الشرق، وكذلك دور الاستشراق الأوروبي في هذا التمثيل، إضافة لمآلاته، من بين أبرز نقط الارتكاز التي تَقومُ عليها دراسة الباحث المغربي زهير سوكاح بعنوان: "تمثلات الشرق في السرد الرحلي الألماني.. دراسة تحليلية مقارنة"[1]، التي نال بها هذا العام جائزة ابن بطوطة، فرع الدّراسات التي يقدمها مركز ارتياد الآفاق للأدب الجغرافي. ومثل أيّ عمل جيد تَعكسُ قراءته انشغال مؤلّفه بهَاجس البحث والتحرّي من أجل بناء رؤية جديدة، وبلورة معرفة تتسم بالإضافة الكيفية، يأتي كتاب سوكاح، الذي يُمكنُ وصفه بأنه من بين الكتب النقدية القليلة التي تعرّضت لهذا الموضوع، في محاولة لاستكشافِ ونقدِ التمثيلات والتصورات المتدثرة بالأحكام المسبقة عن الشرق التي هيمنت على مؤلفات الرّحالة الألمان خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن الواحد والعشرين، والتي لا تزالُ تُحدّدُ وجهة النظر الغربية حول هذه البقعة من الأرض، وسكانها وثقافتها أكثر من الخبرات الملموسة. ولمّا كان هذا الكتاب القيّم يَندرجُ ضمن ميدان ما بعد الكولونيالية ذلك الحقل النظري الواسع الذي "يشمل كل ثقافة تأثرت بالعملية الإمبريالية منذ اللحظة الكولونيالية حتى يومنا الحالي"[2]، والذي أرسى دعائمه الأولى الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد منذ أواخر السبعينيات مع كتابه "الاستشراق"، فإنّ أكثر ما يلفت نظر القارئ إلى ما يتميز به من ضروب العمق والجدّة في الطّرح، ليس هو فقط انطلاق الباحث من فرضية مفادها أن الاستشراق الألماني لم يكن يومًا من الأيام أقلّ إمبريالية من بقية الأنماط الاستشراقية الغربية، وهذا ما يُمثلُ مراجعة أو تموضعًا على مسافة من الفكرة المركزية في تصور إدوارد سعيد التي بمقتضاها أزاح الاستشراق الألماني من دائرة الاهتمام النقدي ما بعد الكولونيالي بدعوى أنه أقل كثافة وتماسكًا من نظيريه الفرنسي والبريطاني، وإنما أيضًا تأكيده انطلاقًا من تحليل مقارن لنصوص رحلية معاصرة أن النّزعة الهيمنية التي استمدّت الدّعم من الظاهرة الاستشراقية باعتبارها خطابًا عن الآخر، وخطابًا ذاتيًا، وخطاب هيمنة، لا تَزالُ قائمة في الدول الناطقة بالألمانية حتى في عصر ما بعد الكولونيالية الذي يصرّ فيه العقل الغربي، رغم ما يعانيه هذا العقل من أزمات حقيقية، على الهيمنة على الآخرين بسبب قوة الغرب العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والمصرفية والعسكرية[3].

 

نصوص رحلية
يغطّي الكتاب فترة زمنية تمتدّ من القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن الواحد والعشرين من خلال الاشتغال على مدونة من النصوص الرّحلية الألمانية التي كتبت عن الشرق في هذه

الحقبة التي ظلّ خلالها هذا الفضاء الجغرافي يُصورُ ليس فقط بوصفه موضوع الاهتمام الأساس بالنسبة للغرب، وإنما أيضًا العالم المضاد للذات الأوروبية بصورة جذرية. وَنَعتقدُ أنّ ما يَجعلُ من المواجهة بين الرّحالة الألمان والعالم البعيد، وهي مواجهة مفتوحة على التجاهل والقطيعة والعجز عن استيعاب الاختلاف، تنطوي على قدر كبير من المفارقة، ليس هو مطابقة التمثيلات لما تضمنته المصادر الغربية القديمة اليونانية والرومانية والتي اشتهرت بكونها مثلت للأوروبيين مصدرًا ذا أهمية كبيرة يَزخَرُ بالمعلومات والأخبار الغريبة عن الشعوب البعيدة[4]، وإنما كونها حدثت في زمن كانت فيه الثقافة الألمانية تَتطلّعُ إلى الخروج من عزلتها القومية كما عبّرت عن ذلك دعوة الشاعر الألماني يوهان غوته إلى أدب عالمي. يكتب غوته: "يجب أن أكرّر أن الهدف ليس أن تفكّر الأمم مثل بعضها البعض، وإنما أن تصبح واعية ببعضها البعض وأنّه حين ينعدم التحابب بين الأمم، فعلى الأقلّ يجب أن يوجد بينها تسامح"[5].

غلاف الكتاب 

يَتميزُ الكتاب بالترابط اللافت لموضوعاته، وهو يَشتملُ على مدونة تَتكونُ من ستة نصوص وزّعها الباحث على مجموعتين: الأولى تضمّ ثلاثة نصوص ينتمي كتابها للقرن التاسع عشر الذي هو قرن الاستشراق الألماني بامتياز[6]، وهي: "رحلة حجي إلى مكة" (1865) لهاينرش فون مالتسان، و"الرحلات الشرقية" (1838) للأمير بوركلاو موسكاو، و"إقامتي الأولى في المغرب" (1865) لغيرهارد رولفز. أما المجموعة الثانية، فتشتمل على ثلاثة نصوص صدرت في مطلع القرن الواحد والعشرين، وهي: "المملكة العربية السعودية.. في البلاد المقدسة للإسلام" (2001) لكزيلا رامينغ - ليوبولد، و"رحلتي الشرقية"(2005) لأندرياس بروفيه، و"رحلات إلى المشرق"(2011) لرودولف هوفنباخ. ويرى الباحث أنه إذا كان القرن التاسع عشر قد شكّل مرحلة التوسّع الإمبريالي باتجاه الشرق، فإنّ بداية القرن

الواحد والعشرين والأحداث الكبرى التي عرفها كهجمات الحادي عشر من سبتمبر جعلت الشرق، في سياق مطبوع بالزّعم بأن الفترة هي فترة "صدام الثقافات"[7]، يَظهرُ أيضًا بوصفه العالم النقيض من منظور الغرب. وفي هذه الفترة ظلّت "آلية الصناعة الاستشراقية للشرق من حيث هو مجموعة قيم لا ترتبط بواقعه الحالي كشرق، بل بمجموع ما كان بينه وبين أوروبا في الماضي"[8]، من بين أهمّ الأدوات التي تَرتكزُ عليها النزعة الهيمنية الغربية لشرعنة احتلالها وسيطرتها على مجموعة كبيرة من المناطق. ويُمكنُ أن نستنتج من السرد الذي يقدمه الباحث، أن هذه الشرعنة لا توجد فقط في النصوص الرحلية البريطانية والفرنسية، بل أيضًا في أدب الرّحلة الألماني حول المنطقة، وخاصة الرحلات الحديثة التي تتجلّى فيها الطريقة الأوروبية للتفكير في الشرق، ومن سماتها ذلك التمييز بين عالمين: عالم "الغرب" المتقدم العقلاني، وعالم "الشرق" المتخلف، التقليدي (الكتاب، ص46).
من حيث المنهج، يَتبيّنُ أن هذه الدّراسة التي توسّع البحث والتحرّي ليشملَ الثقافة الألمانية، لا تتعاطى مع النص الرحلي بوصفه بنية معزولة، أو مكتفية بذاتها، بل تنظر إليه في سياق علاقته بالحقبة التاريخية التي أنتج فيها وبالمجتمع والثقافة، ما يعني أن عزل الأعمال الأدبية عن العالم الذي تحققت فيه، حتى وإن كانت هذه الأعمال تَتّسمُ بالفرادة والتميز والصدور عن العبقرية، هو توجه غير جيد من الناحية المنهجية. وإذا كان البحث في الصور والتمثيلات التي تحتفظ بها الأعمال الرحلية يقتضي استنطاق النصوص وتحليلها، فإن الخلفيات والاعتقادات التي تأسست عليها تلك التمثيلات تَستوجبُ، كما يقول الباحث التونسي صالح المغيربي، "الاستعانة بمصادر خارج النصوص، إذ ينبغي القول إن موقف الملاحظ لا يمكن فصله عن انتماءاته، أي عن أصله الاجتماعي ووظيفته وثقافته ومجتمعه"[9]. وفي السياق نفسه، نلاحظُ أنّ هذه الدراسة التي تتناول موضوعها من منظور مقارن بين مجموعة من النصوص الرحلية القديمة والحديثة، يتبنى فيها الباحث المقاربة البينتخصصية التي "تضمّ توليفة منهجية تربط بين العلوم الأدبية والبحوث ما بعد الكولونيالية والعلوم الثقافية والعلوم التاريخية" (الكتاب، ص20) مدعّمًا هذا الاختيار المنهجي بكون الدراسات والأعمال التي اهتمت بهذا الموضوع من منظور موسّع تعدّ قليلة، وأن أي مسعى للإحاطة بإشكالية بهذا الاتساع والحوارية لا يُمكنُ النهوض به بالاقتصار على ما تقدّمه الدراسات الأدبية بمفردها. ولا ينطبق هذا الحكم فقط على الأعمال الغربية، بل يَشملُ أيضًا السياق العربي، باستثناء أعمال قليلة اهتمت بدرس الرحلة العربية من منظور مقارن[10]، مما يعطي لعمل الباحث أهمية كبيرة، لا من حيث توسيع نطاق التحرّي وأثره على النتائج المستخلصة وحسب، وإنما أيضًا لكونه "يسدّ ثغرة بحثية عن طريق تقديم مساهمة موسعة للعلاقة بين أدب الرحلة والاستشراق ضمن الأبحاث ما بعد الكولونيالية حول الصور الاستشراقية" (الكتاب، ص20).
لفهم الظاهرة الاستشراقية باعتبارها أسلوب هيمنة وبحث أسسها ومرتكزاتها، ودورها في تشييد

الخطاب الغربي عن الشرق، ذلك الخطاب الذي يؤسس لمجموعة من الأفكار والصور التي استمرّت عملية فرضها على الآخرين حتى في أزمنة ما بعد الكولونيالية، وهو ما يسميه غرامشي بالهيمنة، يستهلّ سوكاح هذا العمل بقراءة استكشافية لجهود إدوارد سعيد في دراسة الاستشراق، ومفهومه عن أنماطه الثلاثة (الاستشراق الكامن، الاستشراق الظاهر، الاستشراق الحديث)، إضافة لمنظوره حول الخطاب والتمثيل، وهما المفهومان اللذان سيتم استثمارهما بقوة في نظرية ما بعد الكولونيالية[11]، وخاصّة نظرية غاياتاري سبيفاك عن "التبعية" التي تطورت، منذ ثمانينيات القرن الماضي، ضمن دراسات التابع التي تهتمّ بكتابة التواريخ المستبعدة. وبالرّغم من أن الجهود السّعيدية لم تكن المساهمة الوحيدة المنجزة عربيا، إذ سبق سعيد إلى إثارة موضوع الاستشراق مجموعة من المفكّرين العرب من طراز أنور عبد الملك وعبد الله العروي وعبد اللطيف الطيباوي، فإن الباحث يؤكد مثل غيره من الدّارسين الذين اهتموا بقراءة النّص السّعيدي، على فرادة مساهمته التي من شدّة قدرتها على النفاذ إلى اللامفكر فيه في الاستشراق بوصفه خطابًا تم تأسيسه لغايات وأهداف محددة، أمكن لها أن تدخل مضمار الحقائق العلمية، وبالتالي أن تفتح الباب أمام تطور نظري كبير في ميدان النقد ما بعد الكولونيالي بفضل المفاهيم الجديدة التي جاء بها. ومن المعروف أن سعيد استطاع بناء علاقة بين الاستشراق والاستعمار، ما جعل مفهومه عن الاستشراق يرتقي إلى مستوى النظرية القمينة بتفسير كيف يؤدي التواطؤ بين الثقافة والقوة العسكرية، ليس فقط إلى اختزال ثقافة مغايرة والتقليل من شأنها، وإنما أيضًا إلى الهيمنة عليها و"إنتاجها كصورة مقابلة لها، ولو بشكل متخيل" (الكتاب، ص29).

الاستشراق والمرأة 

ويعدّ الاستعمار الأوروبي للشرق، ولكثير من المناطق في أفريقيا وآسيا، من أبرز نتائج هذا التواطؤ الذي رأى فيه "الرحالة الأوروبيون أمرًا بديهيًا بسبب طبيعة وعيهم الذاتي المتسم بالهيمنة، وبسبب نظرتهم للغيرية الشرقية" (الكتاب، ص31).

 

الأهمية النظرية والتطبيقية
إذا كان سوكاح يَستخلصُ أن ربح النظرية السعيدية يَكمنُ في أنه نجحَ بشكل مقنع في تحليل الشرق بكونه نتاجًا للمخيال الغربي، وأيضًا بكونه خطابًا جمعيًا عن هوية الغرب أكثر من كونه واقعًا مجتمعيًا في منطقة جغرافية محددة (الكتاب، ص27)، فإنه ينبغي القول إنّ عودة الباحث إلى كتاب "الاستشراق"، وما أثاره من مناقشات طويلة ودقيقة يُمكنُ للقارئ أن يجدها في عدد غير قليل من المصادر والمراجع التي تناولت هذا الفكر، ليس المقصود بها تكرار ما قيل عن هذا الكتاب، وإنّما الذهاب إلى أبعد ما ذهبت إليه تلك الأفكار، سواء تعلق الأمر بأفكار سعيد، أو بالمناقشات التي أثيرت حولها، وذلك باستثمار الأساس الأيديولوجي للظاهرة الاستشراقية في تشييد تصور موسّع يروم فهم العلاقة بين أدب الرحلة الألماني والاستشراق ضمن الأبحاث ما بعد الكولونيالية حول الصور الاستشراقية. وفي هذا السياق، تَكمنُ أيضًا أهمية السّرد الذي يتناول مجموعة من الآراء والمقاربات التي أوحت نظرية سعيد إلى أصحابها بمنافذ إلى

مسارات مبتكرة توسّع وتضيف إلى المفهوم السعيدي عن الاستشراق لدراسة العلاقة بين الغرب والعالم غير الأوروبي، مثل أبحاث كل من سبيفاك، وهومي بابا، وستيوارت هول، ونينا بيرمان، وآخرين. وتعدّ هذه النقطة كذلك من أبرز العلامات دلالة على الأهمية النظرية والتطبيقية لهذا العمل النقدي الذي تتجلّى فيه الرحلة الألمانية بذلك الغنى الذي يبدو معهُ من الصّعب اختزالها في مقولات ناجزة مهما تهيأ لها من مقومات الشمول والإحاطة.
قبل الشّروع في دراسة النصوص الرّحلية الألمانية، يَتوقفُ سوكاح عند مسألتين تكتسيان أهمية كبيرة من الزاوية النقدية: تَتمثلُ الأولى في بناء المفهوم عن الرحلة التي ظلت في السياق الفكري الألماني والأوروبي تُمثلُ إلى حدود العصر الحديث الوسيط الأساس لمعرفة العالم، والمصدر الحصري للمعلومات حول الثقافات الغريبة. يَعتمدُ سوكاح المقارنة والتركيب بين محاولات للتعريف مختلفة ألمانية وأوروبية، بشكلّ يتبيّن معه أن الرّحلة منظورٌ إليها بوصفها جنسًا أدبيًا يهتمّ بالتوثيق الكتابي للعلاقة التي تنشأ بين الرحالة (الذات المسافرة)، والفضاء الجغرافي والثقافي الذي انتقل إليه، لا تَتمتعُ في الدراسات الألمانية تحديدًا، وفي الحقل الثقافي الأوروبي بشكل عام، بوضع اعتباري واضح يُمكنُ معه، استنادًا إلى نظرية الأجناس الأدبية، القول بوجود جنس أدبي ذي قواعد محددة بحيث يَستطيعُ أي باحث الرّكون إليها عند القراءة. وهذا بالتحديد ما ينبّه إليه الباحث المغربي عبد النبي ذاكر في كتابه العمدة "الرحلة العربية إلى أوروبا وأميركا والبلاد الرّوسية"، عندما يكتب: "ومما جعل التنظيرات النقدية العربية، بل حتى الغربية أيضًا تتقاعس عن التعرّض لطبيعة هذا الخطاب المريبة، هو ما يحصل فيه من تداخل بين الأدب الجغرافي أو الجغرافيا الوصفية وأدب الرّحلة بأصنافها.. إلخ. ولعلّ موطن الإرباك يكمن أيضًا في كون الرّحلة تتخذ أشكالًا مختلفة. فهي تتخذ شكل مقالات نشرت تباعًا في جرائد ودوريات، وتتخذ شكل تقارير، مثلما تتخذ شكل كتاب تم إنجازه وإخراجه جملة. وهي أيضًا قد تأخذ صيغة نثرية، وقد تكتب نظمًا، ولربّما تداخل فيها المنظوم والمنثور"[12].
ورغم أنّ أدب الرحلة غالبًا ما ينظر إليه، في السياق الثقافي الألماني، على أنّه نصّ ترفيهي، وأنه يُشكلُ مجموعة نصوص تتسم بالتنوع واللاتجانس (الكتاب، ص68) وهو ما "يفرض أولًا الوقوف عند هذا الخطاب، بهدف محاولة تحديد طبيعة مساهمته، مساهمة في إزالة بعض اللبس والريبة اللتين تغلّفانه"[13]، فإن هذا الوضع لم يمنع الباحث من أن يستنتج، انطلاقًا من كتب النقاد الألمان، أن كتابة الرّحلة، ببنيتها السردية الوصفية المزدوجة التي يُعادُ إنتاجها في كلّ نص، تُشكلُ ما يُمكنُ اعتباره نمطًا أدبيًا واقعيًا مستقلًا، بحيث يتميز، من جهة، عبر محتواه الكامن في اللقاء بين الرحالة والعالم الغريب الذي انتقل إليه، وعبر وظيفته، من جهة ثانية، التي تتمثل في التثبيت السّردي لذلك اللقاء بكلّ ما ينطوي عليه من خبرات وملاحظات. وبهذا المعنى، فإن الصفة الواقعية والتسجيلية للرحلة لا تلغي اشتغال البعد التخييلي فيها، خاصّة أن الرّحالة غالبًا ما يُدوّنُ الرحلة بعد العودة، وكلما تعمقت المسافة الزّمنية كلّما بدا أثر الخيال حاسمًا في بنية النّص، كما أن الهوية الأدبية لهذا النص تزداد التباسًا وغموضًا بالنظر إلى بنيته الهجينة التي تجعله يلتقي بكثير من النصوص والخطابات القريبة، كالرسالة، والتقرير، والرواية... إلخ.

 

تأريخ أدب الرحلة
أما المسألة الثانية فيعنى بها بالتأريخ لأدب الرّحلة في الحقل الثقافي الأوروبي. وإذا كان سوكاح يشدّد اعتمادًا على مصادر مختلفة أن أدب الرّحلة ضارب بجذوره عميقًا في التراث الغربي، وهو من أقدم الأصناف في الآداب الغربية، كما تدلّ على ذلك النصوص القديمة للجغرافي اليوناني سكيلاكس، والمؤرّخ اليوناني هيرودوت، والشاعر هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، فإن هذا التجذّر التاريخي يفسّر من جانب آخر كون الرحلة ظلّت تشكّل الوسيط الأهم للمعلومات والأخبار والأوصاف عن العوالم البعيدة، والفضاء البلاغي لبناء صورة الآخر، تلك الصورة التي لا تطابق الواقع لأنها اختراع[14]. ولعلّ ما يستخلصه الباحث من

الحضور المميز الذي حظيت به الرحلة، سواء كان ذلك في الأزمنة القديمة أو في المرحلة القروسطية، أو في العصر الحديث، هو أنّ دورها الأساس في تثبيت الإحساس الغرائبي، وتكريسه عن الشرق، سيظهر بكيفية واضحة منذ القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بدأ فيها التوسّع الأوروبي في ما وراء البحار يأخذ أبعادًا كبيرة. هكذا سيبرز الاهتمام بالشرق بشكل جلي لدى الرّحالة الألمان، وإذا كانت نصوص الرحلة في هذه الفترة أكثر تأثرًا بالاستشراق والاستعمار في تمثيلها للشرق، حيث ركز كتاب الرحلة على ترسيخ الصور النمطية في الوعي الجمعي للقرّاء الأوروبيين عن هذه المنطقة الجغرافية من العالم، فإن هذا الاهتمام بالشرق في الفترة المعاصرة، وفي سياق جديد تمثل في زمنية ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية والعولمة، سيزداد رسوخًا وتأثيرًا مع ظهور مغايرات جديدة ضمن أدب الرحلة مثل الريبورتاج والمقالات شبه الخيالية والملاحظات السيرذاتية والتصوير الفوتوغرافي. وعليه، لم تعد وظيفة هذا الأدب محصورة في ما يسرّبه عن طريق الحكي والوصف والإخبار من رموز وصور عن الشّرق، بعدما أضحى الوسيط النّصّي الملائم لتأسيس هوية سردية للذات الغربية الجمعية، وعرضها في صورة أكثر تفوقًا.
لا شك أن أي قراءة استكشافية لبنية الرّحلة من أجل تلمّس الكيفية التي يتماهى بها موقف الرّحالة مع العالم الغريب الذي انتقل إليه، وهو هنا عالم الشّرق، تقتضي من ناحية الإجراء النقدي تبنّي رؤية محددة تَسمحُ بضبط العلاقة بين الرّحلة والاستشراق، وهي ليست علاقة عابرة، أو عرضية، كما بدا لنا من قراءة الكتاب، لأن الرّحلة الألمانية إلى العالم البعيد الغريب ظلّت في الغالب تتغذّى من منظومة كاملة من التمثيلات والصور والاعتقادات التي تمّ ترسيخها على مدى قرون طويلة من الصراع والتوتر بين الغرب وهذه المناطق. ومن هذه الزّاوية نجد الباحث يُركزُ في تحليله لنص الرحلة على الصوت السّردي بضمير المتكلم، وهو صوت الرّحالة مستنطقًا لغته في بعديها الذاتي والموضوعي، كاشفًا الأنساق الثقافية التي تتخللها، والتي ينتج عنها ليس فقط تقييم سلبي للشرق يبدو معه عالمًا متدنيًا لا يتطور، وإنما أيضًا تحديد للهوية الذاتية التي يقع الشّرق في تناقض كلّي معها. وما نلاحظه بخصوص هذا التحليل هو أن الصوت السّردي لا يأتي في منظور الباحث بوصفه صوتًا معطى من قبل النّص، يكتسب خصوصيته البنائية واكتماله الدلالي من خلال علائقه بمختلف المكونات الداخلية للعمل الأدبي، وإنما يَردُ بوصفه صوتًا أيديولوجيًا، وبالتالي فإن الأصداء التي ترنّ داخل اللغة الاجتماعية التي يتكلمها الرّحالة، والتهجين الذي يطبعها بحكم علاقتها بالمدونة الاستشراقية، يجعل منها لغة تعكس وضعًا اجتماعيًا، وتعبّر عن رؤية للعالم. وهذا الفهم الذي هو أقرب إلى تحليلات الناقد الرّوسي، ميخائيل باختين، التي تتميز بكونها ذات خلفية تاريخية وجمالية، هو الذي جنّب سوكاح السقوط في الاختزال والنزعة التجريدية، وبالتالي حرمان النّص من إظهار ما يتخلله من علامات ورموز ودلالات عن هذا العالم البعيد الذي يسجلّ الرّحالة انطباعاته عنه في لحظة محددة. وعلينا أن نسجّل لسوكاح قدرته على الاستفادة من نظرية إدوارد سعيد ومنهجيته في التحليل المقارن التي تقوم أساسًا على مفهومه عن القراءة الطباقية التي تقرأ من داخل النّص، وفي الآن ذاته، المعنى ونقيضه. وعليه، إذ يتقصّى الباحث ضروب التعميم والاختزال لمفهوم الشرق عند الرحالة الألمان خلال القرن التاسع للشرق، والتقييم السلبي الذي يطاول دين وثقافة المجال المرتحل إليه، فإنه يعرّي التمجيد الكامن لثقافة الذات الأوروبية، ويكشف عن نزعة

التمركز الأوروبي التي يبدو معها وطن الرّحالة وكأنه المعيار الذي لا مناص منه لقياس درجة التحضّر والتطور. إن كون نصوص هؤلاء الرّحالة أكثر احتفاء بالتقييم السلبي للعالم الغريب، منه بتسجيل الخبرات والتجارب الشخصية لهم في هذه المناطق، لا يقلل فقط من القيمة التوثيقية لهذه النصوص، وإنما يَجعلُ أيضًا من الرّبط بينها وبين الاستشراق أمرًا مبررًا من الناحية العلمية.
إذا فكّرنا في الخلاصات التي ركبها الباحث في تحليله للنصوص الرحلية الألمانية التي كتبت خلال مطلع الألفية الثالثة، تلك النصوص التي تُهيمنُ عليها خطابات متعددة عن الشرق، مثل الخطاب المعادي للإسلام، والخطاب التمركزي الأوروبي والخطاب المسيحي التمركزي، فضلًا عن أشكال التقييم السلبية التي تُطاولُ الحياة الاجتماعية للشرقيين ومعيشهم اليومي (الخيمة البدوية، الجمال العربية، الصحراء..) والسلطات السياسية وغيرها، سَيتبيّنُ لنا إلى أي مدى لم تؤثر التحولات التاريخية وعمليات تصفية الاستعمار وزمنية العولمة في التمثيلات والصور النمطية الغربية على هذه المنطقة الجغرافية. فالاستراتيجيات التي يعتمدها الرحالة الألمان في الكتابة عن الشرق مثل التعميم والتهويل والمبالغة والانتقاص، تُظهرُ العلاقة المتينة بين هذه النصوص التي كتبت في ظروف مختلفة والظاهرة الاستشراقية، بل إنّ من بين الرّحالة الألمان المعاصرين من يكتب، أو يتخيل، تحت تأثير نصوص القرن التاسع عشر وما تنطوي عليه من أحكام مسبقة عن الشرق، كما هي الحال بالنسبة لنصي "رحلة حجي إلى مكة" (1865)، و"المملكة العربية السعودية.. في البلاد المقدسة للإسلام" (2001)، لكلّ من مالتسان، ورامينغ، اللذين يقيمان تمثيلًا متطابقًا للبلد الذي ارتحلا إليه (الكتاب، ص101). وعلى هذا الأساس، لا يشي الانتقال من القرن التاسع عشر إلى مطلع الألفية الثالثة على صعيد النصوص والخلفيات المختلفة الخاصة بالكتاب، والظروف التي تمَّت فيها الرّحلة، بأي تغيّر ملموس على مستوى صورة الآخر في المخيال الأوروبي. فالاختلاف على مستوى السياق الزمني والتجارب الشخصية للكتاب، لم يغط على الفكرة المعيارية التي تتأسس عليها المركزية الأوروبية، ومفادها التضاد بين الغرب المتقدّم والشرق المتخلّف. ولما كان الغرب يعرّف نفسه منذ العصور القديمة من خلال الشرق منظورًا إليه كنقيض، إذ يعكس الغرب صورته ويعزز هويته من خلال تسليط الضوء على الاختلافات، دون أن يعير الحقيقة أي اعتبار[15]، فإن التضادات الثنائية من قبيل شرق/ غرب باعتبارها أساسًا للإدراك ما فوق التاريخي للذات والآخر، تغدو في هذه القراءة التطبيقية معيارًا صارمًا لتفكيك الرؤية الاستشراقية وتعرية تقهقرها، كما تقاوم جانبًا غير هيّن من جوانب الاستشراق، على أساس أنه لا يقدّم ولا يصور إلا نفسه، وأن الشرق ما هو إلا مرآة إسقاط تَعكسُ الظاهرة الاستشراقية وخصائصها الذاتية، وليس خصائص الشرق (الكتاب، ص112).

 

بناء مفهوم لأدب الرحلة في السياق الأوروبي
من المؤكّد أن الباحث زهير سوكاح لو عني كذلك بتحديد العناصر البارزة في ثقافة هؤلاء الرّحالة والوظائف التي شغلوها، فضلًا عن موقعهم في الحياة الثقافية الألمانية بالاستعانة بالسير الاجتماعية، وبكتب تاريخ الأدب، لأتاح له هذا إمكانيات أرحب للتعرّف على أهداف ومرامي الخطاب الرحلي الألماني، وبالتالي الإمساك بالغائب في هذه النصوص، وتلمّس الخلفيات التي

تحكّمت في التمثيلات والصور النمطية عن العالم البعيد، ومع ذلك نعتقد أن كتاب "تمثلات الشرق في السرد الرّحلي الألماني" يستحق أن يحظى بمكانة مهمّة بين الأعمال النقدية التي تناولت أدب الرّحلة من المنظور المقارنيّ، وذلك لعدة عوامل أهمها، أنه ليس كتابًا في النقد التطبيقي الذي يهتمّ فيه الدارس بدراسة النصوص وتمييز أساليبها المختلفة فحسب، وإنما هو أيضًا كتاب في النقد النظري، ذلك لأنّ الهاجس الأساس لمؤلفه لا يَنحصرُ فقط في الكشف عن العلاقة بين أدب الرحلة الألماني، والاستشراق خلال فترة القرن التاسع عشر ومطلع الألفية الثالثة، وإنما أيضًا في بناء مفهوم لأدب الرحلة في السياق الأوروبي انطلاقًا من هذه العلاقة، ذلك المفهوم الذي تَتبيّنُ معه المكانة الرّفيعة التي يحتلها هذا النمط الأدبي لدى القراء الأوروبيين، باعتباره مصدرًا موثوقًا للمعلومات والأخبار عن العالم البعيد، ومجالًا حيويًا للأغرابية الاجتماعية، ومرجعًا مهمًا لتشكيل آفاق الانتظار الخاصّة بهم انطلاقًا من النماذج الكلاسيكية التي يُعادُ إنتاجها من قبل الكتاب المعاصرين. وبما أنّ الأعمال الرّحلية تحظى بهذه الأهمية الكبيرة بالنسبة للقرّاء الغربيين، فإنّ الاشتغالَ عليها بهدف تفكيك التقارب القوي بين هذه الأعمال واهتمامات كثيرة اجتماعية وفلسفية وتاريخية ضمن ما يسمى "الاستشراق"، يعدّ أيضًا من بين العلامات التي تكشف عن قيمة التصور النقدي الذي طوره الباحث، والذي لم يَقدهُ إلى إثبات البعد الاستشراقي لهذه الأعمال فحسب، بل أيضًا إلى تأكيد علاقتها باستمرار التصورات النمطية في زمن ما بعد الاستعمار والعولمة والإرهاب. وعليه، فإن الرحلة الألمانية للقرن التاسع عشر، ولمطلع القرن الواحد والعشرين، إذ تنتج التمثيلات والصور الغريبة عن العالم البعيد، فإنها ترتدّ إلى ما هو عميق في ذات الرّحالة، أي المركزية الأوروبية، وبالتالي فالرحلة تعدّ امتدادًا للتقليد الأوروبي الذي عرف تطورًا كبيرًا خلال القرن التاسع عشر مع التوسّع الإمبريالي[16]. وبناء على هذه الخاصية، يلتقي هذا الكتاب مع اهتمامات النقد ما بعد الكولونيالي في أقوى تجلياته التي عنيت بدراسة الاستشراق، ممثلة في جهود إدوارد سعيد، ونقاد مدرسة التابع، والعديد من كتاب ما بعد الكولونيالية المعاصرين، حيث الإنسان الشرقي الذي ظلّ ينظر إليه على أنّه أجنبي لفترة طويلة، والذي تم تعريفه فقط من خلال منطق التضادّ والإقصاء، والمتأصل في حالة الدونية، يَميلُ إلى إعادة بناء نفسه، ويحتلّ مقدمة المشهد مستبدلًا الحالة السابقة التي كان فيها موضوعا للكتابة بحالة جديدة صار فيها منتجًا وفاعلًا[17].

 

مراجع:

[1] زهير سوكاح، تمثلات الشرق في السرد الرّحلي الألماني، دراسة تحليلية مقارنة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2020. الاقتباسات من الكتاب أشرنا إليها في داخل النص.
[2] بيل أشكروفت- غاريث غريفيت- هيلين تيفن، الرّدّ بالكتابة. النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة شهرت العالم، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2006)، ص16.
[3] محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، دار الساقي، بيروت 2006، ص31.
[4] ــLucie Bernier, FIN DE SIÈCLE ET EXOTISME : LE RÉCIT DE VOYAGE EN EXTRÊME-ORIENT, Revue de littérature comparée, no 297/2001, p.43.
[5] يوهان غوته، في: محمد صالح عمري، من أجل نظرية في الترافد الأدبي، في: محمود طرشونة (محرر): الدّرس المقارني وتحاور الآداب، سلسلة الندوات، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، تونس2015، ص17.
[6] عبدالإله بلقزيز، نقد الثقافة الغربية في الاستشراق والمركزية الأوروبية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2017، ص93.
[7] كلود دوبار، أزمة الهويات. تفسير تحول، ترجمة رندة بعث، المكتبة الشرقية، بيروت 2008، ص9.
[8] بلقزيز، نقد الثقافة الغربية، م س، ص104.
[9] صالح المغيربي، أدب الرحلة في الغرب الإسلامي من القرن الثاني عشر إلى القرن الرابع عشر، ترجمة محمود طرشونة، المركز الوطني للترجمة، تونس 2013، ص6.
[10] تعدّ دراسة الباحث المغربي عبد النبي ذاكر بعنوان: الرّحلة العربية إلى أوروبا وأميركا والبلاد الروسية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين من بين الأعمال النقدية التي خرجت بالبحث في الرحلة من المنظور الوثائقي الضيق إلى الاهتمام بجوانب أخرى من المنظور المقارني والموسّع.
[11] Nicolas Bancel, Le postcolonialisme, Collection Que sais-je ? Presses Universitaires de France, Paris2019.
[12] عبد النبي ذاكر، الرّحلة العربية إلى أوروبا وأميركا والبلاد الروسية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، دار السويدي للنشر والتوزيع، الإمارات العربية المتحدة، 2005، ص20.
[13] عبد النبي ذاكر، المرجع نفسه، ص20.
[14] الطاهر لبيب (محرر)، صورة الآخر. العربي ناظرا ومنظورا إليه، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999، ص21.
[15] Lucie Bernier, FIN DE SIÈCLE ET EXOTISME, p.47.
[16] Béatrice Bijon- Yves Clavaron, Etrangetés Postcoloniales, In La production de l’étrangeté dans les littératures postcoloniales, Colloque international organisé à l’université de Jean Monnet, Textes réunis par Béatrice Bijon et Yves Clavaron, Editions Honoré Champion, Paris 2009, p8.
[17] Ibid., p.9..


*باحث من المغرب.