قراءات

إيمانويل بوف.. البحث عن عالم أقل توحشًا وقسوة

دارين حوماني

31 أغسطس 2021


بعد غيابه في عوالم النسيان لأكثر من ثلاثين عامًا عن المؤسسة الأدبية الفرنسية، سيعود إيمانويل بوف  Emmanuel Bove واسمه الأصلي "إيمانويل بوبوفنيكوف" إلى العالم من خلال الكاتب ريموند كوس الذي أعاد نشر روايات بوف عام 1977 وقدّمه من جديد إلى القارئ الفرنسي، وذلك بتعاون مع ابنة بوف، نـورا دو ميينبـورغ، التي احتفظت بكتب ومراسلات ومخطوطات والدها بعد أن اختفت كليًا بسبب الجو الأدبي في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، والذي وّلد تيارات أدبية متعددة رافقتها نقاشات فكرية وفلسفية غيّبت العديد من روائيي ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

لكن الفضل الكبير لعودة بوف إلى الحياة يعود إلى الروائي النمساوي بيتر هاندكه، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2019، حيث ترجم عام 1982 أول وأهم رواية لبوف، "أصدقائي" (1924)، إلى اللغة الألمانية، ومن هذا الحدث انطلقت شرارة بوف بين المؤسستين الأدبيتين الفرنسية والأميركية، حيث تلا ذلك ترجمة عدد من أعماله إلى الإنكليزية. ولم يصل بوف إلى عالمنا العربي إلا عام 2016 مع المترجم عبد الوهاب الملوح الذي نقل رواية "أصدقائي" إلى لغة الضاد عن دار "صفحة سبعة" في الرياض، ثم عام 2020 مع المترجم صلاح بن عياد الذي ترجم رواية "الليلة الأخيرة" (1939) عن نفس الدار، وفي بداية هذا العام قدّم المترجم إسكندر حبش للمكتبة العربية أربع روايات لبوف هي: "جريمة ليلة ما" (1926)، "زيارة مسائية" (1928)، "عودة الطفل" (1928)، و"راسكولنيكوف" (1932)، صدرت عن "منشورات خطوط وظلال للنشر والتوزيع" في عمان، ويقدّم المترجم بهاء إيعالي اليوم رواية "الهاجس" (1935) للقارئ العربي عن "الدار الأهلية" في عمان، والتي سنكون بصدد الحديث عنها.

وُلد إيمانويل بوف في 20 نيسان/ أبريل 1898 في باريس، من والد أوكراني الأصل متقلب ولا يهتم بعائلته، ومن أم بلجيكية، كانت تعمل كخادمة في المنازل كي تعيل ولديها إيمانويل وليون. عاش بوف وأخوه غير الشقيق ليون في فقر مدقع مع والدتهما التي كانت تتنقل كثيرًا داخل الأحياء الفقيرة في باريس بحثًا عن عمل. كان يواجه منذ الولادة قلة الثقة بالنفس والتي سنجدها لاحقًا قاسمًا مشتركًا لدى أبطال رواياته. ومع ذلك، اتخذت طفولة بوف منعطفًا إيجابيًا عندما أدت علاقة والده مع عشيقته إميلي أوفرفيغ، الرسامة الثرية وابنة القنصل البريطاني في شنغهاي، إلى الزواج. فانتقل بوف للعيش مع والده، بينما بقي ليون الذي سيصبح طبيبًا مع والدته في حلقة لا ترحم من العوز. في منزل زوجة أبيه سيكتشف العالم الآخر: عالم الأغنياء. وفي وقت لاحق يصف الكاتب هذه الفترة من طفولته في واحدة من أكثر رواياته التي تعكس سيرته الذاتية "الربيب".

في الرابعة عشرة من عمره، قرر بوف أن يصبح روائيًا، وبدعم مالي من زوجة أبيه، التي كان لها الدور الكبير في تشجيعه على الكتابة، تم إرساله إلى مدرسة داخلية في إنكلترا. سرعان ما أدى اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى تعطيل دراسته وأجبره على العودة إلى فرنسا عام 1916. توفي والده بمرض السل وتبخرت ثروة زوجة أبيه نتيجة للحرب. وبينما كان الآلاف من الشباب يموتون في خنادق أراس وفردان، كان بوف يعيش في نزل صغير- مكان مألوف في جميع رواياته تقريبًا- ويعمل في مهن صغيرة، كحارس ونادل وعامل في مصنع وسائق ترامواي، أثناء محاولة الكتابة، وأمضى شهرًا في السجن عام 1917 بسبب تهمة التشرد، ومن هذه الأمكنة المؤلمة وُلد إيمانويل بوف داخل سلسلة لا نهاية لها من الظروف المحزنة.


عام 1921 سيتزوج بوف من معلمة شابة ويهاجران إلى إحدى ضواحي فيينا، وتحت أسماء مستعارة، "جان فالوا" و"بيير دوغاست"، سيكسب المال من كتابة قصص بوليسية وخيالية. ربما بدت الحياة في النمسا بعد الحرب بديلاً قليل التكلفة مقارنة بفرنسا، لكن التضخم الاقتصادي المتزايد سرعان ما التهم المدخرات القليلة التي كانت بحوزتهما. وفرت فيينا لبوف مسافة كافية للاقتراب من الكتابة، لكنها لم تقدّم أي دعم مالي لكاتب طموح وزوجته وابنتهما، فأجبروا على العودة إلى باريس بعد عام واحد. وفي باريس عام 1924، سيكتب بوف في الصحافة، وبمساعدة الروائية الفرنسية كوليت التي كانت عضوة في أكاديمية غونكور وتدير مجموعة في إحدى دور النشر، سيتمكن بوف من نشر أولى رواياته "أصدقائي" باسمه الحقيقي، وفيها سنلتقي بـ "فيكتور باتون" وسط المعوزين في باريس بعد الحرب، المُفلس والعاطل عن العمل، الباحث عن مفهوم الصداقة ويجد نفسه دائمًا وسط كآبة عميقة ووحدة بالغة ومصابًا بخيبة الأمل من أصدقائه. بعد وقت قصير من نشر رواية "أصدقائي" سيثني جميع النقاد عليها ويقارنون إيمانويل بوف بفيودور دوستويفسكي ومارسيل بروست.. يكتب الصحافي الفرنسي جان بوترو: "كل آلام حياتنا، هذا الألم الذي لا ندركه دائمًا أو الذي نحاول تجاهله، والذي ينتهي دائمًا بالانتصار علينا، موجود في هذا الكتاب الرائع". مع هذه الرواية الأولى، يلقى الكاتب الشاب البالغ من العمر 26 عامًا نجاحًا فوريًا. وسيطلب الشاعر راينر ماريا ريلكه التعرف على بوف خلال زيارته لباريس كما سيُبدي أدباء آخرون إعجابهم به، من بينهم فيليب سوبولت وأندريه جيد وماكس جاكوب. وكان الأكثر إعجابًا به الكاتب المسرحي صموئيل بيكيت الذي كتب عنه: "لدى بوف إحساس عميق بالتفاصيل لا مثيل له".

عام 1925 سينفصل إيمانويل بوف عن زوجته بشكل غريب بدون أن يوضح لها سبب الانفصال، ويرتبط مباشرة بفتاة ثرية، وسيكتب بعدها وبغزارة وخلال أعوام قليلة أكثر من عشر روايات، ستحصل رواية "الائتلاف" (1927) على أرفع جائزة فرنسية "أوجين فيغير" عام 1928. وفي نفس العام سيكتب رواية "بيكون-ليه-بروير" وهو اسم منطقة في فرنسا، لتلقى نجاحًا آخر وتم تصنيفها بـ "الرواية الوثائقية" وهو ما دفع أحد الناشرين ليطلب من بوف أن يكتب ضمن سلسلة "بورتريه من فرنسا". 

يستمر بوف في كتابة الروايات والقصص بانتظام حيث سيتمكن من إعالة زوجته وطليقته وبناته ووالدته أيضًا من خلال مدخوله من الكتابة، وذلك حتى بداية الحرب العالمية الثانية حيث سيرفض الكتابة تحت الاحتلال فيما عُرف وقتها بـ"أدب الصمت". ينجح بوف في اللجوء إلى الجزائر عام 1942 حين استدعي للخدمة العسكرية، وهناك سيجدّد صداقاته ويلتقي بالعديد من الأدباء والرسامين والموسيقيين الفرنسيين الذين لجأوا إلى الجزائر إبان الحرب العالمية الثانية، وكانوا يتجمّعون يوميًا في "الحانة الألزاسية" وسط العاصمة الجزائرية. في الجزائر، سيكتب رواياته الثلاث الأخيرة: "الفخ"، وهي أشبه ببيان حول موقف فرنسا الغامض التي تم غزوها وتعاونها مع الألمان، و"رحيل في الليل"، و"اللامكان".

في الثالث عشر من تموز/ يوليو عام 1945 وحين كانت فرنسا تستعد للاحتفال بالذكرى الأولى للتحرير من الاحتلال الألماني، وحيث كانت الأعلام والأكاليل تتأرجح بمرح في الشوارع وفي ساحات القرى، وفي شارع دي تيرنس بباريس، سيرحل أحد أهم روائيي "أدب ما بين الحربين"، بعد إصابته بالملاريا، وستُنشر روايته الأخيرة "اللامكان" بعد وفاته بعام.

قبر إيمانويل بوف بباريس


كان لدى الجميع انطباع بأن بوف يرغب أن يُنسى، فقد تجنب أضواء الشهرة والصالونات الأدبية طوال حياته. كان متواضعًا ومنفصلًا إلى حد ما عن محيطه، يفضّل الصمت على الإعلان عن نفسه، يضع نفسه دومًا على الهامش وهو ما جعله يرفض عرضًا من أحد محرريه يدفعه لكتابة سيرته الذاتية.. يرد بوف على المحرّر: "لآلاف الأسباب لا أستطيع، أولها الخجل من سرد قصص عن نفسي". ويحكي الكاتب جان غولمييه، الذي كان مديرًا لإذاعة فرنسا-الجزائر، عن لقائه ببوف في "الحانة الألزاسية" حيث كان يجلس ذات يوم وحيدًا، فيقول: "حين تقدمت منه وأبديت إعجابي بروايته "الائتلاف"، اندهش أنه معروف في سورية*، كان وجهه الشاحب حزينًا. طلبت منه أن نحاوره عبر الإذاعة فأجاب: أنت تعرف أني لا أستطيع التحدث علنًا، وحين سألته لماذا أنت وحيد، أجاب: أنا أنتظر ، أنتظر... لا أعرف ما الذي أنتظره".

ورغم ذلك، فإن ثمة سيرة ذاتية تحرّك روايات بوف، كان أبطال روايات بوف يشبهونه، يحبون أن يكونوا على الهامش، متواضعون ويقعون في الخسارة آخر الأمر، يُصابون بفشل الإرادة، ويتعرّضون للحسد، وللحظ السيء والخيانة. كتب بوف عن المحطمين عاطفيًا، وكان لكتاباته تأثير عميق على العديد من المؤلفين خلال حياته، وفي وقت لاحق على أولئك الذين كتبوا بعد الحرب العالمية الثانية، اهتمامات ألبير كامو الإنسانية، وروح الدعابة الكئيبة والاستخفاف واليأس الدنيوي لإسهامات بيكيت في مسرح العبث. نصوص بوف بسيطة، صافية، مباشرة، ودون زخرفة لكنها عميقة بما يكفي لتنقل إليك الحزن كاملًا عن طريق أبطاله. وسيدوّن بوف ذات يوم في مذكراته: "لدي ميل لأن أكون حزينًا، وأشك في نفسي".


عام 1935، كان بوف قد كتب رواية "الهاجس" التي لقيت نجاحًا إضافيًا على نجاحاته، وبعد 71 عامًا أي عام 2006 سيختارها المخرج الفرنسي جان بيير داروسين لتحويلها إلى فيلم سيحمل نفس عنوان الرواية الأصلي بالفرنسية "Le Pressentiment"، وسيشتغل بيير داروسين وفاليري ستروه على سيناريو الفيلم، وسيلعب المخرج نفسه دور البطولة يجسّد فيه شخصية "شارل بينيستو" التي لا تختلف عن شخصيات أبطال إيمانويل بوف من حيث كآبتها الوجودية العميقة، ويجسّد بوف في كل منها تجربة جيل ضائع من المحاربين القدامى، بعد أن تركت الحرب العالمية الأولى أثرًا نفسيًا عميقًا فيه. حاز الفيلم على جائزة "لويز دولوك" لأفضل فيلم عام 2006 وجائزة أفضل فيلم فرنسي أول من النقابة الفرنسية لنقاد السينما عام 2007.

"وجد العالم متوحّشًا وما من امرئٍ يجرؤ على القيام بعملٍ خيّر، وكم حوله من أشخاص يتصرّفون كأنّهم سيعيشون إلى الأبد، أشخاصٌ ظالمون وجشعون، يُرضون من يقدر على خدمتهم ويتجاهلون آخرين. تساءل إن كانت الحياة في هكذا ظروف تستحقّ العيش، وإذا كانت السعادة ليست بالأحرى ذلك الانعزال والتخلّي عن جهوده البائسة التي كان عليه أن يبذلها لخداع من حوله"- بهذه العبارة يمكن اختصار حالة "شارل بينيستو" النفسية، وهو المحامي الناجح والبرجوازي والمتزوج من سيدة جميلة وله ابن وإخوة وعشيقة، يقطن في بولفار دو كليشي بباريس، يقرر فجأة أن يبتعد عن هذا العالم باحثًا عن حياة أخرى أقل قسوة، كما كان يعتقد، وذلك في روايته "الهاجس".. لا تصور هذه الرواية الإدراك بحياة عبثية كما لدى بيكيت ولا مواجهة العدم وتفاهة الوجود كما عند سارتر، وشارل بينيستو بالتأكيد ليس متمردًا، إنه ببساطة يعاني من مخلفات الحرب النفسية المتأخرة، ولم يعد يحتمل النفاق الذي يحيط به، ويجد العالم حوله شريرًا، إنه يشعر دائمًا بأن الحياة التي يعيشها ليست بحياة، فأصبح حساسًا وكئيبًا وغاضبًا طوال الوقت، يراقب العالم من بعيد ويشعر ببشاعته. وبعيدًا عن الأحياء البرجوازية سينتقل بينيستو إلى فندق رخيص في زاوية من الفقر المدقع في باريس، وسط عالم لم يسبق له أن واجه مثله في حياته.



تثير عزلة شارل استياء إخوته وأسرته، "فجأةً أردتَ عزل نفسك، سئمتَ زوجتك وأصدقائك وإخوتك وكنت تعتقد أنّ هناك أشخاصًا أفضل في مكانٍ آخر، أردت الانفصال عن الماضي لتبدأ حياةً أخرى، هل تعتقد أنه ليس لدينا مشكلة برؤيتك تعيش على هذه الحال البائسة الخالية من العاطفة كالحيوان؟.... أنت مخطئ إن كنت تعتقد أنّني أحيا كالحيوان، حياتي أجمل أخلاقيًا بمئة مرّة". يرفض شارل اتفاقيات إخوته بشأن ماله "ما من شيء يكرهه بقدر ما يكره النقاشات حول المال". نحن أمام سرديات قلقة تعكس اشمئزاز هذا المحامي الناجح وازدراءه من إخوته ومهنته وزوجته، فهو لم يعد يريد أن يلعبوا دورًا في حياته، فيُصاب بالاكتئاب "لأنه يفتقر للإرادة والشجاعة" ويشعر بالضعف لأنه لا يستطيع أن ينفصل بشكل كامل و"أن يقطع صلاته مع الماضي تمامًا". لكن بدخول جاره السيد ساراسيني إليه طلبًا لاستشارة قانونية بخصوص طلاقه من زوجته التي تخونه ستبدأ حكاية شارل بينيستو مع العالم الآخر الذي لجأ إليه.

سوف يُقدم هذا الجار لاحقًا على ضرب زوجته ضربًا عنيفًا يتسبب في سجنه وفي دخول الزوجة إلى المستشفى، يضطر شارل إلى الاعتناء بابنتهما المراهقة جولييت، وهو يشعر بسعادة في ذلك، يترجم من خلالها بوف حساسية وحنان هذه الشخصية، والأهم من ذلك، الفراغ الداخلي الذي تشعر به هذه الشخصية فتحاول التمسك بعوالم جديدة دون أن تعرف طبيعتها الحقيقية. يحاول شارل طلب مساعدة أحد أصدقائه المحامين لحل القضية لأنه لا يريد ممارسة مهنة المحاماة مرة أخرى إلا أنه يخرج مستاءً "لقد فهم الآن بوضوحٍ لماذا يتجنّبُ بحذرٍ الأشخاص الذين يعرفهم: ثمّة مساحة شاسعة تفصله عنهم". تتحول الرواية إلى وصف أعماق النفس البشرية في ذلك المحيط الجديد، يوغل بوف في شخصيات هذا الحي الفقير من دون أن يجهد في تأطيرها، كل شخصية مبنية من عدد من الأوجاع الذاتية العميقة فالسيدة شيفاس التي ستقيم معه للاهتمام بالفتاة تحمل قسوة داخلية وثرثرة مؤذية فتتهم شارل في وقت لاحق باستغلال الفتاة المراهقة، لكن شخصيّتها أصبحت أكثر قسوةً لسماعها بأن عددًا قليلًا من النساء يهملن ما بداخلهنّ كما فعلت هي بدافع الإخلاص بعد موت زوجها في الحرب "ولم يعد لديها تلك المشاعر الرائعة".. أما الفتاة جولييت، فقد تبيّن لشارل أنّ لديها مشاعر قويّة حاول محاربتها دون إيذاء الفتاة، ولأنها معتادة على الضرب فهي تفضله، فكانت غير قادرة على تقدير الاهتمام المحيط بها. يجد شارل نفسه رهينة عاطفة مفرطة مع المهمّشين الذين يعيش بينهم، وينظر إلى الكائن اللامرئي في داخل كل منهم. سيتعرض شارل لكل المضايقات بسبب اهتمامه بالفتاة المراهقة وسيشعر بكم هائل من الكراهية من الجيران تجاهه. وحين تهرب جولييت لبعض الأيام سيُصاب بألم حاد، ويخاف عليها من الانحراف، إن بوف هنا يطرح لنا من خلال جولييت قضية جوهرية في عالمنا "أين جولييت؟ في أي سرير قذر ستستيقظ غدًا؟ كيف ستكون نهايتها؟ ستنتقل من يدٍ إلى أخرى حتى يُعثر عليها في يومٍ ما ويُعرف أنّها قاصر، عندها ستوضع في إصلاحيّة، وحين تغادر سوف تبدأ من جديد وستسقط مريضة، ولن تحصل على العلاج وستموت في الثلاثين. إذن هل ثمّة أشخاص يسهل التنبّؤ بمصيرهم؟".

إيمانويل بوف وابنته نورا دو ميينبـورغ


يقدّم لنا إيمانويل بوف مقارنة بين عالمين متشابهين تمامًا في المجتمع الفرنسي في الفترة ما بين الحربين العالميتين، يتنقل بين شخصيات البيئة البرجوازية وشخصيات البيئة الفقيرة، لا فوارق بين هذين العالمين سوى بالمال، "كان عليه أن يدرك بأن الأشخاص الصغار الذين يعيش الآن بينهم ليسوا بمختلفين عن العالم الذي غادره، وتخيّل أنّه بقطيعته مع الماضي لن يكون لأيّ من أفعاله عواقب، وأنّه سيكون حرًا ولن تتمّ محاسبته مرّة أخرى. أمّا الآن فأدرك أنّه من المستحيل عليه ألا يتميّز أينما كان، لهذا استمرّ بمراجعة كلّ أفعاله، ومع ذلك لا يمكن للمرء أن يسعى للمحو أكثر ممّا محا". تعيدنا شخصية شارل بينيستو إلى شخصيات دوستويفسكي بأرواحها المعذبة والقلقة والتي يمكن تبرير أفعالها مهما أخطأت. يشعر شارل أنه عرضة للاستغلال والخداع، وأن الذين كان يلتقيهم هناك في الحي البرجوازي ليسوا سوى نسخة طبق الأصل عن جيرانه في الحي الفقير، فالأحداث وإن اختلفت مكانة أصحابها الاجتماعية إلا أن النفس الإنسانية متشابهة والشرور البشرية واحدة.

سيلوم شارل نفسه في النهاية بأن فعل النفي عن عائلته وأسرته كان فعلًا أنانيًا، لكنه لن يعمد إلى تصحيحه والعودة إلى ماضيه حتى عندما علم بمرضه وحاجته لشخص يرعاه. سيقع شارل في خيبة عميقة من الوجود كله قبل أن يموت وحيدًا في ذلك الشارع القذر من باريس حيث صادف كل الأشخاص الوضيعين الذين لا يختلفون عن عالمه الأول، "هل يحق لي التمرد على الشرور البشرية؟".. شعر برماديّة كلّ ما حوله وأن ما من فرحٍ يسود في أيّ مكان، "والأخطر من ذلك أنّه لم يتغيّر حتى، بدا له أن الشجاعة التي أظهرها بانقطاعه عن الماضي عديمة الفائدة، أراد أن يبكي، فلأول مرّة منذ مغادرته لبولفار دو كليشي يشعر بالتعاسة والكآبة بحق".

 

مراجع مختارة:

"إيمانويل بوف، زيارة ذات مساء" (2021). ترجمة وتقديم إسكندر حبش. منشورات خطوط وظلال للنشر والتوزيع.

 https://www.theparisreview.org/blog/2015/08/05/the-essential-detail/

https://art-bin.com/art/aboveeng.html

https://pinehillsreview.com/2016/04/27/mitchellabidorqa/

http://fredc.over-blog.com/2020/08/emmanuel-bove-1898-1945-ecrivain-le-pressentiment.html

 

 * يظهر أن جان غولمييه بقوله إن بوف اندهش من أنه معروف في "سورية"، يقصد البلاد العربية.