أقبية "النظام الشيوعي" في ألبانيا تتحول إلى مراكز ثقافية

محمد م. الأرناؤوط 17 أكتوبر 2017
عمارة
معرض دائم تحت القبة الرئيسية للدشمة عند وزارة الداخلية(ألبانيا)
كانت ألبانيا أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة تستقل عن الدولة العثمانية في 1912 بعد حكم دام حوالي 500 سنة، وكانت أول دولة في العالم الإسلامي تتبنى العلمانية في دستورها منذ 1914، ولكنها خلال القرن العشرين جرّبت كل شيء: النظام الجمهوري الرئاسي ثم الملكي على يد أحمد زوغو ثم الاحتلال الفاشي (1939-1943) الذي أقنع مفتي ألبانيا بهجت شاباتي بأن يصدر كتابا بعنوان "الإسلام والفاشية" يثبت فيه أن الإسلام ينسجم تماما مع الفاشية وأن موسوليني (الذي تتصدر صورته الكتاب) هو "حامي الإسلام" ، ثم جربت الحرب الأهلية بين اليمين واليسار خلال 1943-1945 التي تمخضت عن وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم.

ونظرا لأن الحزب الشيوعي بقيادة أنور خوجا وصل إلى الحكم بعد حرب أهلية فقد عمد النظام الجديد إلى التخلص من الطبقة المثقفة القديمة تحت تهم مختلفة (البرجوازية والرجعية والمتعاونة مع إيطاليا الفاشية إلخ) وتأسيس طبقة مثقفة جديدة بقيت موالية للنظام الجديد، حتى حين كان يقوم بإعدام ونفي بعض رموزها لأي شك في ولائها أو انحرافها عن "الواقعية الاشتراكية" فيما تكتبه.

ونظرا لأن ألبانيا الخوجوية كانت الدولة الوحيدة المؤيدة للصين الماوية بعد النزاع الإيديولوجي الشهير مع موسكو، فقد انتقلت "الثورة الثقافية" من الصين إلى ألبانيا في ستينات القرن الماضي لتصل إلى ذروتها في التطرف اليساري خلال صيف 1967: إلغاء الدين وإعلان ألبانيا "أول دولة إلحادية في التاريخ" مع ما صاحب ذلك من حلق لحى المشايخ والخوارنة وإرسالهم إلى معسكرات العمل لتعلم "مهنة مفيدة". ومع التخلص من المثقفين المنتمين إلى المؤسسة الدينية بدا أن النظام شعر أخيرا بالتخلص من كل معارضيه الموجودين أو المحتملين في المستقبل.

ولكن بعد تراجع الصين عن ماويتها واعتقال "عصابة الأربعة" بقيت ألبانيا لوحدها المتمسكة بـ"الماركسية-اللينينية الحقة"، ولذلك قام أنور خوجا بزرع فوبيا "الغزو الخارجي" بزعم أن ألبانيا أصبحت مستهدفة من الشرق الذي تخلى عن الماركسية- اللينينية والغرب المحكوم بعقلية الحرب الباردة. ومن هنا تمخضت عبقرية أنور خوجا عن بناء ملاجئ تحت الأرض ودشم عسكرية فردية وجماعية في أرجاء البلاد (حوالي 200 ألف خلال 1975-1983) حتى أصبحت ألبانيا تفيض بقبب الملاجئ والدشم، التي صرفت على الإسمنت فقط ما كان يكفي لحل مشكلة السكن لكل الألبان آنذاك (حوالي مليونين).

إلا أنه بعد ربيع أوروبا الشرقية وسقوط جدار برلين جاء الدور على ألبانيا التي كانت توصف "آخر قلعة ستالينية في أوروبا" ولم يسقط النظام الشيوعي بفعل "الغزو الخارجي" في 1992 بل بواسطة التصويت في الانتخابات التي حملت غالبية معارضة للحزب الشيوعي الحاكم. وبذلك أصبحت هذه الأقبية والدشم التي تغطي ألبانيا عبئا على النظام الجديد الذي لم تعد له مشكلة مع الشرق والغرب ولم يعد هناك فوبيا "الغزو الخارجي".

كانت هذه الأقبية والدشم تعتبر رمزا من الرموز المقدسة للنظام الشيوعي (الخوجوي) باعتبارها "حامية البلاد من الغزو الخارجي"، ولذلك لم يكن الاقتراب منها سهلا. ولكن أحد المواطنين (كويتيم روتشي) تجرأ بعد أسابيع من انتخابات 1992 على تحويل واحدة من هذه الدشم (التي أصبحت خاوية) على شاطئ غولم Golem السياحي إلى بار متواضع يقدّم المشروبات للمترددين على هذا المكان الجميل. ومع نجاح البادرة (التي لم يعترض عليها أحد) تحوّل البار إلى مطعم ناجح وقام كويتيم روتشو ببناء فندق بين هذه الدشم (التي حافظ عليها) ليتحوّل بذلك إلى أحد رجال الأعمال الجدد في ألبانيا.

كان من السهل إزالة معظم الدشم من الساحل، الذي أصبح يتدفق إليه الناس من الداخل والخارج، وكذلك من السهول التي عادت إلى أصحابها الأصليين، ولكن كانت المشكلة في التعامل مع هذه الملاجئ والدشم الكبيرة في المدن، وخاصة في تيرانا العاصمة. في غضون ذلك كان الحزب الشيوعي قد تعرض إلى عملية جراحية كبيرة (إصلاحية) تحول معها إلى حزب باسم جديد "الحزب الاشتراكي" يؤمن بالتداول الديمقراطي للسلطة. ومع نجاح الحزب، الذي أصبح على رأسه الفنان التشكيلي إدي راما، في انتخابات 2013 أصبح التعامل مع هذه الملاجئ والدشم أكثر مرونة وبروح ثقافية.

كانت البداية مع تحويل واحد منها إلى مركز ثقافي تحت اسم "بونك آرت" Bunk'art من قبل منظمة ثقافية غير حكومية، ومع نجاح الفكرة التي حوّلت الدشمة الموجودة في الشارع الرئيسي بتيرانا إلى نقطة جذب للسياح الأجانب، جاءت البادرة التالية بتحويل الملجأ الموجود تحت قبة الدشمة في جوار وزارة الداخلية إلى مركز ثقافي تقام فيه المعارض والحفلات الموسيقية تحت اسم "بونك آرت 2". ولكن خلال العمل فيه دعت المعارضة إلى مسيرة احتجاجية في كانون الأول/ ديسمبر 2015 لوقف العمل فيه باعتباره يمثل نزعة للحنين إلى الماضي . ولكن رئيس الحكومة الاشتراكية إدي راما قال خلال الافتتاح لهذا المركز الثقافي في 19/11/2016 إن إنجاز هذا العمل كان بغرض "حفظ الذاكرة للماضي القريب وليس تعبيرا عن الحنين إلى ذلك الماضي".

في زيارتي الأخيرة لتيرانا في صيف 2017 كان من الملاحظ اهتمام السياح الأجانب بزيارة هذه الدشم التي تحولت من عسكرية إلى ثقافية، بل أصبحت في البرامج التي تقدم للمجموعات السياحية القادمة من الخارج، التي تهتم بما بقي من النظام الشيوعي في ألبانيا. فتحتَ الدشمة الكبيرة المجاورة لوزارة الداخلية لدينا ملجأ كبير من الحرب النووية بُني للقيادة السياسية والعسكرية، وقد حوفظ على أثاثه والأجهزة المستخدمة فيه كما لو كانت مستخدمة الآن. وبالإضافة إلى ذلك لدينا مساحات للمعارض والحفلات الموسيقية. أما الأبرز هنا فهو تحوّل الجدار الداخلي لقبة الدشمة إلى معرض دائم يشتمل على صور ضحايا النظام الخوجوي من كتّاب وصحافيين وعسكريين شكّ في ولائهم فتخلص منهم إعداما ونفيا ومنعا من الكتابة إلخ.

ومن المفارقات الآن أن أبناء أو أحفاد هؤلاء حصلوا على حكم بالتعويض عما لحق بآبائهم أو أجدادهم من تعسف خلال حكم الحزب الشيوعي 1945-1992، وأصبحوا يتلقون على مدار العام دفعات نقدية من حكومة الحزب الاشتراكي / وريث الحزب الشيوعي لتعينهم على الحياة بعد أن فقدوا  من كان يعيلهم.

ألبانيا الآن تشبه كوبا في ناحية معينة ألا وهي أن بعض السياح يأتون الآن لإعادة اكتشاف هذا البلد الصغير الذي كان يعادي الشرق والغرب باعتباره الوحيد الوفي لـ"الماركسية اللينينية"، ويبحثون عن رموز تلك الفترة التي بقي منها الأقبية والدشم التي فقدت وظيفتها الأمنية والعسكرية وتحولت إلى مراكز ثقافية جاذبة.

*أكاديمي كوسوفي/ سوري