إدوارد سعيد في إيران (2-2): توظيف وتطويع... وتقويل

يحيى بن الوليد 4 يونيو 2017
اجتماع
(Getty)
الظاهر أن التفكير في الحضور السعيدي في إيران، تعيينا، غير واردٍ لدى دارسي إدوارد سعيد من العرب بخاصة (وعلى قلّتهم)... مقارنة مع حضوره في بلد قريب، إقليميا، من إيران أو يحدّ هذه الأخيرة من شمالها الغربي وهو تركيا. ومردّ ذلك لأسباب متعدّدة لعلّ أهمها الطرح الاستشراقي الغربي ذاته الذي ما يزال، في شقّ كبير منه، يلخّص الشرق ككل في تركيا. وهذا بعد أن كانت الهند في وقت من الأوقات مرادفا لكل الشرق، وكان التمييز يتمّ بتحديد الهند "الكبرى" أو "الوسطى" أو "الصغرى"، وفيما بعد أصبح الأتراك يمثلون جميع المسلمين. وهو ما يذكّرنا به إندرياس بفلتش (Andreas Pflitsch) في كتابه "أسطورة الشرق" (ص15).

وفي سياق تعليقاته وردوده وحواراته وتذييلاته ونقاشاته... بخصوص تداول "الاستشراق" (Orientalism) (1978) وانتشاره، وهو الكتاب الذي كان في أساس شهرته المعرفية والفكرية العالمية، لا يخصّ إدوارد سعيد إيران بإشارة تلفت الانتباه مقارنة مع تثمين التداول ذاته في بلدان مثل الهند واليابان... وحتى باكستان. إلا أن "اقترانه" بإيران وارد، بل مؤكـَّد بأكثر من معنى. وهو ما يمكن فحصه من خلال كتابه "الاستشراق" (ذاته) قبل كتاب "تغطية الإسلام" (1981) المرتبط بالثورة الإيرانية في سياقها العالمي الإعلامي بصفة خاصة.

وأما السؤال الذي يفرض ذاته في هذا المستهل فهو التالي: كيف يمكن الربط بين كتاب "الاستشراق" والثورة الإيرانية التي اكتملت صورتها بعد عام واحد من نشر كتاب إدوارد سعيد؟ يجيبنا الباحث الأكاديمي جلبير الأشقر، هنا، ومن خلال دراسة مركـّزة كتبها في الذكرى الرابعة لوفاة إدوارد سعيد تحت عنوان "الاستشراق معكوسا: تيارات ما بعد العام 1979 في الدراسات الإسلامية الفرنسية"، قائلا: "يشكّل العامان 1978 ــ 1979 منعطفا في الدراسات الشرقية والإسلامية لكونهما قد شهدا ثلاثة أحداث بارزة. وأقصد بذلك أحداثا حصلت على مستويين مختلفين تماما، ومن ثمّ لا تمكن مقارنتهما، وإن كانت جميعها قد أثّرت تأثيرا قويا في الحقل الأكاديمي. الحدثان الأوّلان حصلا على مستوى التاريخ العام. الأوّل هو إسقاط نظام الشاه في شباط (فبراير) 1979، وتأسيس "الجمهورية الإسلامية" في إيران بعيد ذلك. والثاني هو نشوء انتفاضة إسلامية مسلّحة، في العام نفسه، ضد الديكتاتورية "اليسارية" في أفغانستان، الأمر الذي أدى إلى اجتياح سوفياتي للبلاد في كانون الأول (ديسمبر) 1979. أما الحدث الثالث، الذي يقع على مستوى التاريخ الثقافي، فهو صدور كتاب إدوارد سعيد، الاستشراق، عام 1978".

لقد جرت العادة، في حال العرب والمسلمين، أن يتمّ التأريخ للشعوب والحضارات والثقافات من خلال الأحداث والحروب والهزّات والكوارث... ومن خلال "الشخصيات السياسية القاعدية"... أمّا أن يتمّ التأريخ من خلال كتاب محدّد، أو حتى التشديد على كتاب محدّد في التأريخ، فهذا غير مسبوق في التاريخ السياسي وهذا ما يُحسب للكتاب وصاحبه. ولا غرابة أن يعدّ الكتاب نفسه من بين أهم مائة كتاب (من غير الكتب القصصية) في العالم بعد أن حظي بالترتيب الثامن ضمن لائحة المائة كتاب (8/100) حسب تصنيف "الغارديان" (The guardian) البريطانية (2016) وبعد أن تمّ عدّه "أطروحة ما بعد كولونيالية راديكالية" تحدّت أصول ومحاور الدراسات عن الشرق كله، إضافة إلى أنه لا يمكن لأي مقاتل أو مقاوم أن يقف لامباليّا أمامها.

وفي حدود ما أتيح لنا من قراءة مقالات وأبحاث، وبخاصة في شبكة الاتصال الدولي، بخصوص موضوع بهذا الحجم من التشابك والتعقيد... ومن التحوّط والتخوّف في الوقت نفسه، يتبيّن أنَّ "المشترك" سواء داخل الجامعة الإيرانية أو خارجها هو التركيز على "نقد الاشتشراق". وفي الحق لقد مارس إدوارد سعيد تأثيره على باحثين إيرانيين كانوا يدرسون خارج إيران وبما في ذلك من الذين هجروا إلى الولايات المتحدة الأميركية من أجل التحصيل المعرفي في كبريات جامعاتها وفي مقدّمهم الأكاديمي حميد دباشي. يقول هذا الأخير في كتابه "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟": "اكتشفنا إدوارد سعيد ــ أولا ــ من "الاستشراق" ثم من خلال كتاباته عن فلسطين، ومن هناك، إلى تأمّلاته المحرّرة، عن الثورة الإيرانية". ويضيف: "لم يكن لدي أي فكرة حول عمل إدوارد سعيد، في النقد الأدبي قبل "الاستشراق"، وبقيت غافلا عنه ــ تماما ــ لعدة سنوات بعد تخرّجي" (ص30).

وعلى ذكر حميد دباشي فقد كان لإدوارد سعيد التأثير الأرجح، وحتى الأوحد، على مستوى نقد جيله من المثقفين المهاجرين من التحوّل وبشهادة دباشي نفسه إلى "مجرد حفنة، من الأرواح المتشائمة التي تعيش عرضة للحزن المزمن، أو قد تتحوّل ــ بكل أسف، وبشكل مثير للشفقة ــ إلى هذا النوع، أو ذاك، من الجواسيس والمخبرين المحليين؛ ممّن يبيعون أرواحهم، إلى سلاطين، بلا روح، في واشطن العاصمة، أو للآباء الخرفين، في بريستون" (ص66).

وحميد دباشي اليوم واحد من الأسماء المكرّسة في نقد "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" وأطروحات "ما بعد الاستشراق"... والقضايا العادلة. وكان صديقا مقرّبا من إدوارد سعيد إلى أن وافت هذا الأخير المنية (2003). ونقيض حميد دباشي، في السياق الأميركي ذاته ومن الإيرانيين أنفسهم، موجود. والمثال على ذلك سيد ولي رضا نصر مدرّس القضايا الإسلامية للعاملين في الجيش الأميركي وصاحب كتاب "صحوة الشيعة: كيف ستتحدّد النزاعات داخل الإسلام ملامح المستقبل" (2006) وكتب عديدة. وهو ما يذكّرنا، من خارج "المثال الإيراني"، بفؤاد عجمي وكنعان مكية في نقدهما للعرب من داخل أميركا وفي إطار من "ثقافة الاستسلام" حتى نحيل على عنوان الكاتب بلال الحسن الذي يخوض في الموضوع نفسه.

ولعلّ أهم ما يستخلص، على مستوى التعاطي مع المنجز السعيدي، في إيران، هو ضرورة الانخراط في تحديد مفهوم الاستشراق (الكبير)، وذلك كلّه في المنظور الذي يشدّد على "القتال الفكري" على مستوى مجابهة "الموقف الغربي من الشرق" بدلا من تتبّع وتفكيك... خطاب الاستشراق على مستوى دراسة لغات وآداب وثقافات... الشرق. وقد يكون التركيز على هذا الموقف هو الأهم؛ وهو ما تنفق عليه إيران بدورها من خلال تدريس الطلاب في الخارج ومن خلال تجنيد أقلام جامعية للترويج للتشيّع الإيراني وللإبقاء على تسمية "مستشرقين" لمواجهة منتقدي إيران بها، سواء من الأميركيين والإسرائيليين أو من الإيرانيين من غير الموالين أو من غير "الأساتذة" تبعا للتوصيف الداخلي. فليس من مصلحة إيران إقفال ملف الاستشراق في الشرق الأوسط بصفة خاصة... وليس لأن هذا الاستشراق يواصل معزوفة "الاختلاف الأبدي" بين الشرق والغرب فقط، وإنما أيضا لأن ازدياد الاهتمام العام بالشرق الأوسط المعاصر يُمكِن بسهولة أن يؤدي إلى تهميش البحث الفيلولوجي والثقافي "المستقّل" كما يقول شتِفان رايشموت في بحث له موسوم بـ"خطابات الاستشراق؟" وفي المدار ذاته الذي يستحضر الثورة الإيرانية ذاتها ومدى تأثيرها في مسارات التحوّل في بنيان الاستشراق ("تأملات في الشرق"، ص93). وهو ما تراهن إيران عليه في سياق "ما بعد الاستشراق" الذي يبقي على "أرض الأيديولوجيا" ذاتها في سياق الخطاب العدائي العام ذاته على مستوى التعامل مع الغرب ككل.

و"كتاب الاستشراق يشرّفه على الأقل أنّه جنّد نفسه صراحة في النضال، وهو الذي ما يزال مستمرا بطبيعة الحال في "الغرب" و"الشرق" معا" كما قال إدوارد سعيد في نهاية تذييل طبعة 1995 من كتاب "الاستشراق" (وهو متضمّن في ترجمة محمد عناني للكتاب). لكن من خارج الأصولية والقومية والاستغراب... وغيرها من المعاول أو الأشكال التي ينظر إدوارد سعيد إليها كمآسٍ حقيقية في العالم الثالث. وأهم ما لفت انتباه سعيد ضمن استقبال كتاب "الاستشراق"، في العالم العربي، "عداؤه للغرب". وقد وصف "العداء" الذي يلازم هذا النوع من الاستقبال بأنه "مزعوم". وقد عارض هذا الفهم، بشكل صريح، في سياق أوسع هو سياق معارضته الصريحة لما أسماه "مذهب الجوهرية" (ص513).

أجل إن الاستشراق (الجديد)، وحتى الآن، فشل في اختراق إيران، مع أنه ظل يتعامل معها كـ"بضاعة سياسية" عبر ركام من التنميطات المدروسة والأفكار المسبقة والافتراءات التاريخية... للتسويق لـ"مشروع الخوف المرضي من إيران" (IranoPhobia Project) في أميركا وفي مناطق من العالم ضمنها العالم العربي ذاته اعتمادا على علاقات القوة والعزل الجغرافي وتكثيف العداء... إلخ. وأجل كانت إيران وراء محورين كبيرين ضمن المحاور (البحثية والأكاديمية) التي دشّنها المنظور السعيدي في العالم ككل، وهما: محور "إدوارد سعيد والثورة الإيرانية" و"استشراق إدوارد سعيد وإيران". إلا أنه، ومهما حصل من متغيّرات، ومن انفتاح نسبي، فما تزال الدولة الإيرانية ــ معرفيّا وثقافيّا ــ متصلّبة.

ولذلك، وفي مثال دال على محدودية التجاوب مع الأفق السعيدي، لم يكن غريبا أن ترفض إيران مجيء دانييل بارنبوم (Daniel Barenboïm) إلى إيران من أجل إحياء حفل موسيقي في إطار أوركسترا "ديوان الشرق والغرب" التي تضمّ عازفين عرب وإسرائيليين يقيمون حفلات في العالم بأسره. وكانت "الحجة" أن إيران ترفض "مجيء أي شخص في إطار مجموعة ثقافية رياضية أو سياحية يشتبه بروابطه مع النظام الصهيوني". وكان دانييل بارنبوم قد ألّف مع صديقه الفلسطيني إدوارد سعيد كتابا مشتركا في الموسيقى تحت عنوان "نظائر ومفارقات ــ استكشافات في الموسيقى والمجتمع" (1990) ومن منطلق التركيز على مفهوم "التمثيل" (Representation) في الموسيقى بدورها، وفي دلالة على صلات الموسيقى بالأدب والثقافة والسياسة، وكما أنه كان قد أسّس معه الأوركسترا سالفة الذكر العام 1999 من أجل نشر "السلام في الشرق الأوسط". الأوركسترا التي عزف إدوارد سعيد فيها من موقع "المايسترو" الماهر والبارع.

ويبدو الوصل ما بين إسرائيل ذاتها وإيران، على مستوى الحضور السعيدي، وارد؛ وهو ما يعقده الأكاديمي حميد دباشي في كتابه "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟". ويبقى الأستاذ الجامعي الإيراني والمعلّق التلفزي في قنوات عالمية سيد محمد مراندي (Marandi)، ومقارنة مع الأسماء الإيرانية الأخرى التي اعتمدت إدوارد سعيد، معروفا خارج إيران خاصة وأنه يسقط في الترويج لـ"الإيديولوجيا الإيرانية" وعلى النحو الذي يسيء لمصطلح الاستشراق ابتداءً. يوضّح حميد دباشي الفكرة قائلا: "يعدّ محمد ماراندي نظير سيث جيه. فرانتزمان في إيران. السمة المشتركة بين كل من هاتين القوتين الممثلتين بفرانتزمان (الصهيوني) وماراندي (الإسلامي) هي تلك النظرة الثاقبة لحجة سعيد في "الاستشراق"، وهي العلاقة بين المعرفة والسلطة" (ص36). ويتصوّر حميد دباشي، نفسه، أن ماكينات "الإساءة" للمصطلح أكبر من أن تواجه، و"كونه "باحثا إيرانيا" لا يشكّل سوى تشويش، على الموضوع الرئيس" (ص38).

وكتاب "الاستشراق"، ومن ناحية ما يتيحه من إمكانات "استعمال" متعدّدة لـ"مصطلح الاستشراق"، كباقي النصوص الكبيرة والمؤسِّسة: "مراقب" لكي لا يصير كتابا آخر لا يساير السياسة العليا لـ"الأيديولوجيا الحاكمة". ومن ثم سوء الاستخدام الملازم للإعجاب بالكتاب في إيران كذات وهوية وجغرافيا... إلخ. الإعجاب الذي يجعل من إدوارد سعيد رديفا للدفاع عن الإسلام في "الغرب المتصهيّن" من جهة ويجعل من الإسلام رديفا للديمقراطية من جهة ثانية. وخطاب من هذا النوع هو الذي يبعث على الوصل بين إيران وإسرائيل على مستوى التعامل مع "سفينة الاستشراق". يقول حميد دباشي: "يكره الممسكون بزمام السلطة في إسرائيل مصطلح "الاستشراق"، بالدرجة نفسها التي يحبّه بها القابضون على السلطة، في الجمهورية الإسلامية، ويسيئون استخدامه لمصلحتهم الخاصة. فالشيء المشترك بين الدعائيين الإسرائيليين ونظرائهم في الجمهورية الإسلامية ــ إذا ــ أنهم جميعا، في السلطة. ليس هناك مقدار ذرة من الفرق الأخلاقي بين الصهاينة على شاكلة فرانتزمان الذين يريدون إسكات الفلسطينيين، وبين موظفي الدعاية في الجمهورية الإسلامية مثل ماراندي الذين يرغبون في كتم أصوات خصومهم" (ص36).

المؤكد أن البحث في الحضور السعيدي في ثقافات أخرى، "شرقية" بدورها (اليابان مثلا أو بشكل خاص)، يتيح إمكان استخلاص استقبال وتداول النص السعيدي في جبهاته المختلفة من نقد مدني ونقد ثقافي ونقد موسيقي ونقد حداثي... بدلا من الانغلاق في جبهة "نقد الاستشراق" بمفردها. ولعل ــ الأهم أيضا ــ من منظور مغاير هو منظور توظيف النص وتتميمه... لكن ليس على طريقة "ترجمة تغطية الإسلام" التي أضاف إليها المترجم الفارسي فصلا يقوِّل فيه ما لم يقله إدوارد سعيد في "الكوبرا ــ أميركا".