بيروت: الثابت والمتحوّل

عمر شبانة 12 يونيو 2017

 

نأتي إلى بيروت، كي نأتي إلى بيروت

(محمود درويش)

 

طوال زياراتي لبيروت، منذ أواخر سبعينات القرن العشرين، لم أذهب إليها بالطائرة ولا مرّة. فقد كنّا نأتيها من عمّان عبر سورية، نسهر في الشام، ونكمل رحلتنا إلى "ستّ الدنيا". هذه الزيارة، التي عملتُ على تأجيلها منذ اندلاع الثورة السورية، وكنت أعتقد أن الأمر لن يطول، وستعود الأمور كما كانت، أمّا وقد طالت، فوجدتُني مضطرًّا لركوب الطائرة، والهبوط في مطار الحريري، والتعرّض لعملية نصب صغيرة من سائق التكسي، كُلفتها عشرات الدولارات.

تتغيّر بيروت على مستوى التفاصيل، ربّما، لكنّها على مستوى الجوهر لا تتغيّر، ومع أني عرفتها في السبعينات، ثمّ عرفتها حين أقمت فيها أواخر التسعينات، إلا أنها تحتفظ بروحها، روح تنطوي على الحرية والانطلاق حدّ الفلتان، كما على قدر معقول من الصخب، بعنف أحيانا، وبلا عنف في غالب الأحيان.  

لا جديد في بيروت تقريبًا، لكنّها ربّما تخسر قدرًا من ذلك الزخم، من الحضور العربيّ، وخصوصًا الحضور الثقافيّ، أو المثقّف، الذي اعتادت على استقباله عادة، وعلى نحو أشدّ خصوصيّة في شهر رمضان، هي التي تتميّز بين العواصم العربية قاطبة، بكونها "متحرّرة" من هذا الموسم الدينيّ، وبكلّ معاني التحرّر. ومع ذلك لم أشهد فيها حضورًا للكثير من المثقّفين العرب، ممّن تحتشد بهم مقاهيها العامرة في كل المناسبات، فغالبًا ما تشهد زخمًا في هذا الجانب، ويبرز فيه الأصدقاء من مثقّفي الخليج ومبدعيه.

الجانب الأبرز في حياة مثقّفي بيروت ومبدعيها، وزوّارهم من العرب، هو العلاقة الوثيقة الصلة بالمقهى. وهذه ظاهرة قديمة، تمتدّ عشرات السنوات وأكثر. لكلّ "شلّة" مقهاها الصباحيّ ومقهاها المسائيّ. ما يتغيّر، هو أن تغيّر الشلّة مقهاها. فما بين مقهى الروضة، ومقاهي الكورنيش عمومًا، في الصباح، ومقاهي شارع الحمرا، في المساء، تستطيع أن تجد غالبية أصدقائك الذين ترغب في لقائهم، وبلا حاجة للاتصال هاتفيًّا بأيّ منهم.

هذه ثوابت تقريبًا. وهي ثوابت تشمل النقاشات الحادّة، حول قضايا الفكر والإبداع. والمسامرات الشعرية التي يتحفك بها من تعرف ومن لا تعرف من شعراء. ثمّ يتمّ تداول شؤون و"أسهم" الصحافة وشجونها، ما جرى إغلاقه من الصحف، وما ينتظر. وكذلك الأمر في ما يتعلّق بدور النشر وحركتها، التي حافظت على مستوى وحجم من النشر، يبشّران بالاستمرار. فالحركة الأدبية في لبنان تبدو في ازدهار، ومن مؤشّراته الجوائز التي نالها عدد من اللبنانيّن مؤخّرا. 

لكنّ ممّا يتغيّر في النقاشات، هو المتغيّرات شبه اليوميّة، والقضايا "الساخنة" التي تشهدها الساحة العربيّة والعالميّة. وفي هذا الإطار، السياسيّ، طغت في الأيّام القليلة الماضية، قصص وأخبار النزاعات داخل "البيت الخليجيّ"، وحصار قطر، هموم كانت محلّ أسئلة جادّة، ومحاولات تفكيك وتركيب، لفهم ما جرى ويجري، وكانت الحصيلة غالبا ما تصب في أن "ترامب" يريد مزيدًا من الابتزاز المالي لدول الخليج، وخصوصا دولة قطر، أكثر مما فعل، هو وحلفاؤه.

وعودًا على بدء، ليست بيروت، ولم تكن يومًا، تلك المدينة المتخيّلة، ولا هي تلك الأسطوريّة، كما يحبّ بعضهم تصويرها. أمّا كونها احتضنت، في فترات متفاوتة، أشكالا وألوانًا من مثقّفي المعارضات العربيّة، فهي قدّمت لهم بقدر ما أخذت منهم، أخذت صورتها التي جعلت منها ما هي عليه اليوم، حتّى بعد أن غدتْ مدينة شبه طاردة، تجاه من يرغب في الإقامة فيها، والحصول على عمل. ومن سبق وأقاموا فيها، ربّما كانوا رأوا أنّها شكّلت بديلًا لعواصمهم التي تفتقر إلى أدنى شروط حريّة التعبير، والحياة الثقافية والإبداعية تحديدًا.