"ألف ليلة": رحلة الكأس من الخليفة إلى بسطاء الناس

محمود خيرالله 11 مايو 2018
اجتماع
تمثيل لألف ليلة وليلة

1

قد يكون الحديث عن "الحيز الوجداني" ـ غير المنظور ـ الذي شغلته الخمور في الثقافة العربية لا يزال مثيرًا لغضب البعض، على الرغم من أن الأجداد كانوا يفعلون ذلك، ويحكون عنه بمنتهى الأريحية والبساطة، وبالتالي لم يكن ممكنًا مقاربة موضوع كهذا في ثقافة كهذه، من دون أن نُعيد قراءة واحد من أهم الكتب المؤسِسة في ثقافتنا، وهو حكايات "ألف ليلة وليلة" أو "أسمار الليالي للعرب مما يتضمن الفكاهة ويورث الطرب"، ذلك العمل الذي لا يحتفي فقط بالخمر وشاربيه ويعتبرها جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الناس، بل إنه يُقدم صورًا متباينة لأنواع الخمور المنتشرة في الوجدان العربي، بما يعني أن الثقافة العربية عرفت الخمور ومارست شربها واستمتعت بها، حتى لو "لم يكن الكَرم شجرتُهم"، كما حاول البعض أن يدَّعي.

في اللغة: (خ م ر: خَمْرةٌ وخَمْرٌ وخُمُورٌ مثل تمرة وتمر وتمور، وهو العُقار، والمدام أيضًا، يقال خَمْرةٌ صرف، قال بن الأعرابي سُميت الخَمْرُ خمرًا لأنها تُركت فاخْتَمَرَتْ واخْتِمارها تغير ريحها وقيل سميت بذلك لمخامرتها العقل والخَمِيرُ الدائم الشرب للخمر، واخْتَمَرتِ المرأة لبست الخِمَارَ والمُخَامَرةُ المخالطة واسْتَخْمَرَهُ استعبده)، وهكذا تعطينا اللغة مجالًا واسعًا للحديث عن معاني الخمر ودلالاتها المتعددة في اللغة، ما يعني أنها مفردة حية ومتجددة في الذاكرة اللغوية، فـ "الخَمَرُ مِنَ النَّاسِ: جَمَاعَتُهُمْ وَكَثْرَتُهُمْ"، وخَمَرُ الغَابَةِ: شَجَرُهَا الكَثِيرُ الْمُلْتَفُّ، وخَمَرَهُ فِي بَيْتِهِ: أي سَتَرَهُ، والعُقَارُ تعني الخمر، والعقار من كل شيء: خيارُه، وهي أيضًا "الكرم"، وبالتالي فأنت أمام مفردة محيرة، لأن كثيرًا مما تدل عليه إيجابي جدًا، لدرجة أن "الخَمَرُ من الناس ـ أي اجتماعُهم وكثرَتُهم" تعتبر واحدة من أعرق الفضائل الإنسانية على الإطلاق.

وإذا كان الوجدان العربي منح مفردة "الخمر" كل هذه الدلالات، فإن الأدب العربي وخصوصًا الشعر توقف طويلًا عند باب الخمريات، ولعل بيت أبي نواس الشهير :"دع المساجد للعباد تسكنها وهيا بنا لساقي الخمر يسقينا"، يعتبر نقطة في بحر القصائد التي سطرتها القريحة العربية، في تمجيد الخمر، وهو ما توقف عنده كثير من الباحثين، لذلك رأينا أن قراءة هذا الوجه، الذي يتقاطع مع واحد من أشهر "تابوهات" هذه الثقافة في الليالي، سيخرج بنا إلى نتائج مهمة، خصوصًا أن الواحد يشعر بالفخر بهذه العقلية التي أنتجت الليالي، كأنَّ الأجداد كانوا يعرفون أنه سيأتي يومٌ على الأحفاد يبحثون فيه عن هويتهم الوجدانية، في هذه الليالي، ليتعرَّفوا ـ بعد جهلٍ طويل ـ إلى جزء أصيل من ثقافتهم.

المؤكد أن قراءة الليالي لا تحتاج ـ أصلًا ـ إلى مناسبة، لأن التراث مِلك للجميع، وهو في حاجة ماسة إلى كل جهد، مهما كان صغيرًا، بعد عقود من الإساءة لليالي، التي تعرَّضت خلال النصف الثاني من القرن العشرين لأسوأ موجة من الاضطهاد في ثقافتنا، ووصل الأمر إلى حد الحذف والتشويه أحيانًا، تحت لافتة "التهذيب"، وانتشرت طبعات من الليالي وضعت في واجهة الغلاف الداخلي عبارة "طبعة خاصة مهذبة"، لتشرع لنفسها حذف ما لا تراه ملائمًا للأخلاق العامة، ولتفادي ما حدث مع ناشرين آخرين، جرجرت طبعات "غير مُهذبة" من الليالي المسؤولين عن نشرها إلى ساحات المحاكم، لمواجهة عقوبات بالحبس والتغريم، الأمر الذي يعني أننا صرنا جهلاء ـ حتى ـ بالقيمة التاريخية لتراثنا الإنساني، ذلك الإرث الروحي الذي خلفه الأجداد واحتفت به الإنسانية كلها، ومارس تأثيرًا هائلًا على الأدب الإنساني كله، فأخذناه نحن ـ عقوقا وقلة عقل ـ إلى ساحات المحاكم.

ووفق الليالي، فإن العربي الذي يمر بهذه اللحظة ـ التي يجب عليه فيها أن يذهب ليسكر ـ يكون عليه إذا توفر المكان المناسب لقضاء الليلة مع شريكته، أو شركائه، أن يحضِّر أولًا المأكول بأنواعه، ثم يأتي لاحقًا عليه المشروب، وسوف تقرأ عبارة "وأكلنا وشربنا"، في كثير جدًا من الليالي بصورة تدفع إلى السؤال: إذا كانت الجماعة الشعبية التي أنتجت هذا "النص الجمعي" تعتقد بضرورة وجود الخمور في حياة الناس إلى هذا الحد، من خليفة المسلمين هارون الرشيد، إلى أفقر فقراء الليالي فلماذا لا يكون ذلك سببًا كافيًا لنا لنقرأ هذه العلاقة القوية المتحدية، بين تعاطي الخمور كسرًا لـ "التابو" الأبرز في الثقافة العربية، وأحد النصوص الشعبية المهمة، عبر استطلاع بعض جوانب هذه العلاقة ودلالاتها بين "سكارى الليالي".

2

هكذا اخترتُ الخوض في حقل الألغام هذا، مُعتمدًا على طبعة حديثة مصوَّرة من طبعة "كلكتا" الهندية (1) لقراءة أحوال السكر والسكارى في الليالي العربية للأسباب الآتية:

 أولًا: لأنها العمل الأدبي العربي الخالد، وليد الإبداع الجماعي للعبقرية العربية، خلال قرون زمنية موغلة في القدم، وهو يعتبر تراثًا شعبيًا عربيًا، ومتمِّمًا لتلك الهوية العربية، ولم يكن من قبيل الصدفة بحسب العالمة الجليلة الدكتورة سهير القلماوي (1911 ـ 1997)، في دراستها القيمة "ألف ليلة وليلة"، أن يكون النص قد اكتمل كعمل أدبي في مصر، متأثرًا في أجزاء كثيرة منه بأجوائها وشوارعها ومقاهيها وجميع أشكال الحياة الاجتماعية فيها، وهو ما يلقي بظلاله على الخمور في مصر.

ثانيًا: لأنَّه العمل الذي اختص المرأة بالمساحة الأوسع، واحتوت قصصه عنصرين أساسيين، الأول "خيالي" والثاني "واقعي"، لكسر إيقاع الخيال، كما تضمن ما يمكن أن نسميه "مصفوفة أخلاقية" للمزاج أو "الوجدان" الشعبي العربي، مُضادة ـ بالقطع ـ للنظام الأخلاقي والثقافي السائد، وهي مصفوفة موازية للمصفوفة الرسمية، حيث يُمكن استنباط ملامحها وقوانينها من بين تصرفات وسلوك المئات من أبطال الليالي.

ثالثًا: لأنه داخل هذه المصفوفة تحتل الخمور بأنواعها والمخدرات أيضًا ـ "المشروب" منها و"المشموم" على حد تعبير أحد أبطال الليالي ـ مكانتها البارزة على رأس العادات الإنسانية التي يقوم بها أبطال هذه الحكاية الشعبية، من كل الطبقات والفئات تقريبًا، في حالات السعادة أو الحب أو النشوة، خصوصًا كمشروب له قدرة تتجاوز كونه مجرد سائل إلى قدرة تكاد تكون سحرية في بعض اللحظات، حيث يكون الخمر هو الفاعل الأكثر قوة وتأثيرًا عوضًا عن الفعل البشري أو الإلهي.

رابعًا: لأن هذه اللحظة المهمة اتصلت دائمًا وأبدًا بفرحة البطل والبطلة بتناول الخمور والسكر بحثًا عن الانسجام والاستمتاع بمتع الحياة، كأن القص لن تكتمل دوائره، والحكاية لن تكون مُقنعة، إلا إذا كانت هذه الليلة مليئة بالسكارى، وبكل هذه الأنواع من الخمور، وعادة ما يُسهب النص في الليالي في هذه النقطة تفصيليًا، الأمر الذي يذكرنا بأنه نص جماعي ظل شفاهيًا لفترة طويلة، وحين بدأ تدوينه، كان أزهريون أقحاح يقومون على الأمر، لم يمنعهم تدينهم ولا ثقافتهم أبدًا من تمرير مشاهد جنسية وألفاظ من العامية المصرية، كما لم تكن لديهم مشكلة في تدوين مشاهد شرب الخمور المتعددة والمنتشرة بين جنبات الليالي، ليس فقط لأسباب اجتماعية وثقافية، بل ولأسباب فنية تتعلق بفنون الحكي الشعبي وأدواته.

المعروف أن الليالي حصلت على درجة لا بأس بها من الحرية في التدوين، وهي الحرية التي فاجأت مترجمي الليالي إلى اللغة الفرنسية على سبيل المثال، قبل قرن ونصف القرن، هكذا يمكننا أن نتعرف إلى وجهة نظر الجماعة الشعبية، الحرة من أي سلطة، في موضوع السكر، الذي تعتبره "المصفوفة الأخلاقية الرسمية" حرامًا، وقد تبنت دائمًا مبدأ الدفاع عن أحد أشهر سكارى الليالي العربية، وهو الخليفة هارون الرشيد، (٧٦٣ ـ ٨٠٩ ميلاديًا) لأنها لم تكن قادرة سياسيًا على الاعتراف بأن خليفة مثله، يتناول الخمور ويسكر مع الجواري، بما يضعه في مكانة المذنب دينيًا، هو الذي من المفترض أنه يحكم مُسلمين باسم الإسلام.

هكذا قالت الليالي العربية ـ وربما بالغت ـ ما عجزت عن قوله كتب البحَّاثة والعلماء والمؤرخين، أبناء "المصفوفة الرسمية" والمكتوبة مؤلفاتهم بتكليف وإثابة من بيت الحاكم دائمًا، وقد تفرغ هؤلاء لمهمة محو آثار ما يدور في ذهن الجماعة الشعبية، بشأن انتشارها وتعاطيها، في تدويناتها المهمة، فها هو أحد أبرز مؤرخينا، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (مولود في تونس ١٣٣٢ ـ متوفى في القاهرة ١٤٠٦) لا يشير إلى الخمور في مقدمته الشهيرة "مقدمة ابن خلدون"، إلا لكي يدافع ـ بعد خمسة قرون من وفاة الرشيد ـ عن سمعة خليفة المسلمين، ضد اتهامه بـ "أكبر الكبائر عند أهل الملة".

يدافع ابن خلدون بحماس ـ بعد أكثر من أربعمئة عام على رحيل الرشيد ـ وفي ذهنه حكاية ما يريد أن يمحوها من ذهن قارئه، يقول: "وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد للخمر، واقتران سكره بسكر النَّدْمان، فحاش لله ما علمنا عليه من سوء"، مشددًا على القول إنه لم يكن يسكر أو يتعاطى الخمور التي نعرفها، لكنه كان يشرب "نبيذ التمر"، وهو حلال في مذهب أهل العراق "مذهب أبي حنيفة" (2)

وعلى الرغم من أننا جميعًا نعلم علم اليقين، أن عددًا لا يستهان به من الخلفاء والملوك والأمراء، عُرفوا في التاريخ الإسلامي بجمعهم بين مظاهر التدين وسبل اللهو والانحراف، ولهم في ذلك أسبابهم، إلا أن ابن خلدون يرجونا أن نصدِّق مزاعمه هو، وأن نستعين بكتب التراث وروايات الرواة الذين يؤكدون صحة كلامه هو، حيث ينقل شذرات من روايات تمدح الرشيد، ويتجاهل عامدًا روايات وإشارات أخرى تؤكد أن ما في الليالي ليس كله من قبيل المبالغات، لا في حق الرشيد ولا في حق المعتضد بالله ولا في حق غيرهما من الخلفاء، الذين وردت أسماؤهم في بعض الليالي.

وفي حين يجلب لنا حكاية عن طباخ قصر الرشيد، ليؤكد أن الرشيد كان ممتنعًا عن شرب الخمر، يورد لنا المؤرخ نبأ ويريد منا أن نصدقه، حيث لم يأتِ ذكره في أي رواية موثوقة عن الرجلين، يقول ابن خلدون: "أمر الرشيد بحبس أبو نواس الشاعر لما بلغه من انهماكه في معاقرة الخمر حتى تاب وأقلع".

3

هكذا استقرت المصفوفة النقيض، التي تعبِّر عن الطبقات المهمشة في "الأدب الشعبي" عمومًا، وفي حكايات "ألف ليلة وليلة" على وجه الخصوص، لدرجة أنك سوف تقرأ في هذه الحكايات تفصيلات للطرق البدائية في صناعة الخمور، والأشربة الأخرى، وتطورات النظرة إليها باعتبارها قادرة على ممارسة فعل السحر، للتخلص من الأعداء، مثلما هي المعادل الموضوعي للانسجام والانتشاء والاستمتاع بلذائذ الدنيا.

في الليالي من المؤكد أنك سوف ترى جارية تغني في مديح السكر، ويصل الأمر إلى الاستعانة بقصائد وأشعار قالتها العرب في مديح فضائل السُكر وضرورات العربدة، وهي كغيرها من أشعار الليالي، نتيجة القريحة الشعرية العربية عمومًا، التي تناقلها كَتبة الليالي، الذين كانوا في غالبيتهم الساحقة في مصر من الأزهريين، حَفظة الشعر العربي القديم.

سنكتفي الآن بقراءة أبرز النماذج التي تناولت السكر في "ألف ليلة وليلة" بوصفه حالة إنسانية طبيعية جدًا، كما تناولته أيضًا بوصفه "حيلة سحرية" يلجأ إليها البطل أحيانًا للتخلص من أعدائه بعدما يعجز الفعل البشري أو الأسطوري عن الحركة، وهي مجرد نماذج على ما في الليالي من خمور وسكارى بطول القصص وعرضها، وتكاد الحكايات كلها تتفق على أن شرب الخمور صنو للغناء والحياة السعيدة، كما أنها تعتبر تجنب السكر نوعًا من تجنب السعادة أو الإغراق المفرط والضار في الحزن، ففي حكاية "ابن التاجر البغدادي واسمه أبي الحسن"، في الليلة السادسة والثلاثين بعد الأربعمئة، تقول شهرزاد إن ابن التاجر أصيب بحالة انتشاء بالمال عقب وفاة أبيه: "فأكل وشرب ولذّ وطرب وخلع ووهب وجاد بالذهب ولازم أكل الدجاج وفض ختام الزجاج ـ أي فتح زجاجات الخمور ـ وقهقهة القناني ـ أي سمعت أصوات الكؤوس وهي تقرع طربًا ـ واستماع الأغاني"، وتواصل القصة أنه "لم يزل على هذا الحال، إلى أن مال المال، وقعد الحال، وذهب ما كان لديه وسقط في يديه، ولم يبق له بعدما أتلف ما أتلف، غير وصيفة خلفها له والده من جملة ما خلف، وكانت الوصيفة هذه ليس لها نظير في الحسن والبهاء والكمال، والقد والاعتدال"، وبعد طول امتداح لفضائلها يتبين أنها الجارية "تودد"، التي قدمت نموذج المرأة العربية المثقفة، التي تفوقت على علماء الدين والطب والتنجيم، في تحدٍ حضره خليفة المسلمين هارون الرشيد، وأغلب أهل العلم في ذلك الزمن.

وفي كل حكايات الليالي، يمكنك أن تصادفَ سكيرًا في أي مكان، سواء في غرفة جانبية يتعاطى اللذة مع جارية في قصر الأمير، أو في دار ضيافة مر بها عابر سبيل مصادفة، أو على شاطئ نهر، أو على سطح سفينة تعبر البحار، ولا فرق أبدًا بين رجل يجلس في قصر وآخر يجلس في كوخ، لأن الاثنين سيخططان بذات الكفاءة، لقضاء ليلة سعيدة، مع غناء جارية، حتى لو كان اشتراها قبل دقائق وركبا معًا السفينة عائدًا إلى دياره، ويمكن أن يطلب منها الغناء لتبدأ حفلة السكر، وهم وسط البحر، مثلما رأينا في "حكاية رجل في بغداد من أولاد أهل النعم مع جاريته"، التي تحكي عن عاشق تعلق حبًا بجارية لكنه فقدها وبعد طول يأس وجدها على متن سفينة لأحد الأغنياء الذي اشتراها بماله، فاقترب منها حزينًا يائسًا لأنه كان فقد ماله، وباتت هي في قبضة رجل آخر يطلب منها الغناء للبحارة ولو من وراء ستار، تقول : "ثم أخرج لهم ما يحتاجون إليه من الخمر والنقل ولم يزالوا يحثون الجارية على الغناء إلى أن استدعت بالعود وأصلحته وأنشدت". 

وفي موضع آخر من القصة ذاتها: "ففرح القوم بي وزاد فرحهم ولم يزالوا في فرح وسرور وأنا أغني ساعة والجارية ساعة، إلى أن جئنا إلى بعض السواحل فرست السفينة هناك وصعد كل من فيها وصعدتُ أنا أيضًا، وكنتُ سكرانًا فقعدت أبول فغلبني النوم فنمت ورجعت الركاب إلى السفينة وانحدرت بهم ولم يعلموا بي لأنهم كانوا سكارى".

4

أما النموذج الأكثر انتشارًا وتكرارًا في الليالي، فهو ما يمكن أن نسميه "أرق الملوك"، فدائمًا هناك خليفة لا يستطيع أن ينام، ودائمًا يطلب وزيره ليسري عنه بحكاية أو بفكرة أو بغناء جميل لجارية، وغالبًا تكون الجائزة الكبرى هي الجلوس والاستماع إلى حكاية على إيقاع المشروب، وغناء الجواري، وفي إحدى الليالي يدخل الخليفة هارون الرشيد في نوبة أرق، فلا يكون أمامه سوى أن يقضي الليلة متنكرًا مع وزيره جعفر البرمكي وأخوه الفضل، وأبي نواس الشاعر في ملابس التجار، "لعلنا نسمع ما لم نسمع، أو ننظر ما لم ننظر، فإذا بهم يتجهون إلى زورق ثم انحدروا في بحر دجلة مع الماء إلى محل يسمى "قرن الصراط"، إلى أن تناهت إلى مسامعهم جارية تغني على العود وتنشد هذه الأبيات:

أقولُ له وقد حضر العُقار     وقد غنى على الأيك الـــهزار

إلى كم ذا التأني عن سرور   أفِق ما العمر إلا مُستعـــــــار

فخذها من يدي خلٍ عزيزِ      بجفنيه فتور وانكســــــــــار"

وفي قصة "حكاية الخليفة هارون الرشيد مع أبي الحسن العماني"، يقول الشاب: "فلما أكلنا حتى اكتفينا رفعت تلك المائدة، وأحضرت مائدة الشراب والمشموم والحلوى والفواكه".

وفي "حكاية المعتضد بالله مع أبي الحسن الخراساني"، كان الخليفة يمر متخفيًا أيضًا مع ابن حمدون، يتفرجان على الرعايا ويسمعان ما يتجدد من أخبار الناس، فحمي عليهما الحر والهجير فجلسا أمام دار حسنة شامخة البناء، إلى أن عطف عليهما صاحب الدار فأرسل خادمين يدعوانهما للدخول، فأكرمهما صاحب الدار بالطعام والشراب، "قال ابن حمدون ثم جاءوا بطبق الشراب، ومجمع شمل الأحباب، وأحضروا الشراب المروق، وبواطي الذهب والبلور والفضة".

ومن دون كل حكايات الليالي تأتي "حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال"، وتحديدًا "حكاية ساعد" وزير "سيف الملوك"، ضمن أحداث الليلة الحادية والسبعين بعد السبعمئة، لتلخص موقفًا جديدًا من السكر في الليالي، وهي قدرته على التأثير السحري، وتحكي رحلة بحث طويلة قام بها "سيف الملوك" ابن ملك مصر، عن محبوبته "بديعة الجمال"، ابنة ملك الجن، وهي قصة استثنائية في الليالي، إذا اعتمدنا قراءة الباحث الكبير في التراث الشعبي، الراحل عبد الحميد حواس، في مقالته "الحكاية ـ البيان تأسيس شكل أدبي حكائي وتكوين ألف ليلة وليلة"، فهي تتضمن مدخلًا يقص شيئا عن القصة، معتبرًا هذا المدخل بيانًا عن الحكايات ومكانتها. يقول حواس: "تحرص حكاية المدخل على إيراد تفصيلات ودقائق من ممارسات الحياة اليومية، كأنها تعمد إلى إبراز النقيض المقابل للخارق وغير الطبيعي، وهذا التباين الذي تبديه حكاية المدخل لا يرسم لونًا مناقضًا ذا أثر جمالي فقط، ولا ينشئ تكوينًا مقابلًا ذا أثر معنوي وحسب، وإنما يحدث ـ أيضًا ـ فرجة لتنفس القارئ والسامع من وطأة الحيزين المهولين المحيطين وإعادة الانتباه إلى أمور الواقع المعيش". 

في هذه الحكاية ترد تفصيلات صناعة الخمر شعبيًا، حيث سقط ساعد وزير "سيف الملوك" مع جملة من صحبه من السفينة فوق إحدى الجزر، فركبت فوق ظهورهم "أقوام مثل العفاريت" ـ في موضع آخر يسميها "الغيلان" ـ وقالوا لهم: "أنتم صرتم حميرنا"، وفي إطار الخضوع للخطر بحثًا عن مخرج للأزمة، يقول ساعد:

"ثم جمعنا شيئا من عناقيد العنب يومًا من الأيام، وضعناه في حفرة بعد أن دسنا بأرجلنا، فصارت تلك الحفرة بركة كبيرة، وبعد مدة ضربت الشمس ذلك الماء فصار خمرًا، فبقينا نشرب ونسكر فتحمر وجوهنا ونغني ونرقص من نشوة السكر، فقال لنا أولئك القوم: أخبرونا عن حقيقة الأمر، فأخبرناهم بأمر عصير العنب".

وهكذا تمكن البطل من القضاء على الأعداء بإقناعهم بشرب كميات هائلة من الخمر، إلى أن سكروا تمامًا فأشعلوا فيهم النيران، ونجحوا في التخلص منهم بسحر الخمر، الذي يمثل جانبًا من جوانب تناولها في الليالي، إلى جوار الجانب التقليدي في الحكاية الواقعية، حيث تتكرر لحظات تناول الشراب في هذه الحكاية كثيرًا، ربما لأن أحداثها ـ كواحدة من قصص الرحلات في اللياليـ تدور في مناطق شتى من الكرة الأرضية. ثمة حديث عن الكأس والمُدام وقنينة الخمر الذي يأتي دائمًا في أعقاب أي اتفاق، والذي لا بد أن يعقبه الطعام (عيش وملح)، ومن ثم يأتي الشراب: "وبعد أن تحالفت بديعة الجمال هي وسيف الملوك قام سيف الملوك يمشي، وقامت بديعة الجمال تمشي أيضًا ومعها جاريتها حاملة شيئا من الأكل وقنينة ملآنة خمرًا". وفي سياق الحكاية ذاتها: "ثم قعدت بديعة الجمال ووضعت الجارية بين يديها الأكل والمدام فلم تمكثها غير ساعة إلا وسيف الملوك قد أقبل فلاقته بالسلام وتعانقا وقعدا يأكلان ويشربان مدة ساعة".

الهوامش:

1 ـ "ألف ليلة وليلة". طبعة "هيئة قصور الثقافة ـ سلسة الذخائر (14) ـ فبراير 1997.

2 ـ مقدمة ابن خلدون، (ويُمكن مراجعة موقفه كاملًا في فصل بعنوان: "في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها"، الجزء الأول ـ شرح وتحقيق دكتور علي عبد الواحد وافي ـ طبعة "مكتبة الأسرة" القاهرة، 2006).

 

كلمات مفتاحية

ألف ليلة وليلة ابن خلدون