المسجد الجامع في الرَّقة.. بناه المنصور ورمّمه الرشيد
منارة المسجد
أما منارة المسجد الجامع الباقية، فهي أسطوانية الشكل، يبلغ ارتفاعها عشرين متراً تقريباً ويسترعي الانتباه فيها رصف آجرها المتقن، حيث تبدو وكأنها عمود صنع بقالبٍ، وتقع على مقربة من زاوية الرواقين الشرقي والشمالي، وهي تقوم على قاعدة مربعة الشكل، ومن المعتقد أنَّ المنارة يعود إنشاؤها إلى نور الدين زنكي.. إذ أنَّ منارات المساجد في هذا العهد، أسطوانية الشكل، كما هي الحال عليه اليوم في جعبرـ وهي قلعة أثرية تقع غرب مدينة الرّقة على بعد 50 كم عن ضفة نهر الفرات اليسرى.
وتنسب القلعة إلى جعبر بن سابق القشيري الملقب سابق الدين، والذي يرقى للقرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) ولا يعرف عنه شيء سوى أن أولاده كانوا من قطاع الطرق، كما يذكر البعض مثل "ابن خلكان" أن هذه القلعة كانت تعرف قبل نسبتها إلى جعبر بالدوسرية نسبة إلى دوسر غلام النعمان بن منذر وأن تاريخها يرجع إلى ما قبل الإسلام. إلا أن التاريخ الواضح لهذه القلعة يبدأ من استيلاء السلطان السلجوقي ملك شاه بن ألب أرسلان عليها سنة 479 هـ/ 1086م، وهو في طريقه من أصفهان إلى حلب للاستيلاء عليها، حيث حاصر القلعة يوماً وليلة ثم فتحها وقتل من بها من بني قشير، وبعد استيلائه على حلب، أقطع القلعة إلى سالم بن مالك بن بدران الذي استسلم له في قلعة حلب، ومنحه معها الرّقة وكثيراً من ضياعها. وظلّت جعبر بيده ويد أولاده من بعده حتى أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي عام 564هـ/ 1168م. وعندما قامت الدولة الأيوبية دخلت جعبر في سلطتها وأهم أمرائها الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه الذي ملكها قرابة اثنين وأربعين عاماً.
وفي عام 658هـ/ 1260م دمر المغول القلعة عندما عبر هولاكو نهر الفرات قاصداً حلب. وظلّت قلعة جعبر بعد ذلك خراباً حتى عصر السلطان المملوكي الناصر بن قلاوون، حيث وصلها الأمير سلف الدين أبو بكر الباشري مبعوثاً من الأمير تنكز حاكم الشام مصطحباً معه المعماريين والصناع وشرع بعمارتها وكان ذلك عام 735هـ/ 1334م. بعد ذلك أخذت مكانة القلعة تضعف تدريجياً حتى عفا عليها الزمن في العصر العثماني وأصبحت مرتعاً لأبناء القبائل وماشيتهم.
وإذا ما عدنا إلى المسجد الجامع في الرّقة فان منارته العالية التي تتوسط ساحته الرئيسة تعد من بين عدد من أشكال المنارات التي تبنى في العصر العباسي الأول، وهي غالباً ما تكون حلزونية، كما هي الحال في مسجد سامراء في العراق، ومسجد أحمد بن طولون في مصر، إذ يرى الأثريون أنهما قد بُنيا على غِرار هذا المسجد، لذا يمكن القول إنَّ المنارة الأصلية للمسجد قد زالت، وإن مكان وجودها في الزاوية الشمالية الغربية للرواقين الشمالي والغربي بإزاء المنارة الحالية إلى الغرب منها، وبقي من المسجد إلى عهدنا بقية ضئيلة من سوره الخارجي، وكانت هناك متابعة جادة في ترميم السور الخارجي، وهذا ما خفّف من التعدّيات عليه.
إحدى عشرة قنطرة
الزائر اليوم للمسجد الجامع يرى الاهتمام الذي لحق بهذا الأثر الهام، بالإضافة لمنارته الأسطوانية، وواجهة الحرم التي هي بارتفاع ما يقرب من عشرة أمتار، وبإحدى عشرة قنطرة، ودوّن على القنطرة الوسطى وبخط النسخ ما يشير إلى أنَّ ترميم المسجد تمّ أيام نور الدين محمود زنكي في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي.
وتدلّ المشاهدات في المسجد، أيضاً، على أنَّ باباً يَنفذُ من الرواق الشرقي إلى داخل الحرم، كما عُثر في المسجد على بقايا من بلاط أرضية الحرم، وهي الخزف الملوّن الجميل، فيها اللون الأزرق الفيروزي، والأصفر.. وان كانت جدران المسجد الداخلية كلّها مزينة بالخزف الرائع القيشاني الجميل كما هي الحال في المساجد الإسلامية.
خلال العصر العباسي الأول، كما يُظن، فإنَّ الحرم كانت تكسوه قبةً عاليةً زينت بالخزف والقيشان، ويصادف موقعها أمام القنطرة الوسطى حاملةً الكتابة الباقية اليوم، وورد في النصوص التي عدنا إليها أنَّ لهذا المسجد محراباً رائعاً جداً كان يُجمّل هذه الأقواس الخاصة بالقناطر الإحدى عشرة.
وإذا ما تركنا واجهة المسجد، وتجولنا فيه، تُشاهد في فسحته الشمالية الغربية حفرةً كبيرةً كانت قد دلت على التنقيبات الحديثة، وهي عبارة عن خزان مياه يُستفاد منه وقت الشحّ، أو هي أماكن لبيوت قديمة كانت تسكن في ذلك العصر، ويتجاوز عمقها ثمانية أمتار، ويلاحظ أن المصارف المطرية "قساطل" خاصة لتصريف المياه، تصل ما بين الحفرة العميقة والقناطر المذكورة، والتي تُشكل واجهة المسجد اليوم.
السور الخارجي
أما السور الخارجي للمسجد، فقد دُعِّم بعشرين برجاً، استعمل في بنائها الآجر.. حيث يرى بعض هذه الأبراج في الضلع الشمالي للسور، وكانت هذه الأبراج تعلوها قباب بنيت من الآجر، تستند على أعناق مثمَّنة الشكل، زينت بزخارف رائعة كما هي الحال في بغداد الموقع الأثري في الرّقة ـ شاهد عصر، ولا يزال قائماً بالشكل الذي يوصف به منذ نشأته، محافظاً على بنائه اللهم في بعض الأماكن نجد جزءاً من التصدّعات والتآكل بدا واضحاً نتيجة التقلّبات الجوية، من أمطار ورياح، علاوةً على القصر العباسي في الرّقة، قصر البنات ـ بيمارستان، ولعلَّ جنود الأمير أو الخليفة كانوا يرابطون في هذه الأبراج أيام الجمع، وقت الصلاة، وكذلك أيام الأعياد، وفي كل صلاة.
المطلوب هو العمل على الاهتمام بالمسجد الجامع نتيجة الخراب الذي لحق بأجزاء منه من قبل عناصر الدولة الاسلامية "داعش" التي اعتدت على قسم كبير منه، كما نأمل العناية بحديقة المسجد الجامع، وصيانة رصيفها وبشكلٍ دوري، ومعالجة مبنى روضة "البلابل" القريبة من الموقع الذي صار عبارةً عن بؤرة لتجمّع الأوساخ، وهو الإطلالة المباشرة التي يقف حيالها السائح القادم لزيارة هذه الآبدة الأثرية المتميّزة.
فالاهتمام بهذا الصرح الأثري، وإزالة المخلّفات التي تحاذيه من جهة الشمال التي ُتثير الاشمئزاز، صارا مطلباً ملحاً، ويفضل تحويل مكان الروضة المهملة إلى ساحة عامة، أسوةً بغيرها ليتسنى لأهالي الحيّ تنفّس الصعداء، والهدف من ذلك الاهتمام بهذه البقعة الأثرية الجميلة التي لا تزال قائمة في الرَّقة.