اليشماغ ودلالته من الملك كوديا إلى ساحة التحرير

وارد بدر السالم 16 يوليه 2020
إناسة
الملك كوديا (2146- 2112 ق.م) أول من لبس اليشماغ
لم يكن بين كوديا وساحة التحرير وسط العاصمة العراقية بغداد إلا فاصلة زمنية. ربما هي طويلة بحساب الوقت العراقي الشاسع، تقع بين خمسة آلاف إلى سبعة آلاف سنة، لكنها كافية لأن تتجذر في روح البلاد والعباد وتستدعي ثقافة الماضي عبر إشارة واقعية في أسطورتها الملكية، من خلال زي السومري كوديا، الملك العراقي القديم العادل ومحب السلام.

أيضًا تُعد فاصلة زمنية ثقافية بموروثها التاريخي والشعبي والفولكلوري؛ عندما تستدعي زاوية الرصد الثقافي أن نكون على وعي مباشر بيوميات الانتفاضة الشبابية وروحها المشتركة بين النساء والرجال. لهذا فبنات العراق ونساؤه؛ وفي لحظة تاريخية عظيمة؛ ردًا على أطروحات الميليشيات؛ استعرنَ من ملكهنّ القديم كوديا يشماغه الملكي ذا الأصداف السمكية، بديلًا عن الحجاب والشال والقبعة، ليكون أيقونة من أيقونات الثورة بملامح شبابية نسائية، تؤكد الكثير من المعاني الإيجابية الموروثة منذ ذلك الزمن البعيد.



اليشماغ الذي أعيدت صياغته ثوريًا من قبل نساء العراق ليغطي الرؤوس وينفرش على الصدور والأكتاف، هو يشماغ الملك العراقي السومري كوديا؛ المؤمن؛ العادل؛ الذي وضع حدًا لنفوذ كهنة المعابد، ووضعهم على خطوط مستقيمة اجتماعيًا ودينيًا من دون تجاوز الحرمات الاجتماعية، ليُنشيء ثقافة جديدة في عصر، هي ثقافة العدل والسلام والمواطنة الصالحة التي سادت في العصر السومري الذهبي وما بعده.
لذا فإن العودة إلى ذلك الماضي بوعي له علاقة بما يحدث الآن. فاليشماغ السومري بما له من شأن عظيم وقتها، وكون الذي أسبله على رأسه ملكًا معتدلًا وعادلًا؛ حارب فقهاء الظلام وحجّم أدوارهم الكهنوتية ونشر السلام المجتمعي، ليتحول إلى رمز من رموز الإصلاح في موازنته بين سلطات الحاكم وكهنة المعابد، مثلما تحول اليشماغ في عهده إلى رمز من رموز مرحلته حتى توارثته الأجيال وإلى هذا اليوم.
إن الاستبدال الذي تحول فيه اليشماغ من العصر الملكي حتى ساحة التحرير هو استبدال تاريخي ثقافي، التقطه الحاضر بوعي وشجاعة ليكون ضمن الأنساق الاجتماعية اليومية في موازاة انتفاضة الشباب العراقي، ويجعله متنًا من المتون الثقافية التي يُعتد بها، وحلّة من حلل الجمال النسائي العابق بروائح التراث والتاريخ في أنساقه الجمالية التي تمتد مع الزمن، لتكون شاخصة من شواخص الحاضر. ويكون هذا الإشراق الملكي الثقافي القديم إحدى دعائم وعي الانتفاضة ومساراتها الفنية التي دأب عليها الشباب في استحضاراتهم اليومية، وهم يديمون زمنها بصبر تاريخي يستطيع كل متابع ملاحظته.



هذا الرافد التاريخي الذي استجدّ في ساحة التظاهرات هو ما يتيح لنا القول بأنه العودة إلى التراث السومري في ثقافته وبحلّته الشعبية على رؤوس ووجوه وصدور وأكتاف النساء باستعمال (اليشماغ) ذي الصبغة العراقية التاريخية بديلًا عن رباط الرأس والحجاب القسري؛ في إشارة إلى العمق الوطني القديم والإرث الثقافي الذي بقي شاخصًا لا في المناهج التعليمية إنما في السلوك اليومي الاجتماعي إلى حد كبير.
إن استحضار هذا الأنموذج الملكي على رؤوس النساء هو حالة من حالات الاستبدال الضرورية التي وجدتْ في يوميات الانتفاضة حاضنة كبيرة للتماهي والاعتزاز والفخر بأن تكون ثقافة الماضي معبّرة في جزء من أزيائها، ما يجب أن نعدّه علامة واضحة في تشخيص الوعي الشبابي الذي يستقدم التراث والتاريخ في زيه القديم.
إذًا النسق الشعبي ببعده التاريخي يتقدم كمتنٍ من متون الانتفاضة وفارزة ثقافية استقدمت الرمز الملكي بشكل مباشر بتأثيراتها المحلية والشعبية، وجعلت من ساحة الانتفاضة ثورة معرفية أحاطت بالماضي بشكل جليّ، واستدعت كوديا، الملك، الحاكم، العادل، المصلح، الذي وضع كهنة الدين أمام معطيات مجتمعية لا يمكن تجاوزها باسم الدين وتجاوز إرادة الشعب الحر في حياته ويومياته المتنافذة مع طموحاته في العيش الكريم.


إن شيوع اليشماغ على رؤوس وصدور الفتيات، بالرغم من كل ردود الأفعال الحكومية والميليشياوية غير المنضبطة أمام حالة ثورية جديدة؛ فاجأت لصوص المنطقة الخضراء وأدخلتهم في أقصى حالات الإنذار النفسية والشخصية والاعتبارية. ولا شك أن للمرأة دورًا لا يستهان به في هذا المد الثوري الناجح؛ تلك العراقية التي صورها تخلفهم على أنها عَورة فأثبتت أنها ثورة بالرغم من كل الظروف المتخلفة التي أنتجها المد الديني المتطرف والمتخلف. ومن الجامعات العراقية وكلياتها ومعاهد التنوير الكثيرة خرجت طالبات العراق أسرابًا تتلو أسرابًا في ساحة التحرير وغيرها من ساحات العراق، يعتمرنَ يشماغ كوديا التاريخي بدلالاته الرمزية الكبيرة. ويستعدنَ الإرث السومري بإرادة وطنية خالصة بعد أشهر شهد فيها العراق تحولات سياسية مهمة، ولا نزال نأمل بتحولات حقيقية أكثر إيجابية.



سومريات التظاهرات الجديدات أثبتنَ لسياسة العمائم الملغومة في المنطقة الخضراء بأنهنّ حفيدات الملوك السومريين وحفيدات عشتار وشبعاد؛ ملكات التظاهرات وعنفوان الأنوثة في أوج تطلعاتها لمستقبل أكثر قوة. ومثلما هو استدعاء تاريخي مقصود، فإنه بعد كل هذه الفترة أضاف لمعركة جانبية شنّها تيار فاسد يمنع فيها اختلاط الجنسين، فجاءت ثورة اليشاميغ لتؤكد أهمية الاختلاط بين الجنسين في عراق مدني لا يمكن أن تستبيحه شراذم ميليشياوية تأخذ من الدين قشرته القديمة في محاولة إلصاق فكرة فصل الجنسين بين شباب وشابات القرن الحادي والعشرين في ثورة التكنولوجيا الإلكترونية، غير أن انتفاضة اليشاميغ النسائية أجابت بعد يوم واحد فقط أن مثل هذا الفصل التعسفي لا يمكن له أن يجري على أرض الواقع الثائر والمتمدن.


في الإطلالة التاريخية الموثوقة فإن السومريين هم مبتكرو اليشماغ العراقي ومعناه غطاء رأس الكاهن العظيم. وتشكيله الفني يشبه شباك صيد الأسماك في الأهوار العراقية. وأول من لبس اليشماغ هو الملك كوديا في الفترة (2146 - 2112 ق.م) ورمز اليشماغ بأرضيته البيضاء وتقاطعاته السوداء (وأحيانًا الحمراء) التي تشبه زعانف الأسماك وأصدافها ارتبط بطرد الأرواح الشريرة في الأسطورة السومرية. ثم أصبح لباس الأمراء والكهنة في العصر السومري، ومن ثم انتقل إلى عامة الشعب وقد توارثه سكان الأهوار من أسلافهم السومريين قبل آلاف السنوات ليكون هو الغطاء المعتمد على الرأس حتى اليوم. ومع أن انتفاضة التحرير بصباياها وشابّاتها ونسائها اعتمدن اليشماغ رمزًا من رموز الانتفاضة في مرحلة أخرى من المراحل المتطورة للانتفاضة، فإن صبغته السومرية الكودوية تسبغ على واقع الحال في ساحة التحرير، وكأنما الملك كوديا يمر من هنا ويمسح على رؤوس النساء ويبارك لهنّ انتفاضتهنّ وثورتهنّ البيضاء.

(بغداد)

كلمات مفتاحية

السومريين العراق الثورات العربية الموروث العربي