عِمارةُ السّاحات.. فضاءٌ يبحثُ عن أنفاسِ الحَياة

محمد جميل خضر 10 أبريل 2021
عمارة
ساحة بيازا في روما (Getty)
التصميمُ الجماليُّ لِلمدينة، أيْ مدينة، يبدأُ مِن تشكيلِها المورفولوجيّ Morphological، وصولًا إلى تنسيقِ المواقعِ، أوْ ما يُمكنُ أنْ نُطلقَ عليهِ مَجازًا: عِمارةُ السّاحات Landscape Architecture.
مُحَدِّداتٌ تشكيليةٌ وبصريّةٌ، تتجلّى بمجموعِها، لتصبحَ الوجهَ المشرِقَ لِلمدينة، هويّةَ تعريفِها عن نفسِها للمارّين من هُنا، نافورةً باهرةً سيظلُّ السّائحُ الذي زارَ هذهِ المدينةَ، أو تلكَ، يتذكّرها، تمثالًا يرْوي حكايةَ عراقةٍ، فضاءً مفروشًا بالرّخامِ يسردُ بعضَ تاريخِها، تفاصيلَ تعكسُ عبقًا من بِداياتِ نهضتِها.
وقدْ ترتبطُ بعضُ السّاحات والميادينِ بمحدّداتٍ وظيفيةٍ، كَما هي حالُ معظمِ مساعي العِمارةِ الإنسانيةِ على مَدى التّاريخ، ولَو أنّ البعدَ الوظيفيّ هُنا، لا يحتملُ مفردةَ (قَد)، فالبُعدُ الوظيفيُّ كامنٌ، لا بُدّ، في كلِّ حجرٍ من حجارةِ الساحة، وكلِّ مقعدٍ من مقاعِدها. يكْفي أنْ تكونَ السّاحةُ مُتنفّسًا للنّاس لتصبحَ لَها وظيفةٌ.
بعضُ وظائفِ السّاحات اُجترحِت مِن لَدُن النّاس، ولمْ تكنْ بِبالِ من صمّمها ومن أنشَأها: ميدانُ التحرير في مصر، على سبيلِ المِثال، لم يضعهُ المسؤولونَ هُناكَ ليصبحَ رمزًا حقيقيًّا للتحريرِ بالمعنى والمبنى، والتحرّر من بطشِ النّظامِ ومِن ذلِّ الفقرِ، ولِيتجمهرَ الخلقُ فيهِ فَلا يبْرحونَه قبلَ أن تتحقَّقَ مطالِبهم: (عِيش (خبزٌ)، وحريّة، وعدالةٌ اجتماعيةٌ، وكرامةٌ إنسانيّة).
وفي سياقٍ متّصل، ينبتُ هُنا سؤالٌ ظريفٌ: هل صمّمت الدّولة البريطانيةُ حديقةَ الـ(هايد بارك) Hyde Park من الأساسِ لتكونَ منصّةً لمتحدّثي يوم الأحد مِمّن يعتلونَ الزّاويةَ المُخَصَّصَةَ لَهم Speakers Corner؟ أمْ لعلّ الناسَ مِن تِلقاءِ أنفسِهم احتلّوا ذلكَ المَكانَ من بينِ مفرداتِ الحديقةِ الملوكيّةِ التي أنشأها في عام 1536، الملك هنري الثّامن بهدفِ جعلِها مساحةً شاسِعةً للصّيد، فحوّلوهَا إلى مِنصّةِ تعبيرٍ عن الرأْي، جاعلينَ مِنها فضاءً حرًّا لهم، ومِنبرًا لِقولِهم ما يريدونَ وما يُضْمِرونَ، وتفجيرِهم بعضَ موجباتِ غضبِهم مِن أنظمةِ الكوْن ومحدِّداتِ الرّوح ومقيّداتِ الفطرةِ على سجيّتها الأُولى لحظةَ الوِلادة؟

عراقة ساحة الفاتيكان 


توازنٌ أخّاذ
تحتاجُ السّاحة كيْ يكونَ لها معنى عام، وكي تكتملَ أركانُ نهوضِها بما يُرادُ من وراءِ تركِها تحتلُّ مساحةً رئيسيّةً من مِساحاتِ المَدينة، أن تقيمَ توازنًا فَذًّا بيْنَ تخطيطِها الحضريّ وتصميمِها العِمرانيّ. وأنْ تعْتني بتفاصيلِ عناصرِها المكوّنةِ لَها، لكيْ تتلاءمَ مع الشّكلِ الجماليِّ العام. وأن تَجْري عندَ التفكيرِ بتصميمِ ساحةٍ أو حديقةٍ أو ميدانٍ، دراسةَ الأبعادِ البصريّةِ، وإبرازَ الهويّةِ الثقافيةِ لِلمدينةِ، لِما لهذهِ الفضاءاتِ مِن انعكاساتٍ على النّاسِ مِن مُختلفِ النّواحي السيكولوجيّةِ Psychological، والفسيولوجيّةِ Physiological، وغيرِها.
لا بُدَّ، إذًا، من توازنٍ أخّاذ، يُراعي الذّوقَ العام، وينسجِمُ، إنْ لمْ يَتَماهى، مع قيمِ محيطِ السّاحة (الفضاءِ الحضريّ)، ومع موروثِ المدينةِ الجماليّ والمِعماريّ، ومع فلسفةِ العِمرانِ في عينِ المَكان، من دون أن يُديرَ الظّهرَ لِمحدّداتِ هذا المَكانِ البيئيةِ والتضاريسيّة والمُناخيّة والجيولوجيّة، حتّى لا تكونَ السّاحة ضربًا في المَندلِ، أو رميًا عشوائيًّا لِحجارةِ النّرد.


السّاحاتُ لَوْحات

يحتاجُ العقلُ العمرانيّ العربيّ إلى تطويرِ مفاهيمِه الخاصّة بالسّاحات العامّة والميادينِ الجامِعةِ، وصولًا إلى التعاملِ مع السّاحةِ بوصفِها لوحةً تشكيليةً مكتملةَ الأرْكان. ولكي يتحقّقَ ذلك، لا بدّ أنْ يحوزَ المعماريُّ المصمّمُ على درايةٍ عميقةٍ بِأُسسِ تشكيلِ اللوْحة، وهي الأُسسُ التي يمكنُ تلخيصُها بالآتي: التّكوين Composition، الكتلةُ والفَراغ mass and space، الخطوطُ والأشْكال lines and shapes، الألوانُ والملامِسُ والخاماتُ colors and textures and materials، النسسبةُ والتّناسُب Proportion، وأخيرًا وليسَ آخِرًا الهويّةُ الثقافيّة Cultural Identity.

في اللوحةِ التشكيليةِ المكوَّنةِ أساسًا من بعديْنِ فقط، يحتالُ الفنّانُ التشكيليُّ على البعدِ الثّالثِ باستخدامِ المَنظور، أمّا في السّاحة فنحنُ من البدايةِ أمامَ ثلاثةِ أبعادٍ. يعرّف القاموسُ الأميركيّ AHEDL، الفراغَ العِمرانيَّ بِأنّهُ: "مجموعةُ عناصرٍ تتحقّقُ مِن خلالِها خصائصُ هندسيةٌ ذاتُ أبعادٍ ثلاثيةٍ في مجالِ الخبرةِ اليوميّة". أمّا "الموسوعةُ العربيةُ العالميّة" (ط1، 1996) فتعرّف المِساحةَ أنها ما اتّسعَ مِن الأرضِ. وتعرّف الفضاءَ أنّه المكانُ الواسِع.
المعماريّ الفلسطينيّ/ السوريّ، جهاد الصفديّ، يعرّف في كتابِه "أسسُ التّصميم والتّشكيل الفنيّ" (2008) التصميمَ المعماريَّ أنّه:
"تخطيطٌ وابتكارٌ يرتكزُ إلى معطياتٍ معماريةٍ معينةٍ، ومن ثمّ إخراجُ هذا التخطيطِ لحيّزِ الوجودِ، وتنفيذُهُ في الأماكنِ والفراغاتِ لأغراضٍ مختلفةٍ، باستخدامِ موادَّ مختلفةٍ، وألوانٍ مناسبةٍ بتكلفةٍ مناسِبة".
أما الباحثُ الفلسطينيّ، عمر جلال عينبوسي، فيعرّف في أطروحتِهِ لنيلِ درجةِ الماجستير من جامعةِ النّجاح، التصميمَ بأنّه: "عمليةُ خلقِ شيءٍ لَهُ مَعنى يتعلّق بمجموعةِ الاحتياجاتِ الإنسانيّة". (عينبوسي "التصميم المعماريّ الداخليّ بينَ تعدديةِ المفاهيمِ الفكريةِ في القرنِ العشرين"، 2012، ص2).
الأغراضُ التي تحدّث عنها الصّفدي، والاحتياجاتُ التي تطرّقَ إليها عينبوسي، تضعُ التصميمَ أمامَ استحقاقاتٍ لَها عُلاقة بالوظيفةِ المُرادُ تحقيقَها من وراءِ تصميمٍ ما. وَلكن، وفي حالةِ التصميم الخارجيّ المتعلّق بِساحةٍ أو ميدانٍ عام، أينَ موقِعُ الفنِّ خلالَ متوالياتِ هذه الوظيفَة؟ ومتى يأتي دورُه؟ وهلْ يتعارضُ البعدُ الوظيفيُّ مع البعدِ الجماليّ؟
لعلّ الإجابةَ كامنةُ، في هذا السّياق، داخلَ مفرداتِ الوعيّ المجتمعيّ حول مَعنى الضّرورة (وعيُ الضّرورةِ في المصطلحِ الماركسيّ)، المرتبطِ (الوعيَ أقصُد)، حُكْمًا بِمرجعياتٍ ثقافيةٍ وعقائديّةٍ وحضاريّةٍ ومدينيةٍ لا يمكنُ القفزُ عنْها.

من ساحات عصر النهضة - ازدحام ما قبل التباعد 


لعلّ ساحاتِ عصرِ النّهضةِ، في سياقِ الدّلالةِ هُنا، تشكّل أفضلَ تمثيلٍ لارتباطِ قيمِ الجَمالِ بالوعيّ المجتمعيّ، وبما تعبّر عنه مرحلةٌ مِعماريةٌ فنيةٌ أدبيّةٌ قيميّةٌ أخلاقيّةٌ، من مراحلِ التاريخِ، وما تعكِسهُ من ثورةٍ على سابِقتها. فعصرُ النّهضةِ لم يهدمْ ساحاتِ روما ومدريد وبرلين وفيينّا وباريس وغيرِها، بل أضافَ عليها روحَه؛ ففي حينِ خَلَت ساحاتُ عصورِ حُكْمِ الكاتدرائياتِ من التماثيلِ، فإنّ ساحاتِ عصرِ النّهضةِ غصَّت بِها. هذا ما تبوحُ بِه، على سبيلِ المِثال، ساحةُ ديلا سيغنوريا في فلورنسا الإيطالية، (وفي تسميةٍ أُخرى: ساحة السيادة)، إذ يصعبُ على زائرِ تلكَ السّاحةِ أنْ يُغمِضَ عينيهِ عن روعةِ التماثيلِ التي تعجّ السّاحةُ بِها.
ساحةٌ مركزيةٌ قربَ قصرٍ قديمٍ كانَ يتّخذه أمراءُ فلورَنسا مقرًا لهُم، في قلبِ فلورَنسا النّابض، المزدحمِ (لوْلا كورونا) دائمًا بالزّوارِ المنتشِرينَ على امتدادِ مقاهي السّاحةِ الشعبية، المتجوّلينَ بين الحاراتِ العريقةِ والأزقّةِ القديمةِ المُحيطةِ بالسّاحة، تقفُ شامِخةً هُناك مجموعةٌ فريدةٌ من التماثيلِ والأعمالِ الفنيّةِ التي تعودُ إلى عصرِ النّهضة.
تماثيلُ تملأُ باقِي ساحاتِ فلورَنسا، فها هو الزائرُ/ السّائحُ يقفُ مبهورًا أمامَ تماثيلِ ساحة الجمهورية (ديلا ريبابليكا) بِشكْلِها المستطيلِ مِن طِراز القرن التاسع عشر، وتماثيلِ ساحة سانتا كروشي الحامِلةُ، بِتصميمِها الكلاسيكيِّ، اسمَ كنيسةٍ قُرْبَها، وتماثيلِ باقي ساحات المدينةِ التي حضنتْ، ذاتَ مجدٍ، أحلامَ الفنانِ والمخترعِ الإيطاليّ ليوناردو دافنشي (1452 ـ 1519)، وشكّلت محطّة مهمّةٍ من محطاتِ أعظمِ فناني عصرِ النّهضةِ، وأشهرِ الفنانين على مَرِّ العُصور.

الشواهدُ على تطوّرِ مفهومِ الساّحة انطلاقًا من عصرِ النهضةِ لا حصرَ لَها، مِنها "ساحةُ إسبانيا" في روما وساحاتٍ إيطاليةٍ كثيرَة. أمّا في فيينّا فقد وضعوا التماثيلَ على جدرانِ الكاتدرائياتِ المطلّة على ساحات، كَما هي الحالُ مع كاتدرائيةِ القديسِ استيفان والسّاحةِ المفتوحةِ أمامَها على امتدادِ قلبِ المدينةِ وليسَ بعيدًا عن مربّعِها الذّهبيّ. الأمرُ نفسُه عندَ الحديثِ عن ساحةِ الفاتيكان (ساحة القديس بطرس)، حيثُ تماثيلَ لا حصرَ لَها تعْتلي محيطَ السّاحة فوقَ الأعمدةِ والجدرانِ التي تؤطّرها على الجانبيْن، وفي المنتصفِ مدخلُ الكاتدرائيّة المزدانُ سطحُه، إلى ذلك، بتماثيلَ وتفاصيلَ تجعلُ الكاتدرائيةِ (مع حِسبةِ تفاصيلِها الداخليةِ بلوحاتِها العالميةِ) تحفةً فنيّةً ترْتقي فوقَ المطلبِ الوظيفيّ نحو المَنحى الإبْهاريّ والذّوبانِ الروحيّ المشعِّ بِقيمِ الجَمالِ والتّماهي مع شجونِ البصرِ وآفاقِ البصيرَة.


ساحاتُ التاريخ
تجلّت الساحاتُ العامّةُ في عِمارةِ الحضارةِ الأردنيةِ النبطيّة، بوصفِها مكانًا يتجمعُ الناسُ فِيه. هذا ما تقولُهُ لَنا ساحةُ السّوقِ أوْ ساحةُ النّدوةِ التي تَلِي البوابةَ التِذكاريةَ بالقربِ مِن معبدِ البِنت. هذهِ السّاحةُ تمثّل نموذجًا مهمًّا للسّاحات العامّة عندَ الأنْباط، حيثُ زوّدت السّاحة، التي يُرجّح بناؤها مطلعَ القرنِ الميلاديّ الأوّل، بِمصاطبَ حجريةٍ ومدرجاتٍ ومقاعِدَ على جانبيّ جِدارها الجنوبيّ.
بالانتقالِ إلى الحضارتيْن الإغريقيّة والرومانيّة، فإنّ كثيرًا من المصادرِ تُرجّحُ أنّ الأترسكانيينَ (800 إلى حوالي 500 قبلَ المِيلاد) كانوا أصحابَ أكبرِ حضارةٍ متقدّمةٍ في إيطاليا، فقد بنَوا طرقًا ومعابدَ ومبانيَ عامّة في روما، كما أنّهم طوّروا التِّجارة وأدْخلوا فكرةَ المجالسِ الشعبيةِ، وتطوّرت في عهدِهم روما، من قريةِ مزارعينَ ورعاةٍ، إلى مدينةٍ مُزدهِرة.
في عهد الجمهورية (503 ـ 30 ق.م) أصبحَ الميدانُ الرومانيُّ العامُّ الواقعُ بينَ (الكابيتول والكويرينال) يجمعُ بينَ أربعِ وظائِف: "دينيةً وسياسيةً وقضائيةً واقتصاديّة. ووزّعت المزاراتُ على الموقعِ بمحضِ المُصادَفة". (مجلةُ الفنِّ المغاربيّ).
بعدَ ذلك، وتحديدًا في عهودِ القياصِرة، أصبحَ هناك ما يُعرف بميدانِ القيْصر، وهُوَ، كَما تصوّرَهُ القيْصرُ نفسُه، مكانٌ يخْلو مِن أيّةِ دلالةٍ رمزيّةٍ أو تاريخيّة، وَلا هُوَ السوقَ المتحركَ الذي تتمازجُ فيهِ أنواعُ الأنشطةِ جميعُها. بلْ أصبحَ الميدانُ العامُّ مكانًا مغلقًا تعبّر هندستُهُ عَن وجودِ سُلطةٍ قويّةٍ ووحيدَة: إنّه مقامُ الدّعاية. بعدَ ذلِك، اقتدى العديدُ من الأباطرةِ بِالقيْصر، فَبنوا بدورِهم، ميادينَ عامّةٍ مستوحاةٍ مِن هذا المَعنى.
السّاحاتُ في الوعيِ الرومانيّ تأثّرت بالوعيّ اليونانيّ (مجموعةُ مبانٍ تتوزّع حولَ ساحةٍ رئيسيةٍ كان يُطلقُ عليْها اسمُ آقورَة) والفرعونيّ (مسلّاتٌ تتوسّطُ السّاحات) وغيرهما، ولكنّها أضافت للحضاراتِ التي سبقتْها هذا البُعد العنيفُ للساحاتِ والميادينِ والمدرجاتِ والمسارح: المصارَعةِ حتّى الموت. مصارعةٌ بين بشرٍ وحيواناتٍ مفترِسة. مصارعةٌ بينَ بشرٍ وبَشَر. مصارَعةٌ بينَ حيواناتٍ وحيْوانات. المُهم أنْ يقتُلَ أحدٌ أحدًا، وسطَ تصفيقِ المشاهدينَ وتهليلهِم وحماسِهم الدمويِّ غريبَ الأطوارِ عجيبَ المُتَع!!
بقطعِ مسافةٍ تاريخيّةٍ، مرّت السّاحاتُ خلالَها بجدرانِ العصورِ الوسطى، وساحتِها العموميةِ الوحيدةِ في قاعِ المدينةِ (وسطِها). وبلمعةِ النّورِ في عصرِ الباروكِ بينَ المَبنى والفَرَاغ، حيثُ زادَ التلوينُ، وفاضتْ عن آخرِها المُفردات، واستُخدِمَ المنْظور، فإنَ ساحاتِ الثّورةِ الصِّناعيّةِ انْحنت أمامَ جبروتِ الآلةِ وحاجةِ تلكَ الآلةِ لعمّال ومشغّلينَ وأدواتِ إنتاج. فإذا بِالسّاحاتِ مواقفَ تحميلٍ وتنزيل ومرآبَ سيّارات. لَقد جَرى تصميمُها كعنصرٍ منظِّمٍ للحركةِ، ما أفقدَها كثيرًا من جَماليّاتِها ووظائِفها الخاصّةِ بمدِّ المدينةِ بمتنفّسٍ وفضاءٍ حضريٍّ ومشهديّة فنيّةٍ معماريّةٍ مُبهرِة.

لمْ تعُدْ الميادينُ العامّة، إذًا، قيمةً مضافةً للمشهدِ المرئيّ وَلِجمالياتِ البيئةِ المُحيطة، وصورةِ المدينةِ بشكلٍ عامٍ، وبِما يُحقِّقُ تأثيراتٍ نفسيةٍ إيجابيةٍ على مستخدمي المكان، واسترخاءٍ واستمتاعٍ بأوقاتِ فَراغِهِم، ما أثّرَ على مفرداتِ تصميمِ تلكَ السّاحات، وعلى فلسفةِ عمارتِها.


ساحاتٌ وَأْرزاق

قد تتجلّى السّاحةُ الكُبرى في مدينةٍ بعينِها، بوصفِها ميدانَ رزقٍ للنّاسِ من مختلفِ الأطيافِ والمِهنِ والمرْجعيات؛ هذا ما تبوحُ بِهِ، على سبيلِ المِثال، ساحةُ جامعِ الفَنَا في مرّاكشِ المغربيّةِ. ومَا تُخبرنا بِه ساحاتٌ أُخرى كثيرة: أسواقُ الأيامِ المفتوحةِ في كثيرٍ مِن المُدن (سوقُ الجُمعة، سوقُ الأحد، الخميس، الأربعاء، وبِما يشملُ بِجمعِها، كلَّ أيامِ الأُسبوع).
هذه الوظيفةُ التي لا لُبسَ فيها، تطلّبت مواصفاتٍ مِعماريةٍ بسيطةٍ وواضحَةٍ وضوحَ حاجةِ النّاسِ لأبوابِ رزْق: لا زخرفاتٍ قدْ تنالُ من حظِّ المساحةِ المفتوحَة، لا جُدران، لا قواويرَ زراعةٍ أرضيّةٍ إسمنتيّة، لا تماثيلَ قدْ تبلْبل أذهانَ المُشترينَ الآتينَ من ثقافاتٍ لا تحبّذ تلكَ التماثيل. وهكذا دواليك. المتعةُ في موضوعِ البيعِ نفسِه، في الشرفاتِ المطلّة على الساحةِ الكُبرى، مزروعةً بِمقاهٍ ومطاعمَ (ساحةُ الفَنا نموذَجًا) يستفيدُ منها الطّرفان: صاحبُ المطعمِ أو المقهى الذي يؤمّن زبائنَ مستفيدًا من ضرورةِ السّاحة، والزّبون الذي يقضي ضرورةَ الأكلِ أو القهوةِ أو الشّاي، وهًو يمتّع نظرَه بمشهدِ السّاحة الضاجّة (لوْلا كورونا) بالنّاسِ والخلْقِ وتعدّد الثقافات، والتنوّع غيرِ المُنتهي من أشكالِ طلبِ الرزقِ، بدءًا مِن أبسطِها: العصائرِ الطبيعيّة، وصولًا إلى الشّعوذةِ، وترويضِ الأفاعي، وفِرقِ العزْفِ والرّقصِ والغِناء.

ساحةُ جامعِ الفَنا، المغرب - ميدانُ رزقٍ لا يَنتهي 


ساحاتُ الحريّة
تجلّت السّاحاتُ العربيّةُ في عَشْريّةٍ ماضيةٍ بوصفِها مواقعَ احتشادٍ وتراصٍّ لجماهيرَ ملّت أنظِمتها، وذَبحها لا تناوبيّة تلكَ الأنظِمةِ ولا ديمقراطيّتها، وقمعيّتها، وخياناتِها، وفسادِها. بعضُ تلكَ السّاحاتِ صنعَت الفارِق وتخلّصت مِن الطّاغية: شارعُ الحبيبِ بورقيبة في تونس العاصِمة، ميدانُ التّحرير في قلبِ القاهِرة، الساحةُ الخضراءُ في طرابُلس ليبيا. بعضُها مُحيَ من الذّاكرة، أو تغيّرت ملامِحه، أو حُرِم الناسُ من الوصولِ إليه: دوارُ اللؤلؤةِ في مسقطِ البحرين (مَحو)، ميدانُ جمال عبد النّاصر في عمّان الأردن (تغييرُ ملامِح)، ميدانُ العباسيينَ في دِمشق سوريّة (حرمانٌ من الوُصول). أُنجزِت في قلبِ تلكَ الميادينِ ثوراتٌ (تونس)، وانقلبَ على بعضِها عِصاباتٌ (اليمن وسورية)، وعانَت بعضُها من ثوراتٍ مضادّة (مصر وليبيا). بعضُها لا يزالُ ينتظِر: ساحةُ رياض الصّلح في بيروتِ لُبنان، ساحاتُ الاعتصامِ في خرطومِ السّودان، وساحاتُ الاحتجاجِ في الجزائرِ العاصِمة: وَريس أودان، البريدُ المركزيّ، أوّل مايو، الحريّة (حرية الصحافة)، وساحة الشهداء.
عِمارةُ الأرضِ سوفَ تعيدُ المجدَ والمَعنى لِتلكَ السّاحات. وبأيِّ تصميمٍ أو تفاصيلٍ مِعماريّة، سوفَ ينفخُ عشّاقُ الحريّة في عروقِها أنفاسَ الحَياة.

ميدان التحرير - القاهرة