الخطُّ الحديديّ الحجازيّ.. دروبُ الرمقِ الأخير

محمد جميل خضر 28 أغسطس 2021
أمكنة
السلطان عبد الحميد الثاني ومسار الخط الحديدي الحجازي

لا أحسب أن مشروعَ مواصلاتٍ على مرّ العصور تعرّض لما تعرّض له الخط الحديدي الحجازي مطالع القرن العشرين من استهدافٍ وتشكيكٍ وتعطيل، وصولًا إلى التخريب والتدمير.
يبدو أنه، بحسب وجهة النظر الغربية الاستعمارية، لم يكن مجرّد خط سكة حديد تسير فوقه القطارات والقاطرات. لكن السؤال الملح هنا: هل كان كذلك (مجرّد وسيلة مواصلات) بالنسبة للسلطان عبد الحميد الثاني (1842 ـ 1918) راعي حلمه والمتمسّك بإنجازه، رغم كل الوَهَن الذي أصاب الإمبراطورية العثمانية في أخريات أيامها؟
الحقيقة التي يتفق معظم المراقبين حولها أن الخط الذي شغل العالم منذ انبثق مثل وعد كبير، وحتى قدْحُ الحديد على الحديد، تجلّى بوصفه حبلَ إنقاذ، أفقَ خروج من أزمات بدأت تعصف بالسلطنة العثمانية مترامية الأطراف، هلالَ توحيد لبلدان الأمة الإسلامية.
هكذا رآه السلطان الذي كان لتوّه قد رفض بيع فلسطين، وهكذا أراده.
من هنا كانت مراقبة الإمبراطورية البريطانية لمراحل الإنجاز حثيثة، ومن هنا تدخلت حتى في خط سيره، إذ يذكر الباحث والأكاديمي التركي، د. متين هولاكو، في كتابه "الخط الحديدي الحجازي" الصادر عن دار النيل عام 2011، بترجمة عربية لمحمد صوّاش، أن الإنكليز اقترحوا، إثر خشيتهم أن يشجع إنجاز الخط العثمانيين على شن هجوم برّي ضد مصر، أن "يمتد الخط بشكلٍ مستقيمٍ على أرض منبسطة خصبة، وأن يكون خط سيره من مدينة بصرى السورية إلى أراضي ما وراء النهريْن السفليّة" (صفحة 225). يريدون، كما هو واضح، أن يمر الخط قريبًا من البحر، فيصبح في مرمى نيران مدافع السفن البريطانية.
على صعيد التشكيك، أشاعت السلطات البريطانية، أن "إنجاز المشروع صعب للغاية"، لأن "إنشاء خط على مسافة طويلة مليئة بالعقبات الطبيعية وغير الطبيعية، إضافة للأزمة المالية التي أحاطت بالدولة العثمانية من كل حدب وصوب، ستمنع هذا التنفيذ وتجعله مستحيلًا" (هولاكو، ص 223).
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل زعمت بريطانيا التي بدأت أيامها تتراجع عن كونها (عظمى)، أنّ (كثيرهم) أن يمدّوا خطًّا حديديًّا بين مكّة وجدّة بطول 75 كيلومترًا فقط، هذا إن قدروا، حتّى، على هكذا إنجاز متواضع، وقالت (بالفم المليان) واللهجة المتهكّمة: "إن إصدار السلطان عبد الحميد أوامره بتنفيذ المشروع وتوصيله إلى المدينة المنوّرة بأقصى سرعة، ما هو سوى أضغاث أحلام وأخْيِلة باطلة" (ص 223).




لم يكونوا وحدهم المرجفين الساعين بإلحاح وضراوة إلى تعطيل المشروع، فها هي شركة فرنسية ترفض نقل معدات إنشائية خاصة بالمشروع عن طريق بيروت ـ مزيريب، وها هم العسس بعيون أجنبية، يراقبون ويكتبون ويرسلون.

تفاصيل مشعة في قطار الحجاز


سباق مع الزمن، وصراع مع المحيط الأقرب والأبعد، ومع أبناء الدين ممن يشبهون قطّاع الطرق وصائدي الجوائز، سباق بدأ عام 1900، وانتهى عام 1908، وتحديدًا في الأول من أيلول/ سبتمبر من ذلك العام، باحتفالات في المدينة المنورة ومدائن صالح (العُلا) وحيفا ودمشق، دشّن المحتفلون خلالها خطًّا ممتدًّا على طول 1200 كيلومتر، قاطعًا مدنًا وحواضرَ وفيافي ووهادًا ومنعطفاتٍ ومنعرجاتٍ طبيعية وتضاريسية وجيوسياسية.
ولمّا كان حجاج دمشق يستغرقون 40 يومًا ليصلوا المدينة المنوّرة، وأزيد من شهرين في طريق عودتهم من الديار المقدسة. ولمّا كانت رحلة الحج محفوفة بالمخاطر والمشقّة، الذاهب إليها مفقود، والعائد منها مولود، فإن الخط الحديديّ الحجازيّ جعلها أشبه باحتفالية كبرى، يقطع الحجاج خلالها المسافة المذكورة أعلاه (1200 كيلومتر) بثلاثة أيام فقط، وينعمون بزرعٍ بذرة الشركس في محطة الزرقاء، وبصلوات محاطة بالطمأنينة، وبقطارات تموسق لهم دروب الصحارى، بلحن البخار النضير.



عِمارة المحطات

بهاء محطة الحجاز في دمشق 


أتقن المهندسان؛ التركي/ السوري/ الدمشقي (عرب) عزّت باشا العابد (1855ـ 1924)، والألماني هاينرش أوغوست مايسنر (1862 ـ 1940) عملهما. بالنسبة للعابد، فنعته هنا بلقب المهندس قد لا يكون له علاقة مباشرة بالهندسة في بعدها الأكاديمي والمهنيّ، بل بكونه، كما يصفه المراقبون والمؤرخون (مهندس) مشروع الخط الحديديّ الحجازيّ، وأكثر من أقنع السلطان عبد الحميد بمواصلة التمسك بالمشروع/ الحلم، من دون أن ينفي ذلك، كما تشير الأحداث وتوثق التواريخ، إلمامه (على الأقل كشغف وهواية) ببعض معطيات هندسة المدن، والهندسة الحضرية، فمن دون بعض المعلومات الأولية على الأقل حولها، ما كان أتيح له مواصلة بناء الحلم مَدْرجًا مَدْرجًا من مدارج القطار المرسوم في وجدانه درب خلاص. ثم إنه أكثر من أغوى نجله محمد علي العابد (1867 ـ 1939)، الذي أصبح في ما بعد أول رئيس جمهورية في الدولة السورية الناشئة بُعيد رحيل العثمانيين، وأقنعه بِدراسة الهندسة في جامعة السوربون الباريسية. فالهندسة، كما هو واضح، على ما يبدو، كانت تسكن أعماق روحه، وهو الذي تبوأ أعلى المناصب في الدولة العليّة.




المهندس الآخر، الألماني، كان صاحب الحسابات الدقيقة، والعقلنة الممكنة لجعل الأمر ممكنًا، إلا أن الأمر لم يخل من تردده أحيانًا، لكن قوة الدفع العنيدة من جهة أحمد عزت باشا، والسلطان عبد الحميد، ومعهما مهندسون عثمانيون، في المقدمة منهم المهندس مختار بك، الذي قام بتحديد مسار الخط، رائيًا أن الدروب التي تسلكها قوافل الحج والتجارة منذ القدم، والمارّة عبر الأردن، هي الأنسب والأكثر جدوى.





جمال العِمارة في محظة المدينة المنورة 

الإتقان يتجلّى في المباني التي ما تزال شاهدة على روعة المنجز، ومتانة الحلم. بالجسور التي مرّ، ولا يزال يمرّ، من فوقها قطار الحجاز. بالأنفاق التي قلّلت من وعورة تلك الدروب. بحسن التعامل مع جيولوجيا الأمكنة التي سوف يمرّ عبرها قطار الحجاز. بحسن تقدير المسافة بين المحطة والمحطة. بالقرميد الأحمر الشاهد على العراقة والعتاقة. بتصميم القاطرات، وأسس تبويب درجاتها، ووظائفها. هندسة عابرة للمدن والبلدان، خطّها من حفروا مداميك الخط العتيد، فإذا به يجري لمستقرٍّ له. عبق من العمارة العثمانية، مع كثير من الواقعية، فلا مآذن هنا ولا قباب زرقاء، بقدر ما يشمخ الحجر الأحمر حتى يومنا، وبقدر ما تسطع محطة المدينة المنوّرة، على سبيل المثال، فإذا بها تحفة معمارية، تسخو، ثم تزهو، بمفردات فرادتها.
ليس مصادفة، إذن، أن مباني محطات الأردن على الطريق الطويل للخط الحجازيّ، لا تزال بكامل هندامها وصلابة أعوادها: الزرقاء، عمّان، القطرانة، معان، ومحطات أخرى غيرها.



إضاءات
بحسب الكاتب الأردني، جهاد المحيسن، في مقال نشره في جريدة "الغد" الأردنية، فإن مشورات كثيرة صبّت جميعها في صالح مدّ الخط الحديديّ الحجازيّ، يذكر منها في مقاله مشورة الشيخ جمال الدين الأفغاني (1839 ـ 1897) الموصوف بأنه أحد أعلام التجديد الإسلاميّ، إذ أسهم، بآرائه وفكره، في دعم حلم السلطان، فهو مثل عبد الحميد، كان "يؤمن بقوة الوحدة الإسلامية، ويسعى إلى إقامة حكومة إسلامية تنضوي تحت رايتها الشعوب الإسلامية جميعها، ومن البدهي أن إنشاء الخط سيسهل هذا التوجه. ففضلًا عن الأهداف الدينية المتمثلة في تسهيل سفر الحجيج إلى الديار المقدسة، فإن فكرة الإنشاء انطوت، كذلك، على بعد سياسيٍّ تمثّل في ربط البلاد الإسلامية مع بعضها بطريق حيويّ، وهذا بدوره لا بد أن يفضي إلى هدف عسكري، يتمثل بتشديد قبضة السلطان عبد الحميد على الولايات العربية التي يمرّ عبرها الخط، لا سيما أن قناة السويس كانت خاضعة لسيطرة بريطانيا التي كانت تتحكم، وقتها، بمرور الجيوش العثمانية عبرها، وكانت السفن العثمانية تقف أحيانًا لأكثر من شهر حتى يُسمح لها بالمرور".




بحسب المحيسن، إلى ذلك، فإن من الإضاءات المهمة المتعلقة بالخط: "تطوير العلاقة بين البدو والفلاحين الأردنيين من جهة، وبين الأردنيين والسلطة المركزية العثمانية من جهة أخرى، والإسهام بتأسيس نواة مركزية للأسواق أدّت إلى تغيير حقيقي في علاقات السكان بعضهم ببعض".
أمّا بحسب المؤرخ الفلسطيني، جوني منصور، فالإضاءة المهمة هي، كما يرى في كتابه "الخط الحديدي الحجازي: تاريخ وتطور قطار درعا ـ حيفا" (2008)، "تطوير اقتصاد المنطقة"، إضافة لما حققه الخط من "ربط الداخل السوري بالساحل، وبالتالي ربط بلاد المشرق بالعالم الخارجي، وخصوصًا أوروبا".



قطارٌ وجِدار
بالنظر إلى أوضاع تركيا اليوم، والنظر إلى ما كان عليه وضع الدولة العثمانية عندما قرر أحد سلاطينها، رغم كلّ شيء، إنشاء الخط الحديديّ الحجازي، فإن عبارة "ما أشبه اليوم بالبارحة" لا تعمل أبدًا، ولا تصلح إطارًا للمقارنة، ففي حين أصرّ عبد الحميد الثاني على إكمال مشروعه في أكثر لحظات الامبراطورية مترامية الأطراف وهنًا، رائيًا فيه حبلَ وصال، وفتح آفاق جديدة مع شعوب المنطقة التي كان كثير منها يتبعون سلطنته، ويدينون بعلاقات ممتدة ومتشابكة معها، فإن تركيا الحديثة، وهي في أكثر لحظاتها مناعةً وانفجارًا تنمويًّا واقتصاديًّا وصناعيًّا وسياحيًّا، تقرر إقامة جدار فصل بينها وبين حدودها الشرقية، وربما على امتداد هذه الحدود من شمال شرقها وحتى جنوبه!

أحد الجسور الباقية التي كان يمر عليها الخط الحديدي الحجازي 


السبب المعلن لهذا الجدار الذي قد يصل طوله إلى 560 كيلومترًا، هو منع اللجوء غير الشرعيّ، فهل كانت إسطنبول (الأستانة) يومًا سوى هذا المزيج الخصب ومتعدد الأعراق والقوميات، الذي شكّل موزاييكها الهادر، ومدّ موجها بمرجان التواصل؟
ثم إن معظم اللاجئين إليها من إيران هم أناس ملّوا حكم الملالي، فهل نفرضه عليهم رغم أنوفهم، ونبني بينهم وبين أحلامهم جدارًا شاهقَ التجهّم قليلَ (حتى لا أقول عديمَ) المَرْحَبا؟
وإن كانت الخشية من لاجئي أفغانستان، فإن أحد أهم عرّابي درب التواصل مع المحيط، هو علّامة من أصول أفغانية (جمال الدين الأفغاني كما أسلفنا قبل قليل)؟
تختنق علامات التعجب، وينسحق السؤال تحت حجارة جدران أخرى، ترتبط بمساعي فصل عنصري، كما هو حال جدار الصهاينة في فلسطين، وكما هو حال الجدار الذي رحل ترامب ورحل معه إلى غير عودتهما، مشروع بنائه بين الولايات المتحدة الأميركية وبين المكسيك.
مثل دروبِ رمقٍ أخير، يتشعّب لمعانُ الحديد، تصقله كلما كاد يصدأ، عجلاتُ المدى الذي لا يُحد.. زفراتُ الأَبَد.