ميونيخ.. الفن وحديقة النباتات والتشرّد

عارف حمزة 27 سبتمبر 2021
أمكنة
نافورة نبتون في ساحة "الحديقة النباتية القديمة" في ميونيخ
ثلاث مرات دُعيت إلى ميونيخ للقراءة فيها، كان آخرها في عام 2018 في مهرجان ميونيخ الدولي للأدب. انقطعت بعدها الدعوات بسبب وباء كورونا. وللأسف، كان حظ ميونيخ سيئًا مع هذا الوباء، الذي جعل أبواب هذه المدينة الغنية اقتصاديًا وتاريخيًا وسياحيًا تُغلق في وجه القراءات والزيارت والسياحة.
في بداية هذا العام، تلقيتُ اتصالًا من كاترين، منسقة المجموعة التي تعمل في مبنى "بافليون" ضمن حديقة النباتات القديمة في ميونيخ، وكانت عبارة عن دعوة للإقامة في ميونيخ لمدة أسبوع، للاطلاع على عملهم لإعادة الحياة الفنية إلى تلك الحديقة الشهيرة في قلب المدينة. وكل ذلك كان مرهونًا بهبوط أعداد المصابين بفيروس كوفيد ـ 19، وإلا ستُلغى تلك الدعوة. تابعتُ عملي في المكتبة من دون أن أعلق أملًا على انحسار الوباء، متأكدًا بأنني لن أذهب إلى ميونيخ هذا العام أيضًا. ولكن الدعوة وصلت، وكذلك البرنامج، وبطاقات السفر، والحجز الفندقي، في بداية شهر نيسان/ أبريل، رغم أن الإقامة ستكون من 27 تموز/ يوليو إلى 2 آب/ أغسطس. قلت لنفسي إنهم متعجلون، ولديهم أمل كبير في إنهاء حصار كورونا للمدينة منذ أكثر من عام ونصف عام. عندما تلقيتُ الدعوة كان قد بدأ الجيل الثالث من متحوراته اللعب في بريطانيا، واكتشفوا شخصًا مصابًا في ألمانيا. وأين؟ في ميونيخ بالذات. إنهم مصرّون على الخروج ضد الوباء. قلت في نفسي، لأن الألمان لهم ذلك التنبؤ القاسي، سواء القسوة في الأمور الجيدة، أو في السيئة منها.



فراغ هامبورغ

نافورة نبتون في الحديقة النباتية في ميونيخ


مضت الأيام والأسابيع بسرعة، واستقليت القطار السريع من محطة هامبورغ الرئيسية إلى ميونيخ، في رحلة تدوم عادة حتى سبع ساعات. انتابني شعور إيجابي لأن محطة هامبورغ لم تكن فارغة، كما كانت عليه خلال الأشهر الطويلة السابقة.
كنتُ أشعر بالأسى كلما ذهبتُ إلى هامبورغ ولا أجد تلك الحشود في محطة القطارات وهي تتلاطم باتجاه دواخل المدينة التي تسهر حتى الساعات الأولى من الصباح. في تلك الأوقات المُبهجة، يشعر أحدنا، حتى وهو يمشي في شوارع هامبورغ، بأنه ضمن مترو مليء بالركاب.
في هذه المرة، كان هنالك بشر كثيرون في محطة القطارات، ولكن لم يكونوا بتلك الأعداد الكبيرة التي تمنعك من رؤية موضع قدميك وأنت تحاول الخروج من إحدى بوابات المحطة الضخمة.




سبع ساعات في القطار السريع تعني وقتًا طويلًا للقراءة ومشاهدة الأفلام، خاصة أن شبكة الإنترنت الخاصة بالقطار تكون متاحة للجميع. ولكنها تعني كذلك سبع ساعات من دون تدخين، وهي عقوبة صارمة لشخص مثلي لا يعرف كيف يتصرف مع يديه من دون تدخين مثلًا.


قطار الشوارع
بمجرد خروجي من محطة القطارات في ميونيخ، أشعلت سيجارة. كانت كاترين تتحدث بينما ضباب الإدمان كان يأخذ بدماغي إلى مكان آخر. ولكنني عدت إلى رشدي لأن كاترين أمسكتني من يدي قبل أن يدهسني الترام.
قالت لي: لو أنك غير مدخن كنت ستنجو من دوني حتى، لأنك كنت ستظل يقظًا. هي إشارة ربما للإقلاع عن التدخين. قلت لها بأن الأمر أبسط من ذلك بكثير. أستطيع أن أقف في مكان آمن وأدخن، ولكنني قضيت سبع ساعات من دون تدخين، وبكمامة أيضًا. المسألة لا تستحق هذه المجازفة الأخطر، وهي التوقف عن التدخين!
نسينا هذا الموضوع مباشرة عندما وصلنا إلى حديقة النباتات القديمة في قلب ميونيخ. وجلسنا على أحد المقاعد ندخّن سوية!
وصف "القديمة" في جملة "الحديقة النباتية القديمة" تدلّ على قدم الحديقة الآن، وليس على قدم النباتات التي فيها. فهذه الحديقة أمر بإنشائها بدءًا من عام 1804 الملك البافاري ماكسيميليان جوزيف (1756 ـ 1825)، وتم افتتاحها في 23 مايو/ أيار 1812، على مساحة تقرب 4 هيكتارات في قلب المدينة الأغنى ماديًا واقتصاديًا في ألمانيا، من أجل أن تضمّ النباتات القديمة النادرة، كما فعل أحد ملوك بافاريا وجمع عشرات الآلاف من القطع الأثرية القديمة من اليونان، وهي تُعرض الآن في متحف اليونان القديم.
في عام 1854، تم بناء القصر الزجاجي داخل الحديقة، والذي لم يعد موجودًا الآن، بعد تعرضه للقصف خلال الحرب العالمية الثانية. كذلك ألحقت بها حلبة للتزلج على الجليد، ولكنها ما عادت موجودة هي أيضًا.
خلال الحرب العالمية الثانية، تضررت كذلك "نافورة نبتون"، التي تتوسط قسمًا من المتنزه. وأعيد ترميمه في ما بعد إنشاء "كونست بافليون"، وهو جناح صغير مخصص الآن لمعارض الفن المرئي المعاصر. بينما القسم الأخير من الحديقة هو "حديقة البيرة"، وألحق فيه مبنى أثري تم ترميمه بعد الحرب، يُسمى بكافيه بارك.


إقامة شاعرية

اللجنة المنظمة لكونست بافليون اختارت هذا العام إقامات مختلفة ومتعددة، مثل إقامة لمخرجة أفلام، وأخرى لفنانين كلاسيكيين، وثالثة لفناني الفن الحديث، ورابعة لنحاتين، وأخيرة لكاتب، من أجل إعادة الحياة للقسم الفني في هذه الحديقة، بعد سنتين من الشلل الذي فرضه وباء كورونا، طالما أن القسمين الباقيين (حديقة البيرة والمتنزه نفسه) لم يموتا بسبب ذلك الوباء.




كانت إقامتي شاعرية، كما لو أنني كاتب من عصر الملك ماكسيميليان. فالفندق لم يكن فندق تشارلز الفخم، الذي في كل صيف يضع مطبخًا شرقيًا وعربيًا، لأن نزلاءه يكونون من العالم العربي، بل في فندق مارينا الصغير والحميمي، الذي تديره امرأة وزوجها. والشاعرية تعني كذلك أن أنزل من الفندق وأمشي باتجاه الحديقة على القدمين لمسافة 400 متر، مارًا بساحة "كارولينا".

 أحد مداخل الحديقة النباتية القديمة في ميونيخ 


في كل يوم، كان عليّ أن أمرّ بكارولينا بلاتس أكثر من مرتين. وكارولينا هي زوجة أحد ملوك بافاريا. كارولينا تسكن قبرين في ميونيخ، قبرها، وهذا النصب الذي ينتصف ساحتها، وتحيط به خطوط قطار الشوارع (الترام)، حتى أنني فكرت بأن استمرار جريان قطارات الشوارع حولها، والضغط على سككها أكثر نحو الأسفل كل مرّة، قد يؤدي إلى اقتطاع الساحة هذه، ونزولها يومًا ما نحو أعماق الأرض، لتعود كارولينا إلى قبرها في المقبرة الملكية، وتنتهي أخيرًا من غيابها عن البيت!


قمر ميونيخ

في إحدى نوبات الأرق، ذهبت وجلست على مقعد مقابل للنصب الذي يدل على كارولينا. بقيت هناك حتى الرابعة صباحًا تحت نظرات كارولينا. والمطر الخفيف هو الذي أيقظني من شرودي، ووقوعي تحت سحرها، وهو الذي أمسك بيدي وعاد بي إلى الغرفة 24 من الفندق القريب.

"بمجرّد سهو بسيط،
وهو يحدثُ كثيرًا في هذه المدينة،
يذهبُ بي الطريقُ بعدها إلى كارولينا بلاتس
لا أُعاتبُ نفسي عندما أجدُ نفسي فجأة هناك
وأرى حزوز حديد الترام وهو يحفرُ الإسفلت بدقة وبهدوء.
كل صباح أمر بكارولينا بلاتس
وكل مساء عندما أعود إلى الفندق
ولكن ذلك يحدث أكثر من ذلك خلال اليوم
عندما أسهو فجأة وأنا ذاهب إلى المطعم العراقي
عندما أسهو وأنا في طريقي إلى بائع الدخان
عندما أسهو وأنا في طريقي إلى كنيسة النساء
فأجد نفسي هناك.
أصعدُ إلى الغرفة وأنا أعرف بأنني لن أفعل شيئًا
أطفئ الضوء فيصيرُ البرقُ قمرًا في الغرفة
أسمعُ الرعدَ
رعد ميونيخ
وهو يُذيب الطبقات الدهنيّة للسماء".

إحدى جلسات النقاش في الحديقة النباتية القديمة التي ينظمها قسم الفن في بافليون في ميونيخ


وكانت الشاعرية تتبدّى كذلك في وضعهم لي طاولة للكتابة داخل الحديقة. ولكنني لم أستعمل تلك الطاولة سوى مرة واحدة. مرة واحدة جلستُ خلف تلك الطاولة، وكان المارة ينظرون إليّ، مندهشين ربما من وجود مكتب من دون جدران. فقط طاولة يجلس إليها رجل من الشمال.
سألتني "آلينا" إذا كانت الطاولة أعجبتني. رددتُ عليها بالإيجاب. سألتني إذا كنتُ كتبتُ، أو سأكتب شيئًا، وأنا جالسٌ إليها. قلتُ لها بأنني لا أحتاج إلى طاولة للكتابة!
في تلك المرة الوحيدة التي جلستُ فيها إلى الطاولة جاء إليّ شاب أفريقي يترنّح في مشيّته بسبب الكحول. سألني عن الذي أبيعه خلف هذه الطاولة.
كلمات. قلتُ له.
قال لي بأنه قرأ عن ذلك مرة في إحدى الروايات عندما كان في بلده. ولكنه لا يتذكر الرواية الآن.
قلتُ له إن هذا صحيح. وبأنه يعيش الآن داخل هذه الرواية.
نظر إليّ مندهشًا، وطلب مني سيجارة لكي تُساعده على مزيد من الخيال، فأعطيته السيجارة وأشعلتها له، ولكنه سرعان ما تركني وخرج من الرواية!




هنا تنتهي الشاعرية، شاعرية المكان، وشاعرية المدينة، وشاعرية كل شيء. فهذه الحديقة الكبيرة والواسعة والشهيرة تُعرف كمكان مفضّل لدى المتشرّدين. نام وينام على عشبها وتحت أشجارها رجال ونساء من مختلف الأعراق.
وتنتهي تلك الشاعرية، وذلك الاخضرار، عندما تشاهد قدوم البوليس الألماني أكثر من مرّة، وبشكل مستفز ليطلبوا من بعض الناس، الذين يختارونهم وفق خبراتهم ونظراتهم، أوراقهم الخاصة بالإقامة، أو يقومون بتفتيش بعض الشباب الأفارقة خاصة، وبتفتيش حاجياتهم، باحثين عن مخدرات، أو مسروقات، أو أسلحة بيضاء.
كريستسنا فونيكا روائية ألمانية، عادة ما تذهب إلى تلك الحديقة للتأمل والراحة. ولكن عندما تقوم بترجمة كتاب ما من اللغة الإيطالية تذهب إلى مقبرة المدينة القديمة، التي تضم رفات كثير من عمالقة الفن والأدب الألماني، مثل ماكس فيبر. ومرة طلبت من البوليس تفتيشها هي أيضًا، عندما كان يقوم بتفتيش بعض الشباب الجالسين حول المكان.
تتبدّد تلك الشاعرية عندما تجد آثار سيارات البوليس وقد حفرت في أرضية الحديقة، ودهست في طريقها بعض العشب والأزهار، ولكن فريق العمل في "كونست بافليون" يتابع عمله بهدوء لإعادة إظهار الفن البافاري، والذوق البافاري، سواء الكلاسيكي منه، أو الحديث. إنهم ينتقدون رجال البوليس الفظين أولئك، ويصنعون مقاعد للمتشردين، بعد أن قام البوليس بسحب مقاعد كثيرة، أو بتقسيم تلك المقاعد لكي لا تصبح مكانًا لنوم المتشرد!
في إحدى حلقات النقاش على العشب، وفي الهواء المفتوح، كان يجلس بالقرب منا متشردان. ينصتان إلى الشعر، وإلى محاضرة عن كوارث العمران الحديث، والأسعار الخيالية للشقق، وكذلك للطلبات في الكافيه بارك.
كان المتشردان يدخنان ويستعيران بعض البيرة التي جلبها منظمو النقاش. كانا على راحتهما؛ لأنهما يعرفان تلك النسوة من قسم الفن، اللاتي يحترمن هؤلاء المتشردين من دون أسئلة بغيضة تشبه أسئلة البوليس.
في إحدى حلقات النقاش، سألتني طالبة من جامعة ميونيخ عن الذي أتمناه خلال إقامتي هذه، فقلت لها من دون تردد: أن آتي في الليل وأنام مع هؤلاء الأصدقاء على العشب، وبين ممرات الأزهار. فنظر إليّ المتشردان، ورفعا قنينتيهما نحو الأعلى، وكأنهما يقولان لي: أهلًا بك!


*الصور بعدسة الكاتب.