بين الفلامنكو والرقص الشرقي

رشا عمران 13 يناير 2022

رغم أن الفلامنكو رقصة يمكن أن ترقصها المرأة بمفردها مثل الرقص الشرقي إلا أن الاختلاف بينهما ليس في حركات الجسد فقط وإنما بما تدل عليه في رقصة الفلامنكو، حيث المرأة حاضرة بذاتها، تسيطر على المكان المُخصص لها بثيابها المزركشة التي تخفي أكثر مما تبدي. جسد راقصة الفلامنكو لا يهتم بأحد غير نفسه، يعلن حضوره الصاخب عبر صوت طقطقة كعب الحذاء الذي ترتديه على الخشب، عبر شموخ الرأس إلى الأعلى وعبر استقامة الظهر. ورغم أن الإغواء هو صفة ملازمة للرقص عمومًا فإنه في الفلامنكو يظهر في الحضور الكلي العلني للراقصة، وفي الاستقلالية المطلقة لها، كما لو أنها ترقص في مواجهة العالم أو الزمن أو التاريخ، حتى حين يشاركها رجل في الرقص، فمشاركته لها مستقلة؛ كونان متوازيان يرقصان معًا على الأرض، لا أحد يقود الآخر. ينظران كل في عين الآخر أو في قلبه، بندية واضحة وعالية، فيها من استقلالية الجسدين بوصفهما كونين أو عالمين مختلفين أكثر مما فيها من التلاحم والانصهار، وإن كان التناغم الإيقاعي يوحي بتلاحم متوار خلف ستائر الجسدين الممشوقين للراقصة وشريكها.

يمكننا توصيف الفلامنكو (رقص وموسيقى) بأنه حالة فنية مرتبطة بالهوية، حالة انتماء لمكان متعدد الهويات، يعبر عنها بالفن، فقد تجلى شكله وتطوّر إلى ثيمة خاصة بالتحرّر بعد سقوط غرناطة، بعد انتهاء حكم الإمارات الإسلامية في بلاد الأندلس، هو مزيج من الطرب الغرناطي وموسيقى شمال أفريقيا وإيقاع التروبادور الشعري الجوال والصوفية اليهودية القبالية، في مزيج بديع مشتق من الديانات التوحيدية الثلاث، وصار مع الأيام خاصًا بغجر إسبانيا الذين استخدموا آلة الغيتار ذات الأصل الشرقي (العود)، وحناجرهم ذات الأصوات العميقة والدافئة، وأزياء نسائهم المزركشة: فساتين طويلة مطبعة بالورود  مكشوفة الكتفين، بحيث يبرز طول العنق تحت الشعر الأسود الملموم على هيئة كعكة خلف الرأس، وضيقة عند الخصر لتتسع قليلًا عند منتصف الركبة كاشفة عن طبقات قماشية عديدة منتهية بذيل قليل الطول، مع حذاء بمقدمة ضيقة قليلا وكعب مربع متوسط الطول. بينما الرجال يرتدون قمصانًا بيضاء أو مطبعة بالزهور مع سراويل ضيقة وأحذية مشابهة لأحذية النساء.

سوف يختلف الأمر في الرقص الشرقي عن الفلامنكو، فإذا كان حضور المرأة في الرقص الشرقي موازيًا لحضورها في الفلامنكو فإن قوتها في الشرقي تظهر في الإغواء، كل حركة في جسد الراقصة تبدو أنها موجهة نحو رجل ما، كما لو أن خصر الراقصة يتمايل كخيط خفيّ تلقيه كي يتمسك به الرجل مسحورًا وهو يتبع الأنثى المغوية، كما لو أنها تقوده  ببساطة  نحو ما تريد عبر غواية الجسد وتمايله وتموجه وانسيابه، الجسد الذي تظهر تفاصيله عبر ثوب الرقص الذي يبدي أكثر مما يخفي، لا حاجة هنا لصوت كعب حذاء الراقصة على خشب المسرح، فغالبًا ما تكون الراقصة حافية، كما لو أن الحذاء يدنس المساحة المخصصة لها، ذلك أن تاريخ الرقص الشرقي يعود إلى عصور ما قبل الأديان السماوية، حين كان الرقص متلازمًا مع الجنس المقدس في حالة طقوسية هدفها إرضاء الآلهة عبر غوايتها، كانت هناك آلهة كثيرة ولكل إله معبد خاص به ولكل معبد راقصته أو راقصاته، كل حركة في جسد الراقصة كانت مدروسة وموجهة، لم يكن (الهز) قد ظهر بعد، كان الرقص الإنسيابي التعبيري الذي يجعل جسد الراقصة يتماوج كجسد الأفعى، وليس ذلك غريبًا، إذ لطالما تلازم رمز الأفعى مع الأنوثة، منذ أن أغوت الأولى حواء كي تأكل من الشجرة المحرمة (عززت الأديان السماوية الثلاث هذه الأسطورة وظلت تحمل المرأة ذنب طرد آدم من الجنة)، كما كان تركيز الراقصة على منطقة أسفل البطن حيث يقع الرحم/ رمز الخصوبة، في استدعاء لرضى الآلهة كي تتم عملية التكاثر.

النساء الشرقيات غير المحترفات يرقصن مهما كانت أعمارهن أو أشكالهن، يرقصن لأنهن في الرقص يتوحدن مع ذواتهن


دمجت الديانات التوحيدية الآلهة جميعها في إله واحد وأعطته أسماء مختلفة، وألغت المعابد القديمة بكل ما فيها، صار البغاء المقدس دنسًا، وحرم الرقص مع توالي الأيام، حتى تمت إباحته ثانية في العصرين الأموي والعباسي، فامتلأت قصور وليالي الخلفاء بالراقصات المخصصات للخليفة، كما لو أن المعبد القديم قد تم استبداله بقصر الخليفة الذي كان يتصرف كما لو أنه صورة الإله على الأرض، وبدل البغاء المقدس الموجه للآلهة صار إرضاء الخليفة هو الهدف، هكذا أزيلت صفة القداسة عن رقص المعابد، ليصبح رقصًا أرضيًا مترافقًا مع الغناء والشرب في سهرات الخلفاء الماجنة.

في زمن الخلافة العثمانية ظهر ما يسمى حريم السلطان، ومع الحريم ظهر نوع جديد من الرقص الشرقي المنسجم مع المقامات الموسيقية التركية، التي مزجت بين مقامات عديدة مستمدة من البلاد التي كانت واقعة تحت السيطرة العثمانية، هكذا ظهر (الهز) في الرقص الشرقي، حيث لكل جزء من جسد الراقصة حركته المختلفة، بدءًا من الرأس وانتهاء بالأقدام، مرورًا بالكتفين والثديين والخصر والأرداف، وطبعًا لحركة الذراعين والأصابع مدارس متعددة ومتنوعة تشبه تنوّع المساحة التي تتحرك فيها الراقصة، فمنهن من ترقص ساعات وهي بنفس مكانها، ومنهن من تنتقل بخفة على امتداد المساحة أمامها، ومنهن من تتحرك في زاوية قائمة أو مستطيل وهكذا، بينما الهز لا يتوقف أينما كان مكان الجسد الراقص، ولا يتوقف الإبهار في تنويعات حركات الجسد، في انحناءته وإظهار ليونته وانفعاله وتفاعله، لجسد الراقصة الشرقية صوت يطغى على صوت الموسيقى المصاحبة، صوت الرغبة وصراخ النشوة والانفعال، يضحك جسد الراقصة الشرقية ويبكي ويقهقه ساخرًا من الجميع، ويتوسل ويتعطف ويتعالى ويتجبر ويخضَع ويخضِع ويئن ويحن ويحلق ويسقط ويتصوف ويمجن دون أن تفقد صاحبته ثباتها ولو للحظة، كما لو أنها معجزة، كما لو أنها صورة الأنثى منذ بدء الخليقة، منذ لحظة الإغواء والطرد من الجنة، كما لو أنها كل نساء الأرض في جسد فتي واحد يرقص عن كل النساء.

لا يتقبل الرقص الشرقي التقدّم في السن ولا يتسامح مع خيانات الجسد وترهله، ذلك أن جزءًا كبيرًا من طقوسه قائم على إباحيته وجرأة كشف تفاصيله، الزمن سوف يكون قاسيًا مع هذا الكشف، ستعتزل الراقصة مهنتها بعد مدة، وستمارس مهنة أخرى، التمثيل مثلًا أو تدريب الراغبات الفتيات، أو ستتوارى، في بلادنا، تفرغًا للعبادة! بينما في الفلامنكو حيث تحتاج الراقصة إلى الحضور واللياقة فقط مهما تقدم بها الزمن، ومهما خانتها تهدلات الجسد، فإننا كثيرًا ما نرى عجوزًا ترقص الفلامنكو في مكان ما، دون أن يعيقها سنها عن ذلك، لديها اللياقة ومعرفة تقنيات الرقص والرغبة به، هذا كاف لترقص، بينما الراقصة الشرقية المحترفة تحتاج لما هو أكثر من ذلك كي تستمر في مهنتها.

غير أن النساء الشرقيات غير المحترفات يرقصن مهما كانت أعمارهن أو أشكالهن، يرقصن لأنهن في الرقص يتوحدن مع ذواتهن، يكتملن بذواتهن، يكتشفن دائمًا مناطق مجهولة بدواخلهن، يرقصن لأجل الامتنان لما هن فيه أو لأجل الغضب مما هن فيه، يرقصن لأجل غواية الرقص، تلك الغواية التي فطرت عليها النساء منذ آلاف السنين.