استعادة" المتحف العراقي الوطني".. أحد المكونات الفعلية لديمومة الثقافة
قبل أيامٍ قليلة أعيد افتتاح المتحف العراقي الوطني، ليكون الحدث الأبرز في الساحة الثقافية في أنساقه المعرفية والحضارية. ويُعد المتحف أحد المكونات الفعلية لديمومة الثقافة العراقية الفعلية مصدريًا وتاريخيًا ومعرفيًا. وقد حاولت كوادر المتحف أن تُظهره بصورته القديمة، التي كان عليها؛ قبل أن تستولي على الكثير من محتوياته قوات المارينز الأميركية في أثناء احتلال بغداد عام 2003، ولصوص المتاحف، وحرامية الآثار من دول الجوار المعروفة.
والحديث عن المتحف العراقي الوطني هو حديث عن جريمة كبيرة، استهدفت صرحًا حضاريًا، عمره الرمزي ليس أقل من سبعة آلاف سنة. والجريمة اقترفتها القوات الأميركية التي غزت العراق عام 2003، مثلما هو الحديث عن جريمة اقترفها لصوص محليون، ومقتنو آثار إقليميون، وغرباء وفدوا مع الدبابات الأميركية، لم يكونوا معروفين على وجه الدقة. وكل هؤلاء وجدوا في استباحة بغداد فرصة نادرة، للانقضاض على كنوز أثرية ثمينة يحتفظ المتحف بها منذ عقود، وإخراجها إلى خارج العراق، بالطرق المتاحة كلها في ذلك الوقت وعرضها في المزادات العالمية. ففي المتحف عدد غير قليل من القاعات العارضة للّقى والآثار والتماثيل التاريخية، للعصور الأولى، والعصور السومرية والبابلية والآشورية والكلدانية والإسلامية الأولى والثانية والثالثة. مثلما يوجد فيها عدد كبير من المخطوطات وباللغات المختلفة: الغربية والفارسية والتركية والعبرية والصابئية والسريانية والفرنسية والألمانية والأوردية.
وفيها العديد من نوادر الإهداءات في الكتب والمكتبات المطبوعة والمخطوطة التي تعد بآلاف المجلدات، كهدايا المتحف البريطاني، ووزارة المعارف المصرية، والحكومات الإسبانية والأميركية والايرانية. والكثير من الكتابات الآثارية السومرية والبابلية والآشورية، إضافة إلى المسكوكات النقدية الإسلامية والساسانية وغيرها، ومجلدات الصحف العراقية القديمة، والموسوعات العربية والافرنجية. ويضم المَتحف العراقي 23 قاعة لعصور ما قبل التاريخ (عصور نياندرتال) وفترة اختراع الكتابة في عصر الدولة الأكدية، والعصر البابلي القديم، والفترة الآشورية البسيطة والحديثة، والإمبراطورية البابلية الحديثة، وفترات ما قبل الإسلام، وعصر الحضارة الإسلامية، والعصور المظلمة.
قصة نهب المتحف
بدا المتحف الضخم مثل ضحية حرب غير متكافئة. فلقد افترسته مجاميع من اللصوص وسرّاق الآثار، وصفها مسؤولو المتحف في وقتها بأنها مجاميع متوحشة من عشرات ومئات اللصوص، أخذت تنهش في جسد المتحف بطريقة غريبة ومفاجئة، فإن كانت المجاميع المحلية قد استحوذت على الحواسيب والأجهزة الكهربائية والمستلزمات المكتبية المختلفة في النهب العام، بسرقة السيارات ومخازن الأدوات الاحتياطية للسيارات ومخازن الأثاث وورش النجارة ومخزن المطبوعات، فإن مجموعتين أخريين بدتا أكثر التصاقًا ومعرفةً بكنوز المتحف وموجوداته، وكان ذلك قد حدث بعد يوم واحد من دخول القوات الأميركية بغداد يوم 9 نيسان/ أبريل 2003، إذ سُجل أول تاريخ للنهب المنظم وغير المنظم بهذا التاريخ من قبل لصوص محليين، ليسوا ذوي قيمة؛ لكنّ اللصوصية المنظمة تبعت ذلك التاريخ، من السرّاق المتمرسين عبر سيارات نقل دخلت مع قوات المارينز، ومارست نشاطها الإجرامي تحت هذه الحماية العسكرية، عندما كسروا البوابة الكبيرة، وتدفقوا إلى قاعات المتحف وخزائنه الكثيرة بأعداد كبيرة. وثمة فريق آخر من اللصوص المتمرسين، دخلوا من جوانب خفية من المتحف، من الشبابيك المغلقة؛ حاملين قاطعات الزجاج. وهؤلاء لهم دراية أكيدة بالطرق الخفية التي تقود إلى كنوز المتحف، بدلالة أنهم تركوا التماثيل الجبصية التي كانت تُعرض في القاعات المخصصة لها. وتوجهوا إلى الخزانات التي تحتوي على قطع أثرية مهمة جدًا. وتمت السرقات المنتقاة، التي تدلل على دراية أكيدة بالنوع المسروق. وهؤلاء ليسوا لصوصًا محلين عاديين، إنما هم لصوص دوليون مُختارون بعناية، ويعرفون ما يريدوا سرقته. وكان فقدان خمسة آلاف ختم أسطواني في اليوم الأول، دليلًا على أن هؤلاء جاءوا من أجل أهداف بعينها.
وفي الجرد الأول، وُجد أن كثيرًا من المنحوتات والقطع الأثرية مفقودة، أبرزها تمثال الملك السومري (أنتيمينا) ملك لكش، كذلك فقدان قطعة "إناء الوركاء" وقطعة المرمر السومرية التي يزيد عمرها عن خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وتمثال أكدي مصنوع من البرونز، ويزيد عمره على خمسة آلاف سنة أيضًا، وتمثال بلا رأس، ولقد مُزقت أوتار القيثارة أور وأزيلت النقوش الثمينة والمرصعة بالذهب من على سطحها، ويبدو أن مجموعات اللصوص المحترفة اتجهت إلى قاعات العرض بالمتحف وقامت بسرقة الآثار المتروكة في القاعات مثل الأناء النذري، والتماثيل، والأفاريز الجدارية المزخرفة، والأخشاب، والأبواب المزخرفة، وقطع من الآجر المختوم، واللقى والحلي الموجودة في القاعة السومرية فضلًا عن كسر وتهشيم التماثيل الحضرية وسرقة أجزاء من التماثيل الأشورية.
مجموعة من اللصوص سرقت الآثار الثمينة المخبّأة في غرفة 104 والتي ضمت أنفس الآثار وأندرها في المتحف العراقي، فسُرق رأس الفتاة "من الوركاء" والقيثارة الذهبية وقطع العاجيات المذهبة، والكنوز الذهبية وصناديق آثار متاحف المحافظات، وهذه المسروقات ظهرت بوقت سريع في مزادات أوروبا وغيرها، حتى أن المرافق الحدودية والمطارات العالمية ازدحمت بالمسروقات التالية، وهي ذات أنواع وأحجام وفترات زمنية متعددة. وخلال عشرة أيام فقط، تم إفراغ المتحف من كل محتوياته الحضارية والتاريخية الثمينة. ولم تبق إلا التماثيل الجبصية وبعض المحفوظات البسيطة.
وتسجل إدارة المتحف آلاف المسروقات من القطع النحتية النادرة، والأختام الأسطوانية والألواح الطينية الثمينة ذات العمق التاريخي. ولعل أهم ما تمت سرقته ما يلي:
من الطبيعي أن ترحل كل تلك المسروقات إلى العديد من الدول، كالولايات المتحدة وإيران والأردن ودبي وتركيا وفرنسا وسويسرا واليابان وبريطانيا، في أسواق المزادات الآثارية والتحف النادرة. ولا شك أن الحكومة العراقية المتعثرة، تمكنت إلى حد ما باستعادة بعض ما نُهب من هذا المتحف، وأهمها: إناء (الوركاء الذهبي) الذي يعود تاريخه إلى 3200 سنة قبل الميلاد؛ كما أعيد أيضًا تمثال (سيدة الوركاء) الذي يعود تاريخه إلى 3200 سنة قبل الميلاد، وجزء من منقلة (موقد نار)، وتمثال سرجون الثاني ملك آشور، الذي ضُبط في نيويورك عام 2008. وأعيدت أثقل القطع المسروقة لتمثال مقطوع الرأس لملك لكش السومري أنتيمينا. كذلك أعيدت نماذج لأسوار مدن وكثير من الأختام الاسطوانية والحلي وبعض (العاجيات) الآشورية من نمرود. وما تزال الكثير من المفقودات الأثرية لم يستعدْها المتحف، بالرغم من أنها صودرت من المهربين واللصوص في الأردن وسويسرا وإيطاليا وفرنسا، وتقديراتها بأكثر من 3000 قطعة نفيسة.
من بين قطع المتحف التي لا تزال مفقودة: حجر أسود على شكل بطة صُنع حوالي عام 2070 قبل الميلاد، وجرى استخراجه من مدينة أور القديمة. وهناك قطعة أخرى عبارة عن وعاء مُخدد من الذهب واللازورد من مقبرة ملكية في المدينة نفسها.
استعادات
الجهود المتواصلة والحثيثة للحكومات العراقية المتعاقبة أثمرت عن استعادة وإرجاع الكثير من المفقودات الأثرية والمتحفية، من مختلف الدول العربية والأجنبية، بدءًا من عام الاحتلال 2003 وحتى عام 2011. وأهم ما تم استعادته:
وتأسيسًا على هذه الاستعادات الأثرية، وهي بعشرات ومئات الآلاف، ما يزال العراق يطالب بآثاره المهربة، في جميع الدول العربية والأجنبية، لا سيما استرداد الأرشيف اليهودي، والأثر البابلي الكودورو، الذي يُعتقد أنه يعود إلى حكم نبوخذ نصر الأول.
عن التأسيس
ونحن نستعرض جزءًا يسيرًا من السرقات التي طالت المتحف الوطني العراق إبان الغزو الأميركي، لا بد من تقديم فكرة موجزة عن تأسيسه التاريخي، لتكون صورته واضحة. فهو ذو تاريخ قديم يبدأ من عام 1923 على يد عالمة الآثار البريطانية جيرترود بيل، حيث جمعت آثار العراق ووضعتها في حيّز صغير في مبنى السراي أو القشلة. وفي عام 1926 عيّنت المس جيرترود بيل مُديرة للمَتحف ثم تلاها ر. س كوك. وحتى عام 1966 قررت الحكومة العراقية بناء مَتحف يُناسب مواصفات المتاحف العالمية.
وفي عام 1957 ضاق مبنى المُتحف بما أودع فيهِ من آثار، وأرادت الحكومة العراقية أن تخصص بناية جديدة تتصف بمواصفات متحفية عالمية تضم آثار العراق، ولهذا بني المبنى الجديد ونُقلت مجموعات القُطع الأثرية إليه، ووضع الملك فيصل الثاني الحجر الأساس لبناية المتحف العراقي.
إحالات وهوامش: