من كلاويز إلى باريس.. فتنة الشرق الكردي

مها حسن 6 يونيو 2022

بدعوة من مهرجان كلاويز الثقافي، توجهت إلى إقليم كردستان العراق، لأربط أخيرًا بين أجزاء من الصور العالقة في مخيلتي عن كردستان، وتلك المصنوعة من قبل الآخرين، وبين الأرض الحقيقية. وصلت السليمانية قرابة الساعة الخامسة صباحًا، نمت ثلاث ساعات فقط، كطفل ينام ليلة العيد، ويفيق فرحًا بانتظار الهدايا و"العيدية" والمراجيح والألعاب. أزحت ستارة النافذة، لأرى الجبل قبالتي، والعلم الكردي يرفرف بألوانه الباهرة، وشمسه المشرقة.
مغمورة بالدفء، قادمة من بلاد باردة، تركت الشمس تتغلغل في جسدي وروحي، وتتسرب إلى خلايا عاطفتي وانفعالاتي، حيث جذور السرد.
مع "نيجار"، صديقتي من السليمانية، والتي جاءت إليّ لتصحبني، مشيت تحت أشعة الشمس، ونحن في طريقنا صوب قاعة المحاضرات في الفندق الذي يبعد قليلًا عن الفندق الذي أقيم فيه.
هنا، تحدث فعاليات مهرجان كلاويز الثقافي، وهنا تتواجد أعداد غفيرة من كتّاب وفنانين تشكيليين وموسيقيين، من جنسيات عدة، وانتماءات وأجيال ثقافية.
كان المهرجان يحتفي بشخصيات ثقافية متعددة: مظفر النواب، وشهران ناظري، وكثير من الكتاب الكرد والعرب والإيرانيين.


كلاويز.. 25 عامًا من العمل



قيل لي إن كلاويز هو اسم لنجمة، وكذلك هو اسم لأحد الأشهر الكردية. اختاره علاء الدين السجادي، وإبراهيم أحمد، كعنوان لمجلة ثقافية كانت تصدر في سنة 1939 لغاية 1949. كلاويز، أو كلاويش، كما تُنطق بالكردية، مهرجان قائم منذ ربع قرن، صادف وجودي ومشاركتي، مع يوبيله الفضي.




تتميز هذه المدينة، السليمانية، بأدبها، وقد كانت دائمًا مركزًا (لكبار الشعراء والكتاب والمؤرخين والسياسيين والعلماء والمغنين)، وهذا أيضًا وفق ويكيبيديا. ووفق المصدر ذاته، فقد تأسست المدينة سنة 1784 على يد الأمير الكردي إبراهيم باشا بابان، الذي أطلق عليها اسم والده سليمان باشا، وكانت السليمانية عاصمة إمارة بابان التاريخية من سنة 1784 إلى 1850.
وصلت إلى الفندق الذي تجري فيه الفعاليات، وفوجئت بعدد كبير من الحضور. هو مهرجان حقيقي يجمع أشخاصًا من بلاد عدة، وجنسيات، ولغات، يمكنني وصف هذا المهرجان بمهرجان التلوّن الثقافي والفني.
وجدتني على الفور، في لقاء مع الكرد. لقاء حيّ ومباشر مع اللغة والثقافة والروح.
كنت أشعر بانبهاري. القسم الغريب مني، أو الغربي "الفرنسي" الذي كان مسيطرًا عليّ، يحاول استيعاب هذا المشهد الملون، الفاتن.
على بعد أمتار قليلة من قاعة المحاضرات، أو الفعاليات، وخارج الفندق، وفي مكان كان معملًا للتبغ، ذهبت مع أصدقائي الكرد، بنات وأبناء السليمانية، إلى زيارة معرض الكتاب الموازي للمهرجان.
السحر الشرقي هنا. سحر مزيج بين ثقافات متنوعة في خيالي: شمس، نساء يطهون الطعام في الساحة، ويبعنه للمارة، مبنى قديم وساحر يضم الكتب والأزياء التقليدية والمجوهرات المحلية...
حين قدمتني نيجار للنساء اللاتي يرتدي بعضهن الزي الكردي، طلبت منها أن تترجم لي التالي: إنني مهتمة بالكتابة عن عوالم النساء، وإن المرأة تشكل حيزًا كبيرًا في رواياتي.
لم أنته من جولتي بعد، حين وجدتني، قبل المغادرة، قرب المدخل، أمام إحدى السيدات اللاتي عرّفتهن باهتمامي بعالم المرأة، تطلب مني التقاط صورة جماعية معهن.
هذه هي زبدة عالمي السردي: النساء الملونات.


المدينة تحت الشمس
تدرّجت صوب المدينة.. للتعرف على الهوية الحقيقية للناس. أولئك العاديون الذين يمثلون الوجه الأدق للحياة والبلد والشعب.
زرت "جايخانة الشعب"، أي مقهى الشعب، وهو مكان كبير مليء بالزبائن والصخب. ربما لم أر مقهى من قبل بهذا الحجم، يرتاده غالبًا الرجال، رغم أنه يحوي ركنًا لمكتبة تهم القراء من الرجال والنساء معًا.
توجهت بعد المقهى الشهير إلى مكتبة رهند، حيث ناشري الكردي ـ السوراني، وفاجأتني صور الكتّاب بأحجام كبيرة، ملصقة على الجدار الكبير في واجهة المكتبة.
أما شارع "صه هو له كه"، والذي يعني الجليد، لأن ثمة معملًا للثلج كان قرب هذا الشارع الذي يدعى في الأصل شارع سالم، نسبة لشاعر كوردي كلاسيكي، فهو شارع مليء بالصخب والحياة والحرية، أكاد أزعم أيضًا أنني لم أر مثيلًا له، كأن أهل المدينة جميعهم يخرجون في موعد واحد مسائي، يتجولون هناك. دعوته أنا بشارع "الليلة الكبيرة"، كما نرى حفلات القاهرة في هذه المناسبات: طعام وموسيقى وناس.. شواء ورجال يلعبون "الطاولة" ونراجيل وأطفال وألعاب.
في حديقة "أزادي" التي كانت بمثابة مقبرة رمى فيها صدام، في ليلة واحدة، مئات الشهداء الذين أعدمهم، تجولت وأنا أشعر بفرح غامر، حين أرى تماثيل لنساء مؤثرات، شاعرات ومسرحيات وسياسيات.
صعدت أيضًا "جبل أزمر" في الليل. الجبل الذي كان محظورًا على الناس أيام الطاغية صدام... كنت أسمع حكايات المكان، وأشعر بأنين الموتى، الذين تحولوا إلى وقود لتصبح هذه الأرض اليوم، رمزًا للحرية والسلام والجمال.
وكأنني في مصايف "كفر جنة" التي كنا نذهب لها أطفالًا مع أهلنا في حلب، توجهت صوب "سار جنار"، أي فوق الصفصاف، حيث الماء والمقاهي والمطاعم، وأهالي يفترشون العشب، ويطهون الطعام، في مشهد ساحر لم أكتفِ من تأمله والاستمتاع به.


الجانب الروحاني لهذه المدينة
لم أكن معتادة على سماع اللهجة السورانية، حيث نتحدث "الكرمانجية" في سورية. ربما لأنها لغة الشعر والأدب، تلك التي أخرجت شعراء كبار، مثل شيركو بيكه سي، ونالي، وغيرهما، كنت أشعر، كلما سمعت هذه اللغة، حتى في الأسواق القديمة، أنني أسمع الشعر.
قيل لي إن هذه اللهجة تقع في قلب المنطقة الجبلية، وحافظت على نفسها من تأثير اللغات المجاورة، وأن النسبة الكبرى من شعراء وأدباء كردستان كتبوا أعمالهم بهذه اللغة.
توجهت صوب الجامع الكبير، وهو مسجد الشيخ أحمد، الذي يُعد أول مسجد أُسس في مدينة السليمانية، شيده الأمير إبراهيم باشا بابان سنة 1784، وفيه مرقد الشيخ أحمد، ويضم مقام الشيخ محمود الحفيد.




كنت مغمورة بطاقة غامضة من العالم الروحاني، وأنا أشعر بالتواصل النفسي مع عالم قديم وغير مألوف، لكنه مُحبب.
اشتريت بعض السبح المحلية، والتي تُدعى بسبح قزوان، وهي حبات مأخوذة من أشجار القزوان في المناطق الجبلية بين العراق وتركيا وسورية.
لم أفهم كثيرًا سرّ هذه السبحات، لكني لاحظت أن كثيرًا من الناس يقتنونها، حتى في الطائرة إلى باريس، رأيت رجالًا بملابس معاصرة يضعون هذه السبحات كقلائد في أعناقهم.
في شارع غوران، توجهت صوب المكتبات القديمة، حيث سحر الكتب وروائحها، والتقيت بأصحاب المكتبات المثقفين بدرجات عالية، حيث يجمعون بين الثقافة العربية والكردية والفارسية.
الشاعر عبد الله غوران، مولود في الموصل، وكان والده وجده يجيدان الكتابة باللغتين الكردية والفارسية، وكان أستاذًا للأدب الكردي والنقد الكردي في كلية الآداب في جامعة بغداد.
لهذا، فإنه من المتوقع أن يكتظ هذا الشارع بالمكتبات، وبأصحابها ذوي الثقافة المتعددة، الذين يتحدثون العربية والكردية، ومنهم يتحدث أيضًا الفارسية.
محمّلة بكل تلك المعارف، في زيارة مكثفة وقصيرة، لم تدم لأكثر من ثلاثة أيام، امتلأت خلالها بالخبرات والجماليات، كأنني أمضيت ثلاثة أسابيع، عدت إلى فرنسا، وكأنني راجعة من حلم.
وجدتني وقعت في غرام اللهجة السورانية، وشعرت بكمية هائلة من النقص المعرفي. إن ثمة ثقافة كبيرة تنقصني، وينبغي عليّ، كروائية، أن أشتغل وأرمم هذه الفجوات.
لا أعرف إذا كانت حياة واحدة كافية لأمثالي لاستكمال هذا النقص. حلمي الآن هو قضاء عدة أشهر في كردستان، للكتابة من داخل المكان.