بعد سنوات من الصمت: يوسا يتحدث عن ماركيز

أحمد عبد اللطيف 16 يوليه 2017
العلاقة بين الكاتبين الشهيرين غابرييل غارثيا ماركيز وماريو بارغس يوسا علاقة معقدة، كانت تجمعهما الصداقة حينًا والعداء حينًا، واختلاف المواقف السياسية على الدوام، وخاصة الموقف من الثورة الكوبية، ثم انحياز ماركيز لليسار مقابل انحياز يوسا لليبرالية وحرية السوق. لكن المؤكد أن كلًا منهما، خاصة يوسا، يقدّر أعمال الآخر بشكل مذهل، ولعل أفضل ما كُتب عن "مئة عام من العزلة" كان ما كتبه الروائي البيروفي في مقدمته لطبعة جديدة لها وصل عدد صفحاتها إلى السبعمائة.


لكن بالإضافة لتعقيد العلاقة، التي وصلت ذات مرة أن سدد يوسا لكمة إلى ماركيز، كانت علاقة يسودها الغموض، فقرر يوسا الآن، وفي لقاء مفتوح مع جمهوره بجامعة كومبلوتنسي بمدريد بمناسبة افتتاح كرسي باسمه بنفس الجامعة، أن يعيدها للضوء وأن يكشف أسرارها، إذ بعد عشر سنوات من الصداقة والجيرة والتواطؤ، حدثت القطيعة. لقاء غطته كل الجرائد الإسبانية باهتمام، خاصة جريدة "الباييس" التي يكتب فيها يوسا مقاله الشهري.


يحكي يوسا أن أول تعارف شخصي بينهما كان في كاراكاس في عام 67، نفس عام صدور رواية "مائة عام من العزلة" الشهيرة، وكان في مناسبة استلام الكاتب البيروفي لجائزة "رومولو جاييجوس" عن روايته "البيت الأخضر".


اللقاء كان يشبه، بحسب الكاتب الكولومبي كارلوس غرانيس، حوارًا مفترضًا لكامو عن سارتر أو تولستوي عن دوستويفسكي، حوار "عظيم عن عظيم"، ما سهّل حديث يوسا من دون حرج، وهو ما فعله بالضبط. في البداية رسم صورة لغابو، كما سمّاه في اللقاء، كرجل شديد الخجل وانطوائي، غير أنه مسلٍ ومجنون في الحياة الخاصة. ثم أشار يوسا للمشتركات الحياتية بينهما: كل منهما تربى في بيت جده لأمه وعاش علاقة صدامية مع الأب، كل منهما كان مغرمًا بـ فوكنر، وكل منهما اكتشف أنه أميركي لاتيني بمجرد وصوله لأوروبا، وهو ما كان مستحيلًا أن يحدث في ليما أو بوغوتا.


الحدث السياسي كان أحد محاور يوسا، تحديدًا الثورة الكوبية والعلاقة مع فيدل كاسترو: الحدث الذي لفت نظر العالم إلى أميركا اللاتينية وبالتالي إلى أدبها. الكاتب الفائز بنوبل عام 2010 يكشف عن معلومة جديدة: "حين التقينا في 67 كنتُ شديد الحماس للثورة الكوبية، فيما كان غابو قليل الحماس لها، وكان متحفظًا على الحديث عنها، لكنه كان منضمًا للحزب الشيوعي عندما كان يعمل بجريدة برينسا لاتينا مع صديقه بلينيو أبوليو".


ماذا حدث إذن، جعل ماركيز المتشكك يلتقط صورًا مع كاسترو؟ "لا أعرف"، يقول يوسا، ويضيف: "أعتقد أنه كان عمليًا في الحياة وكان يعرف أن من الأفضل أن تكون مع كوبا من أن تكون ضدها، هكذا نجا من عداء انصبَّ على من انتقدوا تطور الثورة ناحية الشيوعية من مواقفها الأولى، وهم من كانوا في البداية اشتراكيين وليبراليين".


ورغم الحديث الطويل في السياسة، إلا أن للأدب نصيبه، خاصة "مائة عام من العزلة". قال عنها يوسا: "أبهرتني، حتى أني هرولت لأكتب عنها مقالًا بعنوان (أماديس في أميركا اللاتينية)، وفكرت في أنه أصبح لدينا رواية فروسية، سرد ينحاز للخيال من دون أن يتوارى الواقع، وتتمتع بما تتمتع به روايات عظيمة قليلة: القدرة على جذب القارئ المتطلب المشغول باللغة، وفي نفس الوقت القارئ المبتدئ الذي لا يبحث إلا عن حكاية".


وبالإضافة للكتابة عنه، حاضر يوسا في كورسات جامعية عن روايات ماركيز في كل من بويرتو ريكو والمملكة المتحدة وإسبانيا، ومن ملحوظاته كتب دراسة عنه بعنوان "حكاية قتل الآلهة"، أشار فيها إلى أن ماركيز "يكتب كشاعر، منطلقًا من حدسه، من خفقانه ومن فطرته، وليس كمثقف يجهز ما يكتبه بحسب مفاهيمه".


وإذا كانت "مائة عام من العزلة" أفضل روايات ماركيز، بحسب يوسا، فبحسبه أيضًا أسوأ رواية هي "خريف البطريرك"، إذ يرى أنها "كاريكاتير لماركيز، رواية كاتب يقلد نفسه".   


صاحب "حفلة التيس" يرى أن كُتّابًا مثل خوان رولفو وأليخو كاربنتير وماركيز نفسه استطاعوا استخراج الجمال من القبح والتخلف بقارة أميركا اللاتينية. هل أميركا لاتينية متقدمة يمكن أن تنتج أدبًا بهذه القدرة الخيالية وكُتابًا مثل هؤلاء؟ يوسا يتساءل ويجيب: "لا أعرف، لكن لا أريد أن تبقى قارتنا على حالتها هذه لتنتج أدبًا عظيمًا. البلدان تكتب الأدب الذي تستحقه".

كيف تلقى كاتب "امتداح الخالة" خبر رحيل ماركيز؟ يقول: "بكثير من الحزن، مثلما تلقيت خبر رحيل كورتاثر وكارلوس فوينتس. لم يكونوا فقط كتابًا كبارًا، بل أيضًا أصدقاء كبارًا. وأن أكتشف أني الوحيد المتبقي من هذا الجيل أمر محزن".


ناقد كماركيز

كرس يوسا عامين كاملين لدراسة رواية "مائة عام من العزلة"، والنتيجة كانت كتابه "حكاية قتل الآلهة" الذي كان في البداية أطروحة حصل بها على درجة الدكتوراه من جامعة كومبلوتنسي بمدريد عام 71. وظنّ القراء عند رؤية الكتاب أنها رواية كتباها معًا، ولم تكن فكرة خاطئة تمامًا، بحسب كارلوس بارال. حتى أن فكرة أن يكتبا رواية معًا كانت مطروحة، إذ اقترح ماركيز على يوسا كتابة رواية مشتركة عن الحرب الكولومبية البيروانية عام 1932.


الحكاية ترجع لهتاف "تحيا كولومبيا، تسقط البيرو" الذي كان يتردد يوميًا في طفولة غابو. من هنا اقترح ماركيز أن يبحث كل منهما بموضوعية "ريبورتاج هادئ" في الجزء الحربي لكلا البلدين قبل الشروع في الكتابة.

     وبعد أربعة أشهر التقيا في فنزويلا، وسافرا معًا إلى ليما للمشاركة في مؤتمر بجامعتها ولتعميد ابن يوسا الثاني. بعدها بقليل انتقل الروائي البيروفي ليعيش في برشلونة بالقرب من الكاتب الكولومبي، لكن المشروع لم يكتمل، وبعد سنوات قليلة، عام 76، حدثت القطيعة التي استمرت حتى موت ماركيز.


لم يكمل ماركيز حياته في إسبانيا وفضّل عليها الحياة في القارة اللاتينية، ولصعوبة الحياة في كولومبيا اختار أن يعيش في المكسيك، وهو البلد الذي ودّع فيه الحياة. فيما اختار يوسا منذ السبعينيات أن يعيش في مدريد وأن يحمل الجنسية الإسبانية، من دون ان يتخلى أبدًا عن هويته اللاتينية التي تعرف عليها عن قرب في هذه الهجرة الطويلة.


يأتي تذكر يوسا لماركيز أيضًا في العام الخمسين لصدور "مائة عام من العزلة" وهو العام الذي احتفلت فيه كولومبيا وإسبانيا بواحدة من أكثر الروايات تأثيرًا في الأدب اللاتيني، حتى أن بعض النقاد يضعها في المركز الثاني بعد رواية "دون كيخوته دي لا مانتسا" للكاتب الإسباني الشهير ميغيل دي ثيربانتس.