تحية محمد أنقار …

يحيى بن الوليد 16 فبراير 2018

مساء يوم الجمعة (15/02/2018) فارق الأكاديمي والقاص والمبدع الروائي محمد أنقار الحياةَ في إحدى مصحّات مدينة تطوان، التي آثر البقاء فيها متدرّجا في أسلاك التدريس بدلا من الرحيل للرباط ــ العاصمة من أجل التدريس ــ المريح ــ في جامعتها على غرار بعض أصدقائه من "المكرّسين" في الحقل الأكاديمي بإسهاماتهم المتميّزة. وأعتقد أنه كان محقّاً في هذا الاختيار الكاشف ــ ابتداءً ــ عن عمق أخلاقي نبيل ظل ملازما للرجل إلى آخر أيّامه... وذلك كلّه في المدار الذي جعل منه "علامة علمية" على كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل من أوّل لحظات التأسيس، بعد أن ظلّ مصرّا على التدريس في جميع مستوياتها... دون أن تسجّل على الرجل أيّة "شائبة" وبخاصة في مثل زماننا هذا الذي تفقّست فيه أشكال من "أمراض الجامعيين"، التي حاولت البحث فيها من منظور البحث في إفلاس النسق الثقافي والسياسي ككل بالمغرب في كتابي الأخير "في أنماط المثقفين العرب وأدوارهم وتشظياتهم" (2018). كان محمد أنقار أستاذا جامعيا "بالمعنى العميق للكلمة" كما كتب نجيب محفوظ عن إحدى شخصيات "خان الخليلي". 

شخصيا، وعلى تواضعي، وعلى مدار عمري الدراسي والأكاديمي، أفخر بثلاثة أساتذة أجلّاء... دون تنّكر لآخرين. أوّلهم أستاذ "مادة الفلسفة" (تبعا للتسمية المتسرّعة) الكاتب والقاص عبد السلام الجباري بالأقسام الثانوية في الثمانينيات النازلة بمدينة أصيلا، والثاني محمد أنقار بكلية الآداب بمرتيل (سالفة الذكر)، والثالث إدريس بلمليح بكلية الآداب بالرباط الذي أشرف على رسالتي  لنيل دبلوم الدراسات العليا والدكتوراه. ولا أخفي أن رحيل هذا الأخير الغادر، العام 2013، كان قد صدمني بالنظر للصداقة المتينة التي جمعتني به والتي امتدت من داخل بيته إلى خارج بيته في ندوات ومعارض ومطاعم. ولا أزال أذكر، بكثير من التأثّر، توصيته لي بـ"التواضع". مفردة لا تزال، حتى الآن، لا تكفّ عن التوالد بدخيلتي. 

ولا أخفي أن آخر ما كنت أفكّر فيه هو الذهاب إلى كلية الآداب بتطوان للتسجيل في شعبة الآداب بالنظر لميولي التي كانت تسير في اتجاه الفلسفة أو العلوم السياسية. وحصل في تلك السنة الكارثية (1987) أن كان عدد الناجحين في الدورة الأولى من الباكالوريا بالثانوية اليتيمة بأصيلا ثمانية تلاميذ. أغلبهم اختاروا تطوان بدلا من فاس الفرصة الوحيدة المتاحة لأبناء شمال المغرب، شريطة التسجيل في شعبة الفلسفة أو الحقوق. ولم أجد مفرّا من التسجيل بكلية مرتيل الهامشية في مدينة هامشية بدورها (وقتذاك).

وبعد شهر من التردّد والتلف، حملت حقيبتي إلى مرتيل، ولأفاجأ بأستاذ أربعيني اسمه محمد أنقار مدرّسا لـ"الشعرية الأرسطية" في مدرّج يتسع لـ600 طالب أو أكثر. وقد لفتت انتباهي، من أوّل محاضرة له، طريقته الأكاديمية البيداغوجية. صرامة وتدقيق وتدرّج... وصبر ظاهر في التلقين والتبليغ. بدا الرجل، من أوّل درس، "عالما" ولا يمكن لأيّ كان من المتحمّسين للمعرفة إلا تصدّر الصفوف الأمامية والإنصات لما يقوله الرجل في اندهاش جارف وباهتمام زائد. وكما بدا، من أوّل وهلة، من غير المدّعين والاستعراضيين... وبخاصة في تلك الفترة التي كانت قد بلغت فيها "البنيوية" حد "العقيدة الأكاديمية" بالمغرب. لقد اكتفى بكتاب واحد، طيلة أكثر من محاضرة، في التأصيل لما أسماه بـ"السمات البلاغية" في أفق التمهيد لمفاهيم المحاكاة أو الميميسيس والتطهير أو الكاتارسيس... وغيرهما من المفاهيم التي أبدع في تدريسها اعتمادا على جذاذات صغيرة كما كانت تبدو لنا من بعيد. أوراق صغيرة لكنها كانت تفيض معرفة وعمقا ووعيا... إلخ. والكتاب النظري هو "مدخل لجامع النص" لجيرار جينت (ترجمة: عبد الرحمن أيوب، 1985)، فيما المفاجأة اعتماده ترجمة إبراهيم حمادة لكتاب أرسطو "فن الشعر" بدلا من ترجمة عبد الرحمن بدوي أو شكري عياد. ولا أحد كان يخطر على باله اسم الدكتور إبراهيم حمادة (بترجمته باهظة الثمن بالنسبة لنا وقتذاك) ولا كتاب هذا الأخير "مقالات في النقد الأدبي" الذي لن أتمكن من شرائه إلا بسوق الكتب المستعملة بعد سنوات بالدار البيضاء.

ومضى العام الأوّل والثاني ومكانة الرجل تزداد توسّعا بين طلبته، بل مضت أعوام لكي يخرج الرجل إلى دنيا النشر ولكي ينشر كتابه الأوّل والثاني في إخراج متجانس مع شخصه المتقشف والمتواضع، لكن على النحو الذي سيلفت الانتباه بعد أن حصل على جائزة المغرب على كتابه "قصص الأطفال بالمغرب" (1998) الذي دافع به عن أطروحته لنيل دبلوم الدراسات العليا بكلية فاس (1984) وفي سياق معرفي ("منهجي صنمي" غالب) كان آخر ما يفكّر فيه هو "أدب الأطفال". وكم لفت انتباهي، في التسعينيات الصاعدة، ذلك الباحث المغربي، ووقتذاك كان يدرس خارج المغرب، وهو اليوم أستاذ للآداب الإنكليزية بكلية الرباط، الذي نشر في الصفحة الأخيرة من الجريدة الأوسع انتشارا وقتذاك ("الاتحاد الاشتراكي") مقالا تحت عنوان مثير "ماذا لو كان محمد أنقار مدرّسا بالرباط؟".

كان للمقال ما يبرّره، وقتذاك، وها هو محمد أنقار قد بلغ حد "القيمة النقدية" و"القيمة الروائية" بالوسط النقدي والإبداعي بالمغرب من خارج مركز الرباط. وكتابه الموسوم بـ"بناء الصورة في الرواية الاستعمارية ــ صورة المغرب في الرواية الإسبانية" (1994) من الكتب الأساسية بجدّتها المعرفية والمنهجية وبحسّها الإنسانوي الرحب، ومن خارج التسمين المنهجي ولوثة "الما بعدية" وضمنها "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي أفاد منها بذكاء وليقدّم مرجعا نقديا وثقافيا فريدا بمداخله الهادئة وخلاصاته الذكية. وقد حاورت الكتاب من خلال مقال منشور هنا بـ"ضفة ثالثة" تحت عنوان "في الاستشراق الأوروبي والأدب العام... وحال المغرب" (15 سبتمبر 2017). وكما أفردت لروايته "باريو مالكا" (2007)، في حين صدورها، دراسة مطوّلة تحت عنوان "هامش كولونيالي خلفي" بمجلة "الكلمة" (الإلكترونية) (العدد 70، فبراير 2013). وأجادل، و"باطمئنان المؤمن" كما يقال، أنها واحدة من أجمل عشر روايات كتبت بالمغرب... حتى وإن لم تفرد لها دراسات وأبحاث تليق بحجم قيمتها الفنية والتاريخية.

أفخر بأن أكون واحدا من طلبته الكثيرين، ومن أصدقائه حتى وإن لم أجلس معه إلا مرتين، الأولى في مرتيل وبالمدرسة العليا للأساتذة لمناسبة من خارج أيّ نشاط، ولا أزال أذكر كيف آلمه هروبنا للرباط. قال بالحرف وبلباقة "لمَ كل هذا الهروب؟". وحدّثني عن مشروع "الصورة الروائية"، وما أزال أذكر كيف تقبّل تطاول الباحث الشاب المتحمّس (والبريء) عليه عندما تزايدت عليه بآخر ما كان متداولا من عناوين في نظرية النقد والأدب في دنيا "الموضة النقدية". أحلته إلى عنوان "نظرية الأدب" الدسم الذي أشرف عليه كيبيدي فاركا (Kibidi Varka)؛ والكتاب وقتذاك كان أشبه ما يكون بـ"إنجيل في النقد" بين طلبة المناهج النقدية في الرباط. وقلت له لا ذكر فيه، سواء على مستوى التضمّن أو اللزوم، لمفهوم الصورة الروائية؛ وبالغت بأن المفهوم "بعضي" و"جزئي". واكتفى بابتسامة العالم البريئة، موجزا بأن المطلوب هو "تشييد المفهوم". وحقيقة بلغ الأستاذ، بأكثر من معنى، مبتغاه الأكاديمي الصرف. ولذلك أشار في حوار معه إلى كتاب الصديق والجامعي مصطفى الورياغلي حول "الصورة الروائية" في دلالة إلى ما كان يطمح إليه بين طلبته وفي حقل الإنتاج الأكاديمي والتأصيل النقدي. 

ولم تنقطع الصلة بيني وبين الرجل وسواء في آخر لقاء حول محمد شكري قبل سنتين أو ثلاث سنوات بطنجة، حين تخليّت عن شكري للحديث عن "باريا مالقا" أو من خلال ابنته (وطالبتنا النجيبة) الدكتورة سعاد أنقار (وهي مناسبة لأبلّغها أحرّ التعازي عبر هذا المقال) واسطة تبادل الكتب بيني وبينه.

المقال لا يسمح بالاستطراد، ويكفي التركيز على مدى إسهام الرجل في ترسيخ تقاليد البحث الأكاديمي والعلمي من منظور الوعي والإنتاج والتأصيل والمثاقفة...عمقا وعلما ونبلا وأخلاقا وتواضعا، وأن الرجل ظل متواضعا ومجالسا وسائلا ومناقشا.. لطلبته من المدرسين في أسلاك التعليم المختلفة، والأكاديميين والمبدعين والنقاد... في تطوان أو في طنجة. ومن محمد المسعودي في مقهاه الأثير بطنجة إلى المسرحي المجنون عزيز زوكار في أوطيل أثينا بتطوان.

"رحم الله أستاذ الأجيال والإنسان الفذ والمبدع العميق السي محمد أنقار" كما كتب تلميذه الوفي والخلوق والأستاذ الجامعي الصادق الحيرش ضمن سيل من الكتابات من قبل محبّيه. رجل لا يختلف بصدده اثنان. رجل لا يتكرّر وقلّما يجود بأمثاله زماننا المعرفي وشرطنا الإنساني.