عنف التكنولوجيا

نجيب مبارك 22 أكتوبر 2019
هنا/الآن
(Getty)

يمكن أن نمنح كلمة "عنف" أكثر من معنى. نستطيع أن نتحدّث عن العنف بين الناس، وهو أمر شائع جداً في كل مكان، وكذلك عن عنف الدولة (حسب تعريف ماكس فيبر بأنه احتكار العنف المشروع)، مثلما يمكننا التحدّث عن عنف البروليتاريا (حسب وصف جورج سوريل)، وعن العنف الإجرامي، أو عن العنف السياسي... إلخ. لكن يجب أن نتذكّر أنه، في العقود الأخيرة، استقرّ مفهوم العنف في قلب الفكر الأنثروبولوجي مع رينيه جيرار وأطروحته عن "الرغبة في المحاكاة". هذه الرغبة في امتلاك ما يمتلكه الآخر، رغم أنّها تسمح للإنسان بزيادة قدراته التعليمية، إلّا أنها تزيد أيضاً من عنفه الخاص، وتتسبّب له في صراعات دافعها الأول هو التملّك. وقد سبق لرينيه جيرار، في كتابه "العنف والمقدس"، أن عرض أطروحته عن "آلية التضحية"، التي تعدّ في تصوّره هي أصل كلّ ديانة قديمة ومتطرّفة، لأنّ العنف، في ذروته، يتوجّه دوماً نحو "ضحية اعتباطية" يقع عليها الإجماع من طرف الجماعة. لهذا، تصبح التضحية بـ"كبش الفداء" هذا حتمية جماعية، ما يدفع نحو السقوط في عنف تمارسه الجماعة بأكملها.
أيضاً، لا يمكن أن نتحدّث عن العنف من دون الإشارة إلى "العنف الرمزي" الذي بلوره بيير بورديو. لقد وافق بورديو على مقولة ماكس فيبر حول احتكار الدولة للعنف المشروع، لكنه ركّز على العنف الرمزي الذي صار مشتَّتاً في الوقت الحاضر، لأنّ الدولة والسياسة لم تعد لديهما القدرة على احتكاره وممارسته كما في السابق. فالعنف صار هذه الأيام محمولاً من شرائح متعدّدة في الحياة الاجتماعية، تغذّيه التكنولوجيا في كلّ مكان، ويتحكّم فيه فاعلون أقويّاء جداً. باختصار، صار العنف الرمزي مضاعَفاً بوجود العنف التكنولوجي. وهذا يعني أنّنا وصلنا إلى مرحلة تراجعت فيها السياسة لتفسح المجال للعنف الذي تعزّزه ولادة هذه التكنولوجيا غير المنضبطة.
ويمكن سرد أمثلة على ذلك: التمويل المجنون وما تقوم به خوارزميات أسواق المال؛ تركيز

السلطات، وهو ما يعكس بدقّة مثالية فكرة بورديو، وهذا واضح من خلال تعزيز الاقتصاد الاحتكاري لشركات التكنولوجيا الكبرى؛ استقطاب سوق العمل المؤسّس على وظائف وهمية؛ صعود خطاب شبه دينيّ يقدّم الذكاء الاصطناعي باعتباره مرحلة في تطوّر الذكاء البشري؛ عنف الشبكات الاجتماعية وما تنشره من خطابات الكراهية المنفلتة من كلّ رقابة، بحيث لا يمكن السيطرة عليها. وهذا العنف الأخير هو عنف جديد كلّياً لم يسبق أن عرفته البشرية من قبل.
إنّ الحديث الدائم عن العالم الرقمي صار يغزو حياتنا كما لو أنّ لا وجود لحياة خارج الإنترنت. والمرء يتفاجأ من معاينة هذا الكم المرعب من الكراهية التي تنتشر يومياً على الشبكات الاجتماعية، وهو ما يعكس مخزوناً هائلاً من العنف، باعتباره أمراً واقعاً وملحّاً. لكن في الحقيقة، يتعلّق الأمر بتبديل في مواقع التعبير عن "العنف" الذي لم يتمّ تصريفه، مثلاً، عن طريق "التضحية بكبش فداء"، كما في أطروحة رينيه جيرار المشار إليها أعلاه، أو عن طريق احتكار الدولة للعنف المشروع الّذي وصفه ماكس فيبر، وطوّره بيير بورديو إلى العنف الرمزي. وعلى كلّ حال، من المستحيل حصر هذه الوفرة في المنتجات والخدمات الرقمية التي لا يمكننا التحكّم بها. لكن، في المقابل، يمكننا اكتشاف بعض الأدلة على ما يثبت وجود حالة من الاكتئاب الجماعي، والانقسام المجتمعي، والفوضى المطلقة، أو باختصار، حالة من الاضطراب الاجتماعي الشامل. كلّ هذا سبق أن تناوله برونو باتينو جيّداً في كتابه "حضارة السمكة الحمراء". بل إنّه يمكننا، أمام هذا الواقع، أن نتفهّم خيبة أمل "تيم بيرنرز- لي"، الرجل الذي أسّس شبكة الإنترنت بين عامي 1989 و1994. لقد كان طموحه جزءاً من مشروع طوباوي، يحلم فيه بعالم يسمح لكلّ واحد أن يتّصل بالآخرين، ويشاركهم المعرفة بلا حدود، بحيث يتحقّق المعنى الكامل من وصف الإنترنت بـ"العالمي". لكن، جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وانحرفت الأمور بعيداً عن ما كان مخطّطاً لها، إذ سرعان ما تحوّل كلّ شيء إلى سلعة، وهو ما جعل من عالم اليوم عالماً يعجّ بصراعات كثيرة لا يمكن التنبّؤ بمآلاتها.
نعيش اليوم في عالم أصبحت فيه الشركات التكنولوجية الكبرى تأخذ بزمام إدارة العالم، ولم نعد نلمس تأثيراً للسياسة أو لسيادة الدول على هؤلاء الفاعلين الأقوياء. ولا ترجع سطوة هذه الشركات فقط إلى حضورها المطلق في حياة الناس، وإلى أرقام أرباحها المخيفة التي تفوق

أحيانا ميزانيات دول بأكملها، ولكن بسبب العجز الحالي للسياسات لفهم هذه التحولات العميقة في تاريخ البشرية. لقد أصبحت هذه الشركات الضخمة مثل آلهة حقيقية، لا تدرك أنها تنقل وتطور أشكالاً جديدة من العنف.
ودون شك، تبقى الكراهية السائدة في الشبكات الاجتماعية من أبرز التجلّيات أو العناصر التي تمثّل الانحرافات الراهنة في العالم الرقمي. هذه الكراهية المعبَّر عنها صراحةً، بكلّ الوسائل الممكنة، من أشخاص ينتمون لفئات مختلفة، والّتي استفادت كثيراً من إمكانيات إخفاء الهوية، ليست سوى انعكاس لواقع المجتمع الإنساني منذ آلاف السنين. لكن الجديد في الأمر، وما يحتاج إلى تسليط الضّوء أكثر، هو هذا الرابط المرعب بين طفرة اللّغة العدائية وانتشار العنف. صحيح، من الصعب الإقرار علمياً بحجم هذا التفاعل، لكن الأبحاث الجارية حالياً تسير في اتجاه إثبات ذلك.

 
الذكاء الاصطناعي
محلّ الذكاء البشري
من جهة أخرى، تسود العالم اليومَ حالة من القلق تجاه ما سينتج عن اعتماد الذكاء الاصطناعي مستقبلاً، خصوصاً في مجالات: الصحة، التعليم، معالجة المعلومات، النقل، الطاقة... بحيث لا شيء سيفلت من موجة تسونامي هذه التكنولوجيا القادمة لا محالة. وتفسير هذا القلق بسيط: سيحلّ الذكاء الاصطناعي محلّ الذكاء البشري، وسوف يكتسح جميع أسواقنا، وفي مقدّمتها سوق العمل. ومن هنا سيعود النقاش حول البطالة التكنولوجية التي تمّ تحليل آثارها على مدى
قرنين، أي منذ أن بدأت الآلة في تعويض اليد العاملة، فتقلّص الطلب على العامل واختفت الكثير من الحرف، إلى وقتنا الراهن الّذي بدأت فيه البرمجيات فعلياً في تعويض البشر. لهذا، من المؤكّد أنّ الذكاء الاصطناعي سيتسبّب في بطالة الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم.
لماذا يجب أن نهتمّ بالعنف التكنولوجي؟ ببساطة، لأنّ هذا الشكل الجديد من أشكال العنف، الذي صار اليوم أحد أشكال العنف الرئيسة، قد حلّ بالقوّة محلّ ما كان يعرف بعنف الدولة. فنحن نجد بداخله الأسوأ من كلّ شيء، ولا سيما حقيقة أنّ التقدّم لا يظهر إلّا في شكل وحيد يبدو مقبولاً ومطلوباً من الجميع، كما أنّه يمنح قلّة قليلة من الفاعلين التكنولوجيين سلطة بلا حدود. وهذه هي الحالة التي نعيشها في الوقت الحاضر، وستستمرّ لسنوات أخرى قادمة. سيواجهنا هذا العنف التكنولوجي، في ظلّ اقتصاد كلّي مختلف بشكل أساسي عما عرفناه حتى الآن، ومن سماته البارزة تدهور المناخ، وشيخوخة السكّان على الصعيد العالمي، لكن الأخطر من كلّ ذلك، هو هذه النقلة التكنولوجية الهائلة التي تبدو آثارها، في المدى المتوسط على الأقل، عصيّة جداً على السيطرة.
يجب أن ندرك أنّنا نقف في أوّل الطريق بالنسبة لفهم المجتمع الذي نتهيّأ للدخول إليه. وللأسف، في عالمنا العربي لا نزال في قبضة هذه الحتمية التكنولوجية، بحسناتها وسيئاتها الكثيرة، لدرجة نقبل فيها بسهولة على كثير من السلع والخدمات التي تهدف إلى ملء الاحتياجات الجديدة الّتي تخلقها التكنولوجيا نفسها باعتبارها أدوات حقيقية للمتعة. وغني عن القول إنّ ما يقابلها من وسائل انعتاق وتحرّر ما تزال بعيدة المنال ومتوارية جداً عن أنظار الّذين يستخدمونها أو يخضعون لسطوتها. وذلك راجع في الواقع إلى أنّ الإنسان، حسب رأي جاك إيلول، قد تكيّف مع هذه التقنيات إلى حدّ توقّف فيه عن النظر إليها كأداة استعباد، لأنّه بعد أن نظّم حياته تماماً بمساعدة التكنولوجيا، صار متوافقاً معها بشكلٍ أعمى. وعليه، بما أنّ العنف التكنولوجي يعمل بشكل خفيّ في أغلب الأحيان، لم يعد هناك أحد من مستخدمي هذه التكنولوجيا ينتبه إلى وجوده، أو ينتبه إليه بالصدفة، على فترات طويلة ومتباعدة، لكن من دون ردّة فعل أو مقاومة. ذلك لأنّنا جميعاً وقعنا في الفخ.