الربيع العربي بين موجتين: دروس الماضي ومستقبل التحوّل الديمقراطي(6)

حسام أبو حامد 19 ديسمبر 2019
هنا/الآن
"ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة؟"
نطوي اليوم الورقة الأخيرة من ملف فتحناه في "ضفة ثالثة" تناولنا فيه المقارنة بين موجتي الربيع العربي (أو نسختي الربيع العربي)، ومدى استفادة كل من الشارع والنظام من دروس الموجة الأولى، وانعكاسات ذلك على فرص الموجة الثانية.

ألسنا مجدداً أمام السؤال: ماذا بعد سقوط الأنظمة والنخب التي سيطرت على السلطة حتى الآن؟ هل بلورت تلك الموجات التي لا تزال بدون رأس سياسي ملامح العقد الاجتماعي الذي ستقوم عليه دولة المواطنة؟
توجهنا بهذا التساؤلات إلى عدد من المثقفين العرب، باحثين وكتاباً، شاركوا معنا مشكورين في التعبير الحر عن آرائهم المتنوعة، التي تقاطعت حينا وتعارضت حينا آخر (وهي لا تعبر بالضرورة عن رأي معد الملف أو موقع "ضفة ثالثة")، ولا يزال هذا النقاش مشروعا وضروريا مع استمرار الانتفاضات الجماهيرية في عالمنا العربي، رغم العثرات والصعوبات والأخطاء على طريق مستقبل أفضل لشعوب المنطقة.
هنا الجزء السادس والأخير من الملف:


باسل العودات (كاتب سوري/ رئيس تحرير شبكة جيرون الإعلامية):
الثورة التي لا تقتلك تقويك
قبل تسع سنوات، بدأ الربيع العربي، أو ما فضّل البعض أن يطلق عليه مصطلح "الموجة الأولى من الثورات"، وافترض المراقبون، بل والشعوب، أن الأنظمة السياسية العربية في البلدان التي تحقق فيها ما سمي بالربيع العربي، سوف تشهد الاستقرار والأمن والأمان، ورسوخ معايير الدولة الحديثة وأسسها، وستشهد خلال هذا العقد نشوء دول ديمقراطية تعددية تداولية، تضع المواطنة أساساً وهدفاً وركيزة لها.
اعتقد كثيرون أن ظروف القرن الحادي والعشرين، لم تعد تسمح للديكتاتوريات والأنظمة الشمولية أن تُطلق عنفها المطلق في وجه حركات التحرر الداخلية، وأن الظروف الموضوعية باتت ناضجة للخلوص من الأنظمة الأمنية، وتركيب أنظمة سياسية ديمقراطية دون أي إشكالات أو مفاجآت، واعتقدوا أن المجتمع الدولي لن يسمح لأنظمة أمنية تمييزية متجذرة فاسدة بأن تخرق كل المحظورات الأممية والدولية والإنسانية لتُحافظ على بقائها، بل سيكون هذا المجتمع الدولي لها بالمرصاد، وهو ما لم يحصل.
مارست الأنظمة السياسية العربية والسلطات الحاكمة والموالون لها في دول "الثورات الأولى" أعتى وأغرب أنواع الممارسات اللاعقلانية، التي تدرجت من سرقة الثورة (مصر) إلى افتعال حرب أهلية (اليمن) إلى ارتكاب أكبر مجازر التاريخ الحديث (سورية)، وقالت جميعها إن ما حصل هو "مؤامرات خارجية" قامت بها السلطات الاستعمارية وأتباعها في البلدان العربية، بهدف القضاء على الحركة القومية العربية وعلى الأنظمة المعادية للاستعمار، وأنظمة المقاومة والممانعة، لوقف تقدّمها وتحررها وإغراقها في حروب أهلية طائفية أو إثنية أو مناطقية، وتدمير المجتمعات العربية والعودة بها عشرات السنين إلى الوراء.


بالمقابل، طالبت غالبية شعوب "الموجة الأولى من الثورات العربية" بتطبيق معايير الحرية والديمقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات، ونبذ الطائفية والتمييز والمحسوبيات، واحترام ثقافة حقوق الإنسان، ولم تحد عن هذه المطالب رغم الضغوط الكبيرة التي مورست عليها، ورغم الوسائل والأساليب الكثيرة التي وُجدت لتغيير مسارات الثورات وعكسها وسرقتها.
كان من الطبيعي والعقلاني أن تستفيد الشعوب العربية من تجارب الشعوب التي سبقتها في الثورة، وأن تُغني تجاربها، وأن تُبدع طرقاً مُبتكرة لاستمرار ثوراتها والنجاح فيها، وأن تتجنب كل ما مرت به الثورات السابقة لها من أزمات وتحديات ومصائب، لكن هذا لم يحدث.
كما كان من الطبيعي والعقلاني أن تستفيد الأنظمة العربية من تجارب الأنظمة الأخرى التي دمّرت بلدانها من أجل مصالح ضيقة وفردية، طائفية أو أسرية أو مناطقية أو قومية، لكن هذا لم يحدث أيضاً.
قررت غالبية الأنظمة العربية التي شهدت "الربيع" أن تختار الطريق المتعثر والدموي، ولم تخطُ خطوة واحدة في اتجاه شعوبها، ولم تقبل نهائياً بتداول السلطة أو حتى الإصلاح، واستمرت تعيش وتمارس سياساتها نفسها وقيمها وثقافتها، وقمعها وعنفها وعنجهيتها.
بعد تسع سنوات، تبيّن، أن الأسس النظرية والفلسفية والسياسية للأنظمة العربية التي حصلت فيها ثورات هي نفسها، والظروف السياسية الضاغطة والسياسات القمعية هي نفسها، فلا تطبيق لمعايير الدولة الحديثة، وهناك تغوّل للأجهزة الأمنية بكل ما فيها من فساد واستبداد وهضم حقوق المواطن والإنسان، ومصادرة لمؤسسات الدولة والمجتمع وتنظيماته، وفرض لقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وإذلال وبطالة وفشل في التنمية، وينطبق الأمر نفسه على بقية البلدان العربية التي تحكمها نظم بتقاليد شمولية، أو فئات سياسية واجتماعية واقتصادية تستولي على السلطة.
التشوهات السياسية والاجتماعية والقيمية والأخلاقية التي تتمثل بها الأنظمة الشمولية العربية خلال عقود تُشكّل أرضية واحدة لها جميعها، لكن خلال تجربة تسع سنوات من الثورات العربية، تبيّن أيضاً أن بعض أخلاقيات الأنظمة الشمولية ومفاهيمها وسلوكها انتقلت إلى بعض التيارات السياسية المعارضة، فكانت الشعوب سابقة لها دوماً، ومتقدمة عليها، وبقيت هذه الأحزاب، التي كان يُعتقد أنها ستكون أملاً للثورات، مُسيّرة مرتهنة وقاصرة، وتحمل أمراض الأنظمة التي نشأت وترعرعت فيها خلال عقود، وبقيت الديمقراطية واحترام الرأي الآخر وقيم الدولة الحديثة ومعاييرها والشفافية وغيرها، خارج ثقافة غالبية التيارات السياسية المعارضة، فأبعدت الشركاء الرماديين المحتملين، وقدّست المصالح الحزبية أو الفئوية أو ما يشبهها.
في ظل هذه المعادلة، بدأت ما استطيب للبعض أن يطلق عليها مصطلح "الموجة الثانية من الثورات"، وربما استفادت هذه الموجة الجديدة من درس ضرورة تهميش التيارات السياسية المعارضة، التقليدية منها والجديدة، لكنّها وقعت في مطب التمثيل أو الريادة والقيادة، فالشارع لا يمكن أن يضع سياسات الثورة، بل السياسيون هم من يضعوا الشارع في مساره الطبيعي، ويبدو أن الاستفادة من التجارب ما زالت في حدها الأدنى، والجميع يتجاهل الثقافة الجديدة للثورات التي تحتاج إلى ممارسات جديدة وتراكم تجارب.
صحيح أن الموجة الأولى من الثورات العربية لم تفشل بعد، بالنظر إلى حقيقة أن الثورات قد تستمر لسنوات وعقود، ضمن مراحل مدّ وجزر، لكن لا بد لثورات الربيع الثاني أن تستفيد من التجارب الأولى السيئة لشعوب الربيع العربي، وربما تكون ملهمة تستعيد نجاحاتها دول الربيع الأول، فالكل في الهم واحد، والجميع يسعى إلى دول ديمقراطية وحديثة تحترم الحريات وحقوق الإنسان والمساواة والمشاركة وتعطي المواطن حقوقه، وعليهم التذكر أن التجارب تزيد من قوة الإنسان إن لم تقتله.



كفاح علي ديب (كاتبة وفنانة تشكيلية سورية/ مديرة تحرير القسم العربي في
Handbook Germany): "البعبع" السوري والثورة "المسروقة"!
ثماني سنوات مرت على بدء الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي؛ تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. اختلفت مسارات ونتائج انتفاضات/ ثورات شعوب هذه البلدان، وللأسف لم تكن المسارات ولا النتائج إيجابية في معظمها؛ ما عدا في الحالة التونسية، حيث ما يزال التونسيون يحاولون استكمال مسيرة الديمقراطية حتى الآن. في باقي البلدان أفضت معظم الانتفاضات إلى تغيير رأس النظام، دون أي تغيير يذكر في شكل الحكم، أو الحصول على الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي خرجت الشعوب مطالبة بها.
وفي الحالة السورية بشكل خاص، لم تثمر انتفاضتنا نحن السوريين عن نتائج إيجابية تذكر، فلا النظام ولا رأسه تغيّرا، ولم تستطع المعارضات، بكل أطيافها، كسب أي نتائج لصالح من تدّعي تمثيلهم، بل إنها وبعد تشكلها بمدة قصيرة راحت تخسر "حاضنتها الشعبية" في معظم الداخل السوري وخارجه.
بنظرة عامة إلى السنوات الماضية، سيكون من السهل ملاحظة أن الدول التي تم فيها استخدام السلاح والعنف من قبل الأنظمة، ثم العنف المضاد من المعارضات، وطلب استقدام التدخل الخارجي من قبل الطرفين أيضاً، قد استحال الوضع فيها إلى خراب. لم يبادر أي من شعوب بلدان الموجة الأولى لاستخدام السلاح، بل كان التسلح ردة فعل على عنف الأنظمة وأساليب القمع التي اتبعتها. وإذ لا يمكن لوم من هم تحت الحصار والرصاص على حملهم السلاح، فمن الواجب أيضاً الإشارة إلى المحرضين على حمله، من المحسوبين على المعارضة، وخاصة النخب السياسية والثقافية.

على أي حال لم يتمكن الثوار، قليلو الخبرة السياسية، من تنظيم صفوفهم وفرز قادتهم، ما شكل فراغاً أتاح للكيانات السياسية المتشكلة، أن تنصّب نفسها قائدة وناطقة باسم الشباب الثائر.
في الحالة السورية باعت الكيانات السياسية مختلف أشكال الوهم للمتظاهرين، معشّمة إياهم باستجلاب التدخل الخارجي مرة، وفرض حظر جوي فوق بعض الأماكن لتأمينها مرة أخرى، ثم مدّهم بالسلاح لمقارعة آلة النظام العسكرية، وغير ذلك من الوعود التي أثبتت السنوات التالية لها كذب هؤلاء، وعدم قدرتهم على الوفاء بأي من هذه الوعود، بعد أن صدقهم المتظاهرون، تصديق الموشك على الغرق بأن قشة ستنجيه.
تحولت الحالة السورية إلى "البعبع" الذي يشهره الحكام العرب في وجه شعوبهم. وقال البعض إن سورية ستكون "مقبرة للربيع العربي" بسبب نتائجها الكارثية، لكن هل حقاً هي كذلك؟ أم أنها شكلت درساً للشباب العربي فباتوا أكثر خبرة وقدرة على تنظيم ثوراتهم اللاحقة؟
في نهاية عام 2018 انطلقت ثورة السودان، حاول رئيسها عمر البشير إشهار بعبع سورية في وجه المتظاهرين، كما أطلق ضدهم قوات "الجنجويد" والرصاص الحي. لكن الثوار صمدوا وثابروا على سلميتهم أكثر من ثمانية أشهر، خلالها كانت نخبهم السياسية، والثقافية، تطل من مختلف المنابر تحثهم على التمسك بالسلمية، سلاحهم الوحيد في وجه عنف النظام، لم يناشد المتظاهرون ولا النخب السياسية أي تدخل خارجي، ولم يسمحوا للإسلام السياسي بامتطاء ثورتهم، وكان ذلك دليلاً على تعلمهم الكثير من الدرس السوري.

ثم انطلقت ثورة اللبنانيين والعراقيين؛ حالتان لا يمكن إلاّ أن تتم مقارنتهما بجارتهما سورية، ليس فقط من باب السلمية، فالوقت لا يزال مبكراً للحكم إن كان الحال سيستمر سلمياً، وخاصة أمام ضغط القوى السياسية، واستخدامها للعنف في وجه المتظاهرين. لكن يمكن النظر إلى الحالتين من حيث وعي الثوار حتى الآن لخطر الطائفية، التي يحاول السياسيون دفعهم إليها. فكل ما شاهدناه من فيديوهات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كانت تبرز الثوار ونخبهم نابذين وعابرين للطوائف. بل يصح القول إنه، حتى الآن، أثبتت الثورتان أنهما قامتا لدفن عقود من الطائفية حكمت البلدين، في حين انزلق العديد من المثقفين والنخب، السوريين خاصة، في هوة الطائفية التي ما كف معظمهم يبرر لنفسه ذلك بذريعة أن النظام هو من صنعها. إذا كنت تعلم وأنت متيقن من فخ صنعه النظام لك، إذاً لماذا سقطت فيه؟!
كما انزلق العديد من أبناء اليسار في فخ آخر، هذه المرة "نصبه لهم" الإسلام السياسي للانطواء تحت رايته، بحجة أن "المعركة اليوم ضد النظام، ولا مانع من التحالف مع الإسلاميين لإسقاطه". لكن ما إن بدأت علامات هزيمتهم أمام النظام، وخذلانهم من دولهم الداعمة، حتى برروا لأنفسهم بمقولة "لقد سُرقت الثورة!".
هل حقاً سرقت الثورة من قبل الإسلاميين، أم أن العلمانيين واليساريين لم يكونوا أوفياء لأفكارهم و"ثورتهم" وبالتالي لم يستطيعوا حمايتها من "السرقة"؟
هل يمكن أن "تسرق" ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي؟ أم أن الشباب باتوا أكثر وعياً، وتعلموا درس أن الدكتاتوريات لا يمكن إسقاطها بذات أدواتها؟ هل ستشكل الموجة الثانية من الثورات حجر أساس لثورات ثانية في البلدان التي لم تتحقق فيها مطالب ثوراتها الأولى؟ أنا أعتقد نعم. فالموجه الثانية من الربيع العربي أعطت أملاً كبيراً لكثير من الشباب في البلدان التي لم تنجح بها الثورة الأولى، والتي تحولت، بتدهورها الاقتصادي، والتعليمي، والاجتماعي، إلى بيئة لثورات جديدة، مختلفة عن الأولى، ستشهدها ولو بعد حين.



نزار السهلي (كاتب وصحافي فلسطيني): مسألة الحرية والديمقراطية ليست رفاهية بل قضية جوهرية
لا تندلع ثورة من العدم. عبر التاريخ، ارتبطت بنشوء الخلق والعقل، والأخير محور التفكير والتفكر، ومنطلق للتغيير الذي بدأه الإنسان في استنباط وسائل الحياة وتكييفها، أو تسخيرها لتلائم زمنه وحياته، ثم وضع لها النظريات والأسس، التي تطورت مع تطور عقله ووسائله، فكانت ثورات دينية وصناعية وسياسية وعسكرية، فكرية وعلمية، اجتماعية واقتصادية، كل مرحلة تلغي ما قبلها، أو تجددها بمرجعية معرفية معينة، ولا يمكن للثورات بأي حال من الأحوال أن تكون حسب رغبة المراقب لها، بـ "نتائج وغنائم".
كما لا توجد حقب زمنية سائدة، دون ثورة وحراك، ولا مجال هنا لتعداد أثر الثورات ومراحلها، وانعكاسها على البشرية، خصوصاً تأثير الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية، إلا أن الحقبة الأهم في التاريخ المعاصر عربياً، كانت ثورات العالم العربي، في موجتها الأولى، أسقطت طغاة، واستعصى آخرون خلف متاريس من دم ولحم وحطام لمدن، أو خلف سعير الثورات المضادة.
الثورة السورية مثلت أداة متقدمة لجرأة الانسان العربي في مواجهة الطغيان المسنود من تحالف متين بنى عرشه طويلاً على الخرافات الفكرية والنضالية والشعاراتية والسياسية، قبل الموجة الثانية من الثورات العربية، كان الخيال السياسي يلوذ بالماضي، الذي أصبح الغوص فيه ضرورة تعالٍ إرادية، لاجترار الأحلام لتلطيف جور الحاضر، وإزاء بؤسه وترديه في الواقع، يدخل واقع السياسة والثقافة والأدب والفن الملتصق بمراتب وتمتمات الطاغية في كهولة وموت، يقود تجاهل الحقائق إلى تبسيط وتحلل الصراعات بمنطق وهمي، كما أن حجب التناقض مع الطغيان والاستبداد ومخلفاتهما يقود إلى تساقط الشعارات الكبرى وتقزيم قضاياها، وأن المعادلة التي سرت على مدار عقود بالتناقض مع العدو أولاً، لا تعني أن لا يكون سلاحها الطبيعي الحرية والكرامة والمواطنة، وهذا يلخص إصرار الطاغية مع عصاباته، على تجريد السوريين من أسلحتهم، لكن التخفيف من قيمة هذا السلاح وتجاهله أجهض وأعاق "حلم" الطاغية للأبد، ألا يكفي السوريين فخرهم بما أُنجز إلى موعد حرية مطلقة؟

كانت الثورة السورية سباقة إلى إسقاط وهم المقدس، ووفرة جرأة المساس بزعزعة هذا التقديس وتجريده من شعاراته، الثورة السورية ومآلاتها المؤلمة التي أريد لها أن تكون فزاعة للشارع العربي، تحولت إلى أمل في مقارعة أنظمة لا تتفوق على نظام الأسد وحلفائه وحشية.
بالمحصلة لم تُجدِ الوحشية الفجة في التعاطي مع الشعب السوري، ومع مجتمعات عربية ثائرة في مصر واليمن وليبيا، والتي مارستها النظم العربية، وأحزابها وحركاتها السياسية ونخبها، للقضاء على تطلعات الشارع العربي في الحرية والكرامة والمواطنة، لذلك خابت آمال الثورة المضادة حين اكتسحت الموجة الثانية من الثورات مدناً وشوارع عربية، من بغداد وبيروت إلى الجزائر والخرطوم، متمسكة بسلمية الحراك، مستفيدة من سد ثغرات وإخفاقات تسلل إليها النظام العربي، وأجهزته الأمنية عبر وسم الثورات والمجتمعات بالإرهاب.

الأسئلة التي طرحتها ثورات 2011 تستكمل إجاباتها في ثورات 2019، والأسئلة التي طرحت في دمشق تستكمل إجاباتها في بغداد والقاهرة وبيروت والجزائر والخرطوم. وهنا يجب تقدير الدور المعرفي الذي قدمته الثورة السورية بالنسبة للميادين التي تعيد اندلاع الموجة الثانية من الثورات، بما فيها أساليب المواجهة، ودرس الإخفاق الذي احتل حيزاً كبيرا للدلالة على عدم فائدة ثورات عربية أخرى كي لا تتحول إلى" نموذج سوري" تردد بالإجابة على شوارع عربية ثائرة.

ينظر البعض للثورات بموجتيها الأولى والثانية، إلى صراع أجندات دولية وإقليمية، ليعزز الصراع القديم مع فكرة ونظرية المؤامرة، ذلك الصراع الذي يمثله أساساً الإنسان العربي الذي أصبح عنوان المواجهة في وجه الطغيان والفساد، لكن إلى أي مدى أصبحت هذه الأفكار مقبولة في المسار العام للثورات في الموجة الثانية؟ إذا أخذنا لبنان والعراق نموذجين وبطريقتين مترابطتين من حيث التركيبة المذهبية والطائفية وحجم الفساد وتأثير لوردات الطوائف على لجم الثورة في الشارع، نجد أن الأفكار القديمة وآليات المواجهة قد تبلت ولم تعد تفيد لإخماد الثورات، وأصبحت وسائل مواجهة الشارع شائنة وغبية، ومنحطة أخلاقياً بعدما تم نسخها على علاتها من قاموس مواجهة الثورة السورية.
أخيراً، ربما استثمر الاستبداد والطغيان والفساد الرسمي العربي رواسب المذهبية والعشيرة والطائفية، لإدامة السيطرة وحكم المجتمعات، واستخدم مفهوم الحرية والثورة لربط أي تحول وتطور بشعار محاربة "المؤامرات" ومقاومة الاحتلال، وأبعد فكرة الحرية والديمقراطية التي تعني الإنسان الفرد والجماعة، وكلها أسباب موضوعية لاندلاع ثورة ضد الاستثمار الرديء، وهو الذي نشهد خسارته في العراق ولبنان على هذا الصعيد في مواجهة الموجة الثانية من الثورة، أما في سورية فمع وصول الإطباق والسيطرة الفاشية للنظام لذروته، ستبقى ظواهر اندلاع موجات ثورية قادمة متوفرة، بعدما باتت الحرية والديمقراطية قيمة إنسانية عالية، ولأن الثورة ظاهرة ليست عابرة في التاريخ، ومرتبطة مع الإنسان وحريته لبناء مجتمع المواطنة والعدالة، ومن هنا ستبقى مسألة الحرية والديمقراطية ليست رفاهية بل قضية جوهرية لا يمكن القفز عنها.

كلمات مفتاحية

ثورات الربيع العربي الربيع العربي الحرية الاستبداد الاستبداد السياسي الديكتاتور الديمقراطية في تونس سورية تونس التاريخ لبنان السلطات المستبدة