عبد الله العروي: كلُّ ترجمة تأويل

نجيب مبارك 15 يناير 2020
هنا/الآن
"ماذا تعني الدولة الوطنية اليوم في المجتمع الحالي؟"
لا شك أنَّ الأستاذ عبد الله العروي (1933)، الذي اعتاد أن لا يخرج من عزلته في السنوات الأخيرة إلّا نادراً، ولا يستجيب لإجراء حوارات صحافية إلّا إذا ارتأى ضرورة ملحّة لذلك، هو الوحيد الّذي ما يزال قادراً على خلق الحدث وخلخلة جمود الساحة الثقافية المغربية، كلّما أصدر كتاباً فكريّاً جديداً، أو أجرى حواراً صحافياً، أو ارتقى منصّة لإلقاء محاضرة من محاضراته المثيرة دائماً للاهتمام والجدل. وهذا ما تجسَّد بوضوح، مؤخراً، عندما احتشد المئات من الطلبة والأساتذة والباحثين والمثقفين والصحافيين، في أحد مدرجات كلية الآداب بالرباط، للإنصات بشغف وفضول إلى آخر محاضرة لهذا المؤرّخ والمفكّر المغربي الكبير، بمناسبة افتتاح "كرسيّ عبد الله العروي للترجمة والتأويل" في رحاب هذه الكلية، بشراكة مع رئاسة معهد العالم العربي بباريس.

هذا الحدث كرّس مرة أخرى ما يقال عن "جماهيرية" أو "شعبية" هذا المفكر السجالي المتفرّد، داخل المغرب وخارجه، هو الذي أثرى المكتبة الفكرية العربية منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم، وحتى بعد بلوغه 86 عاماً قبل شهرين ما يزال في قمة نشاطه الفكري وحسّه النقدي العميق. وقد كان لافتاً خلال هذا الحفل، سواء على اليافطة التي تحمل اسم الكرسي الجديد أو على تلك التي قدّمته للآخرين في المنصة، تفضيله لحرف "الذال" بدل "الدال" قبل اسم عبد الله العروي، في إشارة ذات دلالة كبيرة، لأنّ العروي يحبّ أن يوصف بـ"الأستاذ" أولاً وأخيراً، وليس "دكتور" كما هو شائع  في الأوساط الأكاديمية. 
فيما يلي عودة لأبرز ما جاء في هذه المحاضرة الهامّة:

تحيين الأسئلة القديمة
بدأ الأستاذ العروي محاضرته بالتساؤل عن أحقّية المؤسستين المشرفتين على الحفل باختيار تكريمه في هذه اللحظة، هو المعروف بأفكار أقلّ ما يقال عنها إنّها خلافية ولم تكن في وقت من الأوقات محلّ إجماع أو توافق، مؤكّداً أنّه حرص طوال مساره الأكاديمي، خلال الفترة التي قضاها أستاذاً في كلية الآداب لمدة ثلاثة عقود ونصف العقد، على التمييز بين واجبه كأستاذ للتاريخ، عامّاً كان أو خاصّاً، للمغرب الكبير أو الأقصى، يهتمّ بعرض الأحداث وتمحيصها أو توضيح مناهج البحث وتفصيلها، وبين عمله كمفكّر يتعاطى لما أسماه "النقد الأيديولوجي"، متمنّياً أن يكون هذا الكرسي المستحدَث مجالاً للتباحث والتدارس لمناقشة مفاهيم وإشكالات ارتبطت باسمه في السنوات الأخيرة، وفضاء يوفّر المراجع الوثائق والمستندات التي تساعد على تحديد وتوضيح وتقييم تحليلات وإشكاليات واجتهادات ونظريات سبق أن تقدَّم بها صاحب "الأيديولوجية العربية المعاصرة" في ظروفها وحدودها، وهي ترتبط عموماً بالتاريخ، بالتطوّر والجمود، بالتقدّم والتخلف، بالاستمرارية والقطيعة، بالعقلانية واللّاعقلانية، بالاستقلال والتبعية، باللّغة واللّهجة، بالدولة والفوضى، بالثقافة والفولكلور.. إلى آخره.

وعلى عكس ما استنتج البعض، بشكلٍ متسرٍّع بعد نهاية المحاضرة، من أنّ الأستاذ العروي قد حاول هذه المرّة القيام بنقدٍ ذاتي عميق وصريح، من خلال تساؤله عن جدوى الاستمرار في دراسةِ مفاهيم طرَحها منذ منتصف القرن الماضي، وهي مفاهيم ارتبطت بمشكلات معيّنة، وما تبعها من اقتراحات فكرية كثيرة ومتشعّبة، والتي ربّما قد صارت متجاوزة الآن، خصوصاً إذا افترضنا أنّ هذه المشكلات قد وجدت طريقها إلى الحلّ أو فقدت راهنيتها في المحيط الحالي، فإنّ الأستاذ العروي في  واقع الأمر لم يسلّم بمثل هذا الاستنتاج، ولم يسقط راهنية الأسئلة القديمة التي اشتغل عليها لعقود طويلة، بل بدا أكثر تشبُّثاً بمشروعه الفكري أكثر من أيّ وقت مضى،  دون أن يغفل الإشارة إلى ضرورة تحيين هذه الأسئلة على ضوء المتغيّرات الراهنة. وهنا توقَّف الأستاذ عند ثلاثة أمثلة من الأسئلة أو الانتقادات التي قد توجَّه إليه من طرف البعض، ليستخلص منها جميعاً أنّ أطروحاته لم ينل منها الزمن شيئاً وأنَّها ما تزال صالحة إلى اليوم.
أوَّل هذه الأسئلة يتعلّق بمفهوم الدولة الوطنية، أو الدولة القومية، ما دامت كلّ أطروحات الأستاذ العروي عن التاريخانية، التخلُّف، القطيعة والإصلاح، ترتكز على هذا المفهوم، وعليه وحده، وقد جاء بهذه الصيغة: "ماذا تعني الدولة الوطنية اليوم في المجتمع الحالي، ونحن نراها في كلّ بقاع الدنيا إما تتفكّك وإما تُسلب من كلّ فاعلية ونفوذ؟ كلّ أزمات الأرض تُختزل في انحلال الدولة القومية، والانتماء اليوم هو للعرق، للمذهب، للقبيلة، لا للدولة كما تمثَّلت في فرنسا الثورية. يبدو وكأنّ المستقبل هو على الأرجح هو للسلطة القبلية أو للفدراليات الهشَّة". يعترف الأستاذ العروي أنّ الإجابة عن هذا السؤال ليست أمراً سهلاً، لأنَّنا نلاحظ بالفعل أنّ الدولة القومية لم تعد مقنعة، وأنّ الدولة الوطنية لم تعد مُجزية، لكنّه لا يتحرّج من طرح السؤال المقلق: ما البديل؟ أهو اللَّادولة؟ أهو الدولة الأممية التي تخيَّلها فلاسفة القرن الثامن عشر الأوروبي؟


الثورة الرقمية ومعنى الواقع اليوم
ثانياً، يستحضر الأستاذ العروي روح ابن خلدون مرَّة أخرى، باعتباره أَولى أهميةً كبرى لما سمّاه عملية التدوين، وبعد تذكيره بأهمّية ما حقّقته ثورة التدوين في أوروبا مع اكتشاف الطباعة، وتوقُّف العرب عند لحظة ما قبل هذا الاكتشاف، وهذا من الأسباب الرّئيسة لتأخّرنا التاريخي، يلاحظ أنّ عالم اليوم يشهد عودة الثقافة الشفويّة بقوّة، بينما يمرُّ الكتاب بأزمة خانقة، لهذا قد تكون الثورة المعلوماتية والرقمية لاحقةً تابعةً زمنياً لثورة الطباعة، لكنّها جاءت معاكسة لها وقضت على الكثير من نتائجها، وربّما نواجه اليوم مشكلات أكبر وأعوص من مشكلات الأمس، غير تلك التي اهتمَّ بها الأستاذ العروي سنينَ طويلة وجهد لتصوّر حلول لها، لكن حتّى لو صحّ ذلك، فإنّه لا مناص من ملاحظة "أنّ الأُمّية الرقمية قد تكون أسوأ من الأمّية الحرفية"، بحسب قوله، متسائلاً في هذا الصدد: "ما الفرق وما العلاقة بين الحالتين: هل محوُ الأولى، أي الأمّية الرقمية، يعفي من محو الثانية؟ أم بالعكس: هل محو الثانية هو شرط محو الأولى؟ الجواب ليس سهلاً ولا بيّناً ولا يكفي فيه استشارة متخصّص بعينه".

أما السؤال الثالث والأخير، وهو امتداد للسؤال الثاني، فيتعلَّق بمعنى الواقع في عالم اليوم، إذ يلاحظ الأستاذ العروي أنّ الواقع في المتعارف حتى الآن هو المحسوس، ما يُرى وما يُسمع وما يُلمس، فإذا بنا نرى ونسمع ما نعلمُ أنّه غير موجود مادّياً. إذ لا نتوفّر إلى حدّ الساعة على حاسّة تمكننا من التمييز التلقائي بين المعقول والموهوم، بل في حالات كثيرة أصبحنا نفضّل الوهم ونتعلّق به. إذاً - يتساءل الأستاذ العروي- أي فائدة للواقعية في الفكر والسلوك، وفي التعبير والإبداع؟ وهل هذا الواقع الافتراضي الذي يغشانا اليوم ويذهلنا هو من نتائج العلم العقلاني التجريبي أم هو من عملِ سَحرة موسى المتوهَّم؟ هل هو فعلاً غير معقول؟ بمعنى آخر، هل المجتمع غير الحداثي يستطيع أن يتصوَّر واقعاً افتراضياً؟ ليجيب في الأخير: لقد أنشأ المجتمع غير الحداثي في الماضي، وتلقائياً، قصصَ السحر والمغامرات، رسّم عوالم الغرائب والعجائب، لكنّه تحت ظلّ الحداثة لم يبدع قصص الخيال العلمي!
من خلال هذه الأسئلة، التي يبدو أنها اختيرت بعناية كبيرة وقصدية واضحة، لا ينكر الأستاذ العروي أن إشكالات اليوم ليست هي إشكالات وسط القرن الماضي، وهذه النقطة هي التي يجب أن تُناقش بجدٍّ ومن عدّة أوجُه، من الناحية الأكاديمية، لكن لا خلاف أيضاً، وهنا مربط الفرس، في أنّ هذه الإشكالات الجديدة التي تواجهنا اليوم تولَّدت في إطار معروف، هو إطار الدولة الوطنية والإنتاج الصناعي والعقلانية الواقعية، لهذا لا يتصوَّر الأستاذ العروي أن تُفهم أو تُدرس أو تُعالج في إطارٍ عتيق، أي في إطار اللَّادولة أو العمران البدوي، أو في إطار العلوم الغيبيّة، بعبارة ابن خلدون. لأنّ كلّ إشكالٍ يُطرح في نطاق سؤالين هما: أين ومتى؟ وهذا أيضاً ما حاول توضيحه الأستاذ العروي في كتابه الصادر حديثاً "بين الفلسفة والتاريخ"، الذي قام بتعريبه الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي.


في الترجمة والتأويل
في الجزء الثاني من المحاضرة، ينتقل الأستاذ العروي للحديث عن تصوُّره الخاص لما يمكن أن يشتغل عليه الفكر في وقتنا الراهن، مغربياً وعربياً على السواء، ويختزل ذلك في اقتراح أن يكون الكرسيّ الذي يحمل اسمه خاصّاً بـ"الترجمة والتأويل". لماذا الترجمة والتأويل بالذات؟ يجيب الأستاذ العروي بالعودة مجدَّداً إلى التاريخ: "ليس مشكلُ نقلِ لغةٍ إلى أخرى حديثَ العهد عندنا، لقد وصلت الفلسفة الإغريقية إلى المسلمين في صورة مشوَّهة، ونادراً ما كانت الترجمات الأولى المعيبة تُصحَّح فيما بعد. من غير المستبعد إذاً أن نجد أنفسنا بعد قرنٍ أو اثنين في الوضع نفسه، فأولئك الّذين هُم منَّا أكثر اطّلاعاً على الفلسفة الغربيّة هم في الوقت ذاته أقلُّنا تأهيلاً لنقلها إلينا. خَطؤُنا الكبير في الماضي وفي الحاضر، وما يدعوني إلى بعض التشاؤم، هو أنّنا نظنُّ أن النّقل يتمّ مرَّة واحدة، في حين أنّ الترجمة، لكي تكون مثمرةً، عمليّةٌ مستمرة. لا يمرُّ عقد في الغرب دون أن تصدر ترجمةٌ جديدة لأرسطو أو لغيره من كبار المفكّرين القدامى، بل تشيَّد فلسفاتٌ جديدة إثر إعادة ترجمة مفردةٍ أو مجموعة من المفردات". لكن هنا يجب التدقيق، ما يقصده الأستاذ العروي بالترجمة ليس ترجمة أسماء الأشياء العينيّة، وإنّما ترجمة المفردات الدّالة على مفاهيم مجرَّدة، مرتبطة بتطوُّرٍ حضاريّ خاصّ بكلّ ثقافة، يهمّ بدوره تطوّر مجتمعٍ معيّن، ما يقتضي دائماً قدراً من التأويل، لأنّه يجب أن يكون هناك تأويل للمعنى قبل الترجمة. وفي هذا الصدد، يقدّم مثالاً على آفة الترجمة الخاطئة أو المرتبكة في حالتي لفظين: الأول هو لفظ أو مفهوم "laïcité"، الذي عُرِّب لأسباب ظرفية في البداية بـ"اللَّادينية"، وليس بـ"العلمانية" كما نفهمها اليوم، فماذا يحصل لو كان المعرِّب آنذاك على اطّلاع بتاريخ المفهوم في أوروبا المسيحيّة أو لو انطلق من الإنكليزية عوض الفرنسية، أما كان المفهوم حينئذٍ ينفصل عن "اللَّادين" ويتّخذ النقاش عن المسألة مساراً آخر؟

أمّا اللّفظ الثاني الذي يسوقه الأستاذ العروي، ويكشف عن مأزقِ الترجمة ونتائجها الكارثية في الحاضر، فهو لفظ "دارجة"، المُعرَّب عن النعت الفرنسي "Courant" الذي يعني "دارج"، أي "الجاري" الّذي كان جارياً عند المترجمين الفرنسيين منذ احتلال الجزائر، حيث كانوا يميّزون بين "العربية المكتوبة" أو "الأدبية"، أي لغة المتعلّمين، و"العربية الدراجة"، أي لغة الأمّيين، ويتساءل من جديد: ماذا كان يحصل لو فعل هؤلاء المترجمون كأهل المشرق أو كقدماء النحاة وقالوا: "لغة عامّية" أو "لغة العوامّ"؟ أما كان النقاش هنا أيضاً يأخذ منحًى آخر أكثر فائدة وجدّية، لو اجتهد من يتكلّم في هذا الموضوع الحسّاس وبحث عن أصل التباعد بين المكتوب والملفوظ، ليس في العربية وحسب، بل في معظم لغات الأرض، لاتَّضح له أنّه وُجد في الماضي، يوجد حالياً وسيوجد مستقبلاً، فرقٌ يدِقُّ أو يتفاقم، بين المكتوب المدوَّن المرسَّم وبين المنطوق الحر المتشعب، والذي إذا دوُّن ورُسّم لا يلبث أن يتجزّأ بدوره إلى مكتوبٍ وملفوظ، لكلّ واحد من الاثنين مقامه ومجاله، وهذا ما يعرفه جيّداً المتحدّثون بالإنكليزية، يقبلونه ويتعايشون معه في أماكن مختلفة من الدنيا ويتعامى عنه غيرهم لأسبابٍ عارضة خاصّة.

اختار الأستاذ العروي أن يختم محاضرته بتجديد دعوته إلى إصلاح شامل للنظام التربوي والثقافي المغربي، خصوصاً في المجال اللغوي، مُنبّهاً إلى أنّ النقاش الوطني الحالي حول لغة التعليم قد حاد عن الطريق السويّ، لأنّه انطلق من سوء تأويل مفهومٍ، عبر ترجمة غير دقيقة، مؤكّداً في الأخير على أنّ "كلّ ترجمةٍ تأويلٌ، ولا أحد يملك من البدء التأويل الصّحيح قطعاً، وبما أنّ التفكير ينبني على تصوّرٍ واستحضارٍ يكفي أن نرتكب ولو خطأ بسيطاً لنتيهَ في سجالٍ عقيم لا حدَّ له، لهذا لا بدّ من العودة دائماً إلى الأصل لإعادة النظر في الترجمة باعتماد تأويلٍ جديد... وبما أنّ التفكير تأويلٌ فهو إذاً ترجمة، حتّى في نطاق اللّغة الواحدة، إذ لا توجد أداة لغوية لا يتواجد فيها القديم والدخيل، المشتقّ والمستعار، الجامد والمتحرّك، لا ننفكُّ نترجم عندما نناجي أنفسنا ونحاور غيرنا، ولا ننفكُّ نترجم بشكلٍ أوضح وأدوم عندما نتأمَّل، نتمعَّن ونفكّر. لا تفكير جدّياً وعميقاً دون تأويلٍ ودون ترجمة".

كلمات مفتاحية

الفلسفة الغربية الفلسفة الحديثة الثورة الثقافية اللغة التأريخ الواقع والمتخيّل الانتقال إلى الديمقراطية المعرفة العربية