برغم الحرب.. مبدعون يمنيون على منصة التكريم

صدام الزيدي 25 فبراير 2020
هنا/الآن
اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين يكرم هدى أبلان (فيسبوك)
محاصرة بلحظة حرب على مشارف عامها السادس، احتفت مبادرات يمنية بقامات ورموز أدبية وفنية كبيرة، لتؤكد أن الحرب يمكنها أن تمزق كل شيء في طريقها عدا الإبداع، فهو ينفذ بجلده من بين الركام، محمولاً بقيم الجمال والدهشة والسلام والحب والإنسانية.
خلال الأسابيع الماضية، كرّمت مؤسسات ومبادرات ثقافية يمنية ثلاثة من مبدعي اليمن الكبار المعاصرين، هم: أيوب طارش (1942)، فنان اليمن الكبير وملحن نشيده الوطني؛ وهدى أبلان (1971)، الشاعرة وأمين عام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين؛ وعبد الباسط عبسي (1956)، الفنان الذي غنّى للأرض وللمرأة وللإنسان.
المكرمون هدى أبلان وأيوب طارش وعبدالباسط عبسي (يسار) 

"وسيبقى نبضُ قلبي يمنياً"....
بمجرد أن يأتي الحديث عن النشيد الوطني للجمهورية اليمنية، يقفز إلى الواجهة صوت أيوب طارش، وحنجرته التي أبدعت في أداء النشيد، الذي يفاخر به اليمنيون، وتشرئبُّ أعناقهم بسماعه: "رددي أيتها الدنيا نشيدي/ ردديه وأعيدي وأعيدي/ واذكري في فرحتي كل شهيدِ/ وامنحيه حللاً من ضوء عيدي/ رددي أيتها الدنيا نشيدي/ رددي أيتها الدنيا نشيدي/ وحدتي.. وحدتي.. يا نشيداً رائعاً يملأ نفسي/ أنت عهدٌ عالقٌ في كل ذمة/ رايتي.. رايتي.. يا نسيجاً حكته من كل شمس/ اخلُدي خافقةً في كل قِمّة/ أُمّتي.. أُمّتي.. امنحيني البأس يا مصدر بأسي/ واذخُريني لكِ يا أكرم أُمّة/ عشتُ إيماني وحبي أُممياً/ ومسيري فوق دربي عربيا/ وسيبقى نبضُ قلبي يمنيا/ لن ترى الدنيا على أرضي وصِيّا".
وفيما لو أن أيوب طارش لم يكن ملحِّن النشيد الوطني لليمن (القصيدة التي كتب كلماتها

الشاعر الراحل عبدالله عبدالوهاب نعمان، صديق أيوب، وكاتب معظم أغنياته)، يظل هو فنان الشعب، ولحنه الدافئ، وأغنيته العذبة، وشغف العشاق في ليلهم وحنينهم، ونشوة الرعاة والفلاحين والعمال تحت المطر، بينما يمضون في أعمالهم وطقوسهم، على امتداد اليمن الذي حل طير الخراب بين أصقاعه، وتطوقه الحرب، وصور ضحاياها، من كل جهة ونافذة.
في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2019، شهدت مدينة إسطنبول التركية حفلاً تكريمياً للفنان الكبير أيوب طارش، أقامته مؤسسة توكل كرمان الدولية، وقناة بلقيس. وعلى الرغم من عودة أيوب طارش في الآونة الأخيرة، من الهند، وبلدان أخرى، حيث سافر للعلاج وسط مناشدات فيسبوكية تضامنت معه في مواجعه، لكن مواجع البلاد كانت أكبر، وكعادته، آثر طارش الصمت، متمنياً في كلمة سريعة له على هامش التكريم، لو أن تكريماً يحظى به رفيق دربه، وكاتب أجمل أغنياته، الشاعر الغنائي الكبير الراحل عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول).
في حالة الفنان اليمني، أيوب طارش، لا يمكنك أن تقول إنه غنى للعشاق وللمحبين وللحقول وللسواقي وللوطن وللزرع وللمطر فحسب، إنما يمكنك القول إنه غنى لكل شيء هناك: لليمن؛ لثوراته وناسه وطيوره وسمائه وشلالاته وآهاته وأحزانه.
أيوب طارش حالة استثنائية لفنان على مشارف عقده الثامن نذر روحه وأفنى عمره مترنماً بالحب والجمال والأرض والإنسان والوطن والغيوم.
جاء تكريمه في إسطنبول متأخراً بالنسبة إلى فنان حمل اليمن بين جوانحه، ومثلت تجربته الغنائية استثناء لا يتكرر، ووطناً آخر من الدهشة والعطاء الإبداعي، فاليمنيون يعتبرونه رمزاً من رموزهم الوطنية الكبيرة، وحسناً فعلت مؤسسة توكل كرمان وقناة بلقيس، عندما أشعلتا ضوءاً نغمياً فاتناً في اللحظة اليمنية المأهولة بالاقتتال والظلمة الحالكة. 

تكريم شاعرة كبيرة
غير بعيد، في صباحية نظمها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فرع صنعاء، يوم 25 ديسمبر/

كانون الأول 2019، كُرِّمت الشاعرة الكبيرة هدى أبلان، لدورها النقابي كأمين عام لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ولتجربتها الشعرية، كواحدة من أهم كتاب قصيدة النثر اليمنية، منذ مجموعتها الشعرية الأولى "ورود شقية الملامح" الصادرة في دمشق سنة 1989. ومن بين مقاطع ونصوص شعرية لهدى أبلان، نقتطف هنا هذا المقطع القصير بعنوان "تبدلات":

السماءُ التي أمرُّ تحتها تتوتر
الغيمةُ التي أمرُّ تحتها تجفّ
النجمةُ التي أمرُّ تحتها تنطفئ
النهار الذي أعبره يتليّل
والذي أحاط بنبضه يصبح ظلاً
هكذا كل الأشياء التي أشعلها
بمحبتي
لها قلبٌ من رماد.

بيسمنت تكرم عبسي
في 27 يناير/ كانون الثاني 2020، أقامت مؤسسة بيسمنت الثقافية بصنعاء فعالية احتفائية وفنية كرمت فيها الفنان عبدالباسط عبسي، الذي غنّى للأرض وللمرأة في الريف التعزّي على مدى نصف قرن، صاحب الأغنيات: "مسعود هجر وخلّف المصائب"، و"حُسنك لعب بالعقول" و"أمرّ الكؤوس". وتوجت الفعالية بتكريم الفنان عبسي بدرع بيسمنت تقديراً لمسيرته الغنائية وخصوصيتها في سياق الأغنية اليمنية بلونها التعزّي - الحُجَرِيّ (نسبة إلى منطقة

الفنان في تعز)، وبمداخلات وأوراق تناولت محطات وإشراقات ضمن مسيرة الفنان عبسي، الذي شكل مع الشاعر الكبير، سلطان الصريمي، ثنائيا شعرياً - غنائياً حصيلته عشرات الأغنيات. ويذهب الكاتب والشاعر محمد عبدالوهاب الشيباني إلى أن التجربة الغنائية الرائدة لعبسي أضافت كثيراً إلى اللون (التعزّي)، بخصوصيتها "الحُجرية"، لتصير في سياق التوصيف الدرسي، وليس التعيين المناطقي، امتداداً للتنوع الفلكلوري الذي تذخر به اليمن.
ويرى الشيباني، في ورقة عمل قدمها ضمن فعالية بيسمنت التكريمية عن تجربة الفنان الغنائية، أن عبسي كفنان مجتهد ومثقف، كان أكثر قرباً في مقاربة المشكلات الاجتماعية، مثل الهجرة، والفقر، وغلاء المهور، والأكثر تشخيصاً لحال الفلاح والراعية، بوصفيهما مرموزاً لثنائية الأرض والإنسان، وما يرتبط بحالهما من مواسم الزراعة والمطر.

***

بعد أيام قليلة، تدخل الحرب في اليمن عامها السادس، لتبقى مبادرات تكريم المبدعين من كبار الفنانين والأدباء فعلاً ثقافياً مميزاً يبدد كثيراً من الغيوم السوداء في أفقية مشهد ثقافي يتهاوى، فالتكريم هو في معظمه تكريم معنوي لا مادي، لكن هذا يعني كثيراً بالنسبة إلى الأدباء والمبدعين هناك، بعد أن نال منهم الإحباط والبؤس والفاقة والانكسار.