"اللعبة"
بعد 14 عاماً من صدور "البرابرة"، يبدو أن باريكو لا يزال لديه ما يريد أن يخبرنا به حول هذه التّحوّلات أو الطّفرات، وها هو الآن يُطلق كتابه الجديد "اللعبة"، القسم الثّاني والمتمّم لـ"البرابرة"، (The Game, Alessandro Baricco, De Bezige Bij, Amsterdam 2019) حيث لم تعد هناك "تحوّلات" أو "طفرات"، بل "ثورات" هذه المرّة، يتتبّعها باريكو مثل عالم آثار، راصداً تأثيرات وأسباب الثّورة الرّقمية، عواقبها ومخاطرها، في محاولة منه لفهمها، ومن ثمّ لشرحها لنا. فينطلق من ذات المشهد الذي ذكرناه لستيف جوبز قبل قليل، وهو يقدّم أوّل جهاز آيفون إلى العالم، من هذا المشهد انتقى باريكو عنوان كتابه، كان ستيف جوبز يلعب حرفيّاً وهو يستعرض الآيفون، لعبته الجديدة، والتي سيجعل منها خلال أشهر قليلة لعبة هؤلاء الملايين جميعاً.
في الحوار المطوّل، الذي سننشر ترجمته هنا لاحقاً، يقول أليساندرو باريكو: "بدأت التّفكير في العنوان بعد أن وصلت إلى منتصف الكتاب، في البداية فكّرت في عنونته بـ"البرابرة 2" باعتباره عنوان عملي، فهو تكملة للكتاب الأوّل، لكن عندما وصلت إلى مقالة عن ستيف جوبز، والتي كنت أصف فيها كيف قدّم أوّل جهاز آيفون للعالم وهو "يلعب" مع اختراعه أمام الشّاشات، أدركت أن "اللعبة" ستكون عنواناً أكثر ملاءمة لمحتوى الكتاب ككلّ".
منذ قراءتنا لقائمة محتويات "اللعبة" وعناوينه الدّاخلية، ندرك أن باريكو يريد هو الآخر أن يلعب، تبدأ مقالات الكتاب بعناوين مثل: اسم المستخدم، كلمة المرور، التّشغيل، الخرائط، وغيرها من المصطلحات المرتبطة بعالم الكمبيوتر والإنترنت. بالضّبط كما لو كنّا نجلس أمام شاشة وليس أمام كتاب، وصفحة وراء صفحة تتزاحم مفردات ثورة الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات أمامنا، كما لو كان باريكو لا يزال مندهشاً من التّطور الذي بتنا نلمسه كلّ يوم، أو قل الذي لم نعد قادرين على ملاحقته بالدّرجة التي تجعلنا نتفهّم حقيقته. يعيد باريكو النّظر إلى عالمنا المتغير بفضل Google، فحين كتب البرابرة في 2006 لم يكن هناك آيفون بعد، أما اليوم فهناك آلاف الثورات: إنستغرام، Airbnb، تويتر، Uber، WhatsApp وفيسبوك. يؤمن باريكو بأنّ الانقراض سيكون مصير كلّ من يتقاعس عن تطوير نفسه، ويضرب مثلاً طريفاً على ذلك بموت BlackBerry عام 2016، حيث: "لم يكن قادراً على مواجهة الثّورة التي أطلقها بنفسه. فتحوّل من غورباتشوف الهواتف إلى كائن منقرض".
اللافت في كتاب باريكو الجديد، أنّ الكاتب الذي بدا حادّاً في انتقاداته لهذه التّحوّلات الكبرى في "البرابرة"، يعود إلينا في "اللعبة" بشكل أكثر إيجابيّة وتقبُّلاً ممّا كان عليه من قبل تجاه هذه المتغيّرات العاصفة. صحيح أنّ عالمنا الحديث يتغيّر، وبشكل متسارع جداً، إلى الدّرجة التي يصعب معها التّحليل أو استخلاص نتائج أو حتى طرح حلول، لكن، ووفقاً لباريكو: "لا يوجد أيّ تلوّث في الهواء"! في 2006 حقّق "البرابرة" نجاحاً ومبيعات ومعارك لم تكن في الحسبان، وفيه رصد باريكو حمّى الذين يتصفّحون العالم من خلف شاشات أجهزة حواسيبهم، مُشكّلين شبكات افتراضية عابرة للحدود، من نوعية هوتميل وسكايب وغرف الدردشة، إلّا أنّنا نجده في "اللعبة" أكثر تسامحاً تجاه الثّورات الأحدث، بل وأحياناً مُرحّباً بتأثيراتها حتى ولو كانت سلبيّة، كما لو كان يفتح جميع الأبواب على مصاريعها للتّرحيب بقدوم "البرابرة" الذين حذّر من تكاثرهم قبلاً، وكأنّ لسان حاله يقول: "ليأتِ من يأتي، وليحدث ما يحدث"، متسامحاً عن ذي قبل مع خضوع مجتمعنا السّريع لعصر جديد من "الهمجيّة الرّأسماليّة" كما يسمّيها في كتابه بنفسه.
ومع ذلك، لا بدّ من الاعتراف بأنّ باريكو يقدّم في "اللعبة" نظرة قويّة لواقعنا الحالي، لا يترك خلالها تفصيلة إلا ويضعها تحت مجهره، بدءاً من انتشار مواقع البورنو وسيطرة نتفليكس على السّينما وتسليع الأدب على أمازون، وانتهاءً بفلسفة لعبة كرة القدم وتدمير واتساب وسكايب لثروات شركات الموبايل. ربّما نتّفق مع صاحب رواية "حرير" في تشبيه الكتاب بكونه "مجموعة من المحاضرات"، فمتعة السّرد التي يتقنها باريكو تظلّ مهيمنة على حواسّنا أثناء القراءة، إلى الدّرجة التي نجد أنفسنا فيها ونحن نبتسم أو نضحك أو نغلق الكتاب ونحن نتأمّل استنتاجاً مثيراً له في إحدى هذه القضايا والظواهر التّكنولوجيّة الجديدة.
من النّقاط القويّة الأخرى في مقالات "اللعبة"، ثراؤها بالعديد من الاستعارات والتّشبيهات والاستخلاصات الذّكيّة، يشبه باريكو في إحداها مثلاً تحرّكاتنا على شبكة الإنترنت في لحظة معيّنة بذبابة تطير في عربة قطار متحرّكة، صحيح أنّ لدينا شعوراً بالحرّية ونحن نتمتّع بحركتنا في عالم الإنترنت، يشبه ما تشعر به هذه الذّبابة وهي تطير في عربة القطار المتحرّكة، إلا أنّنا في الحقيقة مثلها تماماً؛ يتمّ دفعنا في اتجاه معيّن من قبل أنواع شتّى من الخوارزميّات غير المرئيّة، تقودنا فئراننا من رابط إلى آخر، فيما يتعاظم الحساب البنكي لأصحاب مواقع السّوشيال ميديا بوتيرة أعلى، مع كلّ نقرة من نقرات أصابعنا في غياهب الفضاء الإلكتروني.
"الهمجيّة التّكنولوجية"
يفتح أليساندرو باريكو العيون على واقع ذاهب إلى مرحلة يطلق عليها "الهمجيّة التّكنولوجية"، لكنّه رغم تحذيره المستمرّ من خطورة هذه المرحلة، إلّا أنّه يرحّب بها ويطالب الآخرين بمجاراتها والتّأقلم مع انقلاباتها. هنا نشعر بصعوبة قبول الإيجابية التي يتبنّاها باريكو، صحيح أنّه يطرح تحليلاً فريداً لعصرنا كلّه، لكنّه تحليل لا يزال محلّ نقاش وتداول ودراسات، ستأتي بلا شك في القريب من الأعوام، ولا أعتقد أنّنا سنضطر إلى الانتظار طويلاً.
بعد انتهائك من قراءة "اللعبة"، لن تحصل على إجابات حقيقيّة عن الأسئلة والمخاوف والشّكوك التي طرحها باريكو، ولا أعتقد أنّ من يعرفون الرّجل ومقالاته الشّائكة، التي ينشرها أسبوعيّاً بصحيفة "لاريبوبليكا" الإيطاليّة، سينتظرون منه مثل هذه الحلول الُمرْضية. لكن باريكو يطرح عبر هذه المقالات عدداً من الأفكار والطّروحات التي يحاول من خلالها فهم ما يحدث في العالم اليوم من تسارع تكنولوجي مرعب، وحجّته هنا جليّة لا لبس فيها، خطوة فخطوة يأخذ باريكو قارئه عبر خرائط تحليلاته وآرائه التي يرسمها وفقاً لتصوّراته، في رحلة مثيرة إلى ما يطلق عليه "عالمنا الهمجيّ الجديد الرّائع"، عندها وجدتني، وأنا أغلق الصفحة الأخيرة من الكتاب، أستعيد قسطنطين كفافيس وقصيدته الشهيرة عن البرابرة، وتوقفت مليّاً عند مقطعها الأخير:
"والآن.. ماذا سنفعل بدون برابرة؟
لقد كانوا حلّاً من الحلول".