في رحيل محمد شمس الدين.. الحياة كفرح استثنائي عابر
الفن والشعر وثقافة الكلمة
بعد توجهاته السياسية التروتسكية اليسارية، والفنية السريالية، آمن شمس الدين بأن الفن للجميع، وتحرر من الأسلوبية والمدرسية، في زمن غابت فيه متحفية اللوحة الفنية لصالح المشهدية المباشرة، فانتقل من التجريد إلى الواقعية لا سيما بعد أن عاد إلى حضن الطبيعة في قريته قرب صور. وبعد أن اعتمد على الألوان الزيتية والإكريليك، غمس ريشته في الألوان المائية.
أدرك شمس الدين أن الثقافة المشرقية عموما، والعربية خصوصا، ليست ثقافة صورة ولون بل ثقافة كلمة وحرف. لذلك كتب لوحاته بالألوان، فأدخل إلى فضاء ألوانه ولوحاته الحروف والكلمات المباشرة، والرموز العتيقة والمعتّقة لجذب جمهور ثقافة الكلمة. ولكونه من عائلة من الشعراء، ويكتب الشعر أحيانا، وظف القصيدة في الفضاء التصويري للوحاته، ووظف في بعض أعماله قصائد الشاعر محمود درويش.
كتب القصائد في ثنايا لوحاته بحروف رمزية مبهمة مع إشارته الواضحة لأسماء شعرائها. هكذا انزلق من النص الأدبي الشعري والخطابي إلى النص الرمزي، لكنه لم يسع إلى تأويل القصيدة، ولا إلى تمثلها، وإنما توخى الدخول في حوار معها، لتبقى القصيدة منطلقا لا هدفا.
الطبيعة وما وراء الطبيعة
مُجددا توجهاته الفنية التي لا تعرف الرسم بمعزل عن الفكرة، كفّ شمس الدين عن الظن بأن السهولة تكمن في رسم الطبيعة والإنسان، وأن التجريد أكثر جدية، اكتشف متأخرا غنى الطبيعة، لا سيما بعد أن ترك بيروت المدينة وعاد إلى قريته ليعشق فيها الوحدة، التي آمن أنها أفضل السبل كي يتمكن الفنان من أن ينتج. ازداد ولعه بالطبيعة، أما الإنسان "فليذهب إلى الجحيم"، بحسب قوله.
لكنه لم يخرج من جلده التجريدي كليا، فمالت لوحاته إلى الخط وإلى الانزياح عن معطياته في الوقت نفسه. وغالبا ما انقسمت لوحته إلى قسمين؛ احتلت الطبيعة أحدهما، بينما احتل الآخر التجريد ونوستالجيا الحروف ورموزها. لوحاته الأخرى انقسمت إلى مساحات ثلاثية ورباعية، تمددت الطبيعة خلالها خالية من البشر وأحوالهم، مما يسهّل تلقيها كتجريدات تخلق أشكالها من جبال ونباتات وسماوات، وتغدو الحروف الكتابية أكثر حرية تستهدي بالغموض الذي يسكنها.
في روافد مع أحمد علي الزين (2008) ذهب الراحل أنه تأثر بالحرب اللبنانية وعكسها في لوحاته بطريقة غير مباشرة، مغيرا في التأليف الكلاسيكي ذي القوانين والأنظمة التي تقتضي أن تكون الكتلة في أسفل اللوحة والفضاء في أعلاها. لكن مشاهداته للطائرات، ذات الكتلة والوزن التي تحلق عاليا بسرعة ثم تنقض وتلقي بالقذائف، أوحت له أن يبدل المواقع لتصبح الكتلة في الأسفل بينما الفضاء أعلاها مما صار يعطي انطباعا بالسقوط.
في معرضه السادس عشر؛ تحت عنوان: "شمس والمعري ودانتي"، رأى شمس الدين قاسما مشتركا بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، وعلى خطى المعري ودانتي، مزج بين نصوص المعري والفراغ الذي يصوره دانتي عن الفردوس، ليرسم لوحات اعتمدت على الشكل المربع، مستعملا الألوان المائية الممتدة على مساحة كبيرة ولوجا إلى عوالم مختلفة، حيث تتداخل المعاني لتشكل فضاء آخر متخيلا عن العالم الآخر، بين الألم والعذاب في الجحيم، والرحلة في المنطقة الرمادية، حيث السكون والانتظار قبل الوصول إلى الفردوس.
رحيل دون ضجيج
رحل محمد شمس الدين، أو "شمس" كما اعتاد أصدقاؤه مخاطبته اختصارا، في عالم انشغل بجائحة "كورونا" على حساب أي شيء آخر، بما فيها ما يحتاجه لمواجهتها (أليس الفن وسيلة فعالة للمواجهة؟). لم تقتله كورونا بل خانه قلبه الطيب، وشيع يوم الخميس إلى مثواه الأخير في صور، بعد أن فارق حياة رأى فيها «الحزنَ مسألةً طبيعيةً، مسألةً إنسانيةً، فالموت يدعو إلى الحزن، والحرب تدعو إلى الحزن، والرحيل يدعو إلى الحزن، أما الفرح فهو استثنائي وعابر».
رحل "شمس"، للأسف، دون ضجيج يستحقه بعد أن ملأ ضجيجه عالم الفن والثقافة. نعاه حزبه "الشيوعي اللبناني" على صفحته الرسمية، وبعض أصدقائه على مواقع التواصل الاجتماعي. وكتب صديقه الفنان أحمد قعبور على صفحته الرسمية في فيسبوك، فقال فيه: «كان لديك كل الحياة لتحب.. الآن لديك كل الموت لترتاح.. وداعا محمد "شمس" الدين».