في بعض الأصول الفكرية للعالم الافتراضي

باسم سليمان 20 ديسمبر 2021
هنا/الآن
(Getty)

حلم الفيلسوف الصيني، جوانغ زي، بأنّه فراشة، وعندما استيقظ لم يعد يدري؛ هل هو صاحب الحلم، أم أنّ فراشة حلمت بأنّها جوانغ زي؟ إنّ التشكيك بعيانية وحقيقة العالم الذي نحيا فيه ليس وليد لحظتنا الحضارية الراهنة، التي تتسارع فيها الاختراعات، ومعها تختلط الحدود بين ما هو واقعي حقًا، وما هو تخييلي/ افتراضي، وليس الميتافيرس الذي أعلن عنه مؤخّرًا(1) إلّا خيط إريادن الذي سيقودنا عبر متاهة وجودنا، يقينًا وشكًّا.
تعود كلمة "افتراضي/ Virtual(2)" إلى القرن الرابع عشر ميلادي، حيث تم استخدام الكلمة للإشارة إلى قدرة شيء ما لا يمتلك وجودًا فيزيائيًا حقيقيًا على تمثيل أمر واقعي وملموس. وقد بدأ استخدام هذا المصطلح في مجال البرمجيات من خمسينيات القرن الماضي للدلالة على التقنيات غير المتواجدة بشكل فعلي ضمن أجهزة الحاسبات، لكنّه موجود في البرمجيات، كالذاكرة الافتراضية للكومبيوتر. وبهذا المعنى، تم إضفاء الافتراضي على الأشياء التي ليس لها وجود مادي، ولكنّها تُدرك كالتقنيات المعنية بإنشاء محاكاة للواقع الطبيعي بشكل جزئي أو كلّي، وذلك باصطناع واقع جديد، وغمر الفرد كليّة فيه عبر نظارات الواقع الافتراضي، وما يلحق بها من متمّمات تسمح بتفاعل الحواس الخمس مع هذا الواقع الجديد.
وقبل أن نخوض في الأصول الفكرية للواقع الافتراضي عبر تاريخ الثقافة الإنسانية، لا بدّ من التمييز بين أنماط ثلاثة للواقع بالاستناد إلى تعريف (الافتراضي) المذكور أعلاه، فالأول: هو الواقع الذي يملك وجودًا فيزيائيًّا ويمثل شيئًا محسوسًا ومُدركًا. والثاني: هو الواقع الافتراضي الذي ليس له وجود مادي، لكنّه مُدرك وله تأثير بالمحسوس. والثالث: الواقع المعزّز، وهو حدّ وسط بين الواقعي والافتراضي، إذ يقوم على إضافة أشياء افتراضية على الواقع الطبيعي، كما في لعبة بوكيمون غو(3)، وفي مجالات الديكور، فالواقع المعزّز هو واقع طبيعي مضاف إليه بعض الأجزاء الافتراضية غير المحسوسة، لكن المُدركة.

يقدّم لنا أفلاطون في أطروحة الكهف تصوّرًا عن كيفية إدراكنا المغلوط للحقائق والواقع


تُثار الآن كثير من الأسئلة عن المخاطر المترتّبة على الميتافيرس، ولربما أهمّها يكمن بأنّنا سنقطع علاقتنا مع الواقع الحقيقي، وسيتحكّم بنا العالم الافتراضي وفق رؤى ديستوبية، لكن هنالك في المقابل نظريات وأطروحات فكرية سابقة على الميتافيرس ترى في هذا العالم الواقعي الذي نحيا فيه مجرد محاكاة للعالم الحقيقي، أو أنّ الواقع الذي ندركه ليس إلّا خدعة من شيطان شرير! وهنا يأتي الميتافيرس ـ إلى جانب مخاطره ـ كإيماء متهكّم على صلابة اعتقادنا بعيانية الواقع الذي نحيا فيه، ويدعونا إلى إعادة التفكير بمسلّمات وجودنا. إنّ التأمّل في الشريحة التي ستزرع في أدمغة البشر من قبل شركة Neuralink المؤسّسة من قبل إيلون ماسك وآخرين، ستضع الحواس الخمس أمام منافسة صعبة، فلقد كانت الحواس الخمس هي المدخلات الطبيعية التي يقوم عليها العقل البشري لإدراك واقعه. والآن سيرى من دون أعين، ويسمع من دون آذان... لذلك من سيتحكّم بمدخلات هذه الشريحة سيحدّد الواقع الذي يريد، لا الشخص الذي يفكّر، أو يدرك هذا العالم.




إنّ القلق الوجودي الذي عرضناه آنفًا قد اعترى الإنسان منذ القدم، فقد لاحظ كيف تُخدع ملكة التفكير ببساطة! لذلك ليس الميتافيرس، ولا شريحة إيلون ماسك، ديستوبيا محضة، بل السؤال الوجودي وقد ارتدى لبوسًا جديدًا.
يقدّم لنا أفلاطون في أطروحة الكهف(4) تصوّرًا عن كيفية إدراكنا المغلوط للحقائق والواقع، عبر قصّة يعرض فيها أناسًا مقيدين منذ فترة طويلة في كهف، بحيث لا يستطيعون فكاكًا، أمامهم حائط تظهر عليه أخيلة أناس وحيوانات وأشياء تمرّ خلفهم. إنّ إدراك هؤلاء الأناس للحقائق مرتبط بما يرونه من ظلال، فهي بالنسبة لهم حقائق مطلقة، لكن لو تم تحرير أحدهم وسوقه إلى العالم الحقيقي، سيصدم بما سيشاهد، وسوف يأخذ وقتًا كي يدرك الفرق بين الواقع الحقيقي وعالم الظلال الذي كان يحيا فيه. وإذا عاد إلى أصحابه المسجونين في الكهف لسوف يرفضون مقولته الجديدة عن الحقائق والوقائع ويتهمونه بالجنون. كانت قصة أفلاطون تعبيرًا عن عالم المثل والحقائق المطلقة مقابل عالم المحاكاة التي نعيش فيه، فالمحاكاة هي الظلال التي يشاهدها المسجونون، وعالم المُثل هو الذي عرفه السجين المحرّر. إذًا، نحن نعيش وفق أفلاطون في واقع مزيف علينا التحرّر منه بإدراك عالم المُثل. هذه الرؤية قد تم الاستناد إليها في سلسلة أفلام "المصفوفة/ "The Matrix، من تأليف وإخراج الأختين وتشاوسكي، والذي تدور قصته عن الهكر "نيو"، الذي يريد أن يعرف ما هي المصفوفة، ليكتشف أنّ عالمه مجرد محاكاة، فيما الواقع الحقيقي شيء آخر. تتقاطع رؤية أفلاطون مع الأختين وتشاوسكي، ويطرحان أسئلة جوهرية عن الكينونة والوجود: ما هي الحقيقة وكيف أعيها؟ وما هو الوجود وكيف أعاينه؟ وكيف نعرف أنّنا لسنا في محاكاة، وأنّ ما نعرفه عن الواقع هو مجرد محاكاة لواقع آخر! إنّ الديستوبيا التي قدّمها أفلاطون، ومن بعده الأختين وتشاوسكي، تكمن بأنّ أناس عالم الكهف والماتريكس ليسوا في شكّ بواقعهم أبدًا، ولو لم يحدث أمر من خارج المحاكاة والماتريكس، لن يكون في استطاعة أحد ما أن يكتشف الخديعة المحاكاتية للواقع الذي يحيا فيه.




هذه الأسئلة والهواجس طرحها ديكارت(5)، وناقشها باستفاضة، فقد افترض أنّ هنالك ربًّا، أو شيطانًا، قد أوحى إلينا بكلّ أحاسيسنا وإدراكاتنا وتصوراتنا عن هذا العالم: "لنفترض أنّ هنالك ربًّا له مطلق القوة، وخلقني، كما أنا عليه، قد سيطر خلال وقت طويل على عقلي بشكل راسخ، فما يدريني، إذن، لعله قضى بألّا تكون هناك سماء أو أرض، أو أي شيء ممتدّ، أو شكل، أو مقدار، أو مكان، وقد هيأ في الوقت نفسه أن يظهر في داخلي إدراك هذه الأشياء، واقتناع بأنّها لا توجد بأي طريقة أخرى غير ما أدركه". لم يبق أمام ديكارت كي يتيقن من العالم الذي يحيا فيه إلّا أن يقول كوجيتوه المشهور: "أنا أفكر، إذًا، أنا موجود"، وكأنّه بمقولته هذه يضع إشارة استفهام كبيرة أمام كل معطيات الحواس والواقع. وكأنّ شكوك ديكارت تصبّ في تداعيات شريحة إيلون ماسك!

(Getty)


حلّل علماء النفس مفهوم الوهن؛ وهو شلل يصيب الجسد أثناء نوم حركة العين السريعة، ولكن لماذا نصاب به؟ لأنّه احتراز تطوري كي لا نؤذي أنفسنا خلال الأحلام، لكن قد يفشل هذا الاحتراز، ومن الأمثلة على ذلك المشي خلال النوم. لنتصوّر أنّ العالم الواقعي الذي نحيا فيه هو حلم لا توجد فيه تلك الاحترازات في نوم حركة العين السريعة، فما الذي سيحدث؟ عندها لن نميّز بين الحلم والواقع، وكأنّنا أمام مقولة جوانغ زي. قام عالم النفس الفرنسي ميشيل جوفيه(6) في خمسينيات القرن الماضي بتجربة ذلك على مجموعة من القطط، بعد أن قام بتدمير موانع نقل الإشارات الدماغية إلى الجسد، فلا يصيبها الوهن عندما تحلم. راقب جوفيه قططه التي كانت تتحرّك خلال أحلامها، وتكمن لفرائسها وتقفز وتهجم وتعيش حلمها كأنّها مستيقظة. لم تستطع القطط إدراك الفارق بين الحلم واليقظة، وهذا هو حال بعض مرضى باركنسون الذين يتأثرون باضطراب سلوك نوم حركة العين السريعة، فينهضون من فراشهم وهم نيام ليمتثلوا لأحلامهم وكأنّهم مستيقظون. أليست أحلام قطط جوفيه هي واقع افتراضيّ آخر، بل واقع حقيقيّ، لولا الوهن الذي يصيبها في نوم حركة العين السريعة.




بعد أن قدّمنا ثلاثة نماذج تقودنا إلى التشكيك بالواقع العياني الذي نعيشه، من الطبيعي أن نتساءل عن الكينونة البشرية التي تسكن هذه العوالم. إنّ الولوج إلى العالم الافتراضي سيكون من خلال "أفاتار/ Avatar" صورة ثلاثية الأبعاد عن الشخص تعبّر عن هويته وشخصيته الجسمية والنفسية، وبها سيتفاعل مع محيط عمله وأصدقائه وفضائه المكاني والزماني في الواقع الافتراضي، وليس للصدفة المحضة بأن تكون كلمة أفاتار(7) تعني تجسّد كائن علوي في العالم السفلي، فالأفاتار هو تجسد افتراضي للشخص، أو محاكاة له في العالم الافتراضي. إنّ الوالجين إلى الواقع الافتراضي سيكون لهم حرّية الاختيار ـ مبدئيًّا ـ في الظهور بأي صورة بشرية يشتهون أن يكونوا فيها، إلّا أن الأسئلة حول هذا الأفاتار، وما سيرتبه من آثار نفسية على الشخص في الواقع الحقيقي بدأت بالظهور قبل أن يطرح زوكربيرغ فكرته. إنّ فكرة الأفاتار والآثار الجانبية التي ستترتب على التناقض بين صورة الشخص في العالم الافتراضي وصورته في العالم الواقعي كان قد عالجها أوسكار وايلد(8)، من خلال قصة "دوريان جراي"، الذي كان شابًا معجبًا جدًا بوسامته. وعندما رسم له صديقه لوحة، تمنّى أن تستقبل اللوحة عوامل الزمن بدلًا من وجهه؛ وحدث أن تحقّقت أمنيته. خبّأ دوريان اللوحة عن الأعين، وكان في كل يوم يطالع وجهه في المرآة، يرى نفسه شابًا جميلًا لم تغيّره السنون، إلى أن دخل بعد مدة طويلة من الزمن إلى المخبأ الذي أودع فيه اللوحة التي رسمها له صديقه. فكانت المفاجأة الصادمة بأنّ رسمه في اللوحة قد نالت منه السنون وعوادي الزمن، فيما ظلّ شابًا في الواقع، وهكذا صدمته الحقيقة المرّة بأنّ شبابه هو مجرد خداع، فغضب من نفسه، وكسر المرآة، وطعن اللوحة. في الصباح، وجد الخدم رجلًا عجوزًا مطعونًا ملقًى على الأرض، تعرّفوا فيه على سيدهم، وإلى جانبه لوحة رسمت له في شبابه، عندما كان في أجمل أيامه.

لم يبق أمام ديكارت كي يتيقن من العالم الذي يحيا فيه إلّا أن يقول كوجيتوه المشهور: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"


إنّ رواية وايلد التي صدرت في 1891 قد أثارت بشكل مضمر ورؤيوي مستقبلي الأسئلة الأخلاقية والنفسية عن الهوية والشخصية البشرية التي سيثيرها الأفاتار في الواقع الافتراضي والواقع العياني، فأي من الشخصيات التي سيظهر بها الشخص في عوالمه الافتراضية ستكون هي المعتمدة في معاملاته الواقعية والافتراضية، وليس هذا فقط، فقد رتّبت المرشحات والفلاتر المستخدمة في الانستغرام ـ على سبيل المثال ـ، والتي تعدُّ من ضمن الواقع المعزّز آثارًا سلبية جدًا على المستخدمين، فالصورة الحقيقية قد توارت خلف الفلاتر، وعليه هل ستكون النتيجة بأن نصبح كدوريان جراي بعد العودة إلى الواقع، نطعن واقعنا الذي لا يتوافق مع أفاتارنا؟




إنّ الأطروحات الفكرية التي عرضناها أعلاه، من كهف أفلاطون، كأمثولة تعلّمنا كيف نقارب القناعات القارة، وكيف ننقضها، وشكوكية ديكارت التي تدفع بعقلنا إلى مساءلة معطيات الحواس والتشكيك بها، بالإضافة إلى قطط جوفيه التي رفع عنها وهن نوم حركة العين السريعة، وأفاتار أوسكار وايلد، ليست مجرد تخييل بشري واختبارات نفسية، بل كشف لمقدار الشكوك التي تعتري الإنسان تجاه وجوده وكينونته وسعيه الحثيث نحو يقين لا ينال منه الشكّ. لا ريب أنّ الواقع الافتراضي سيفرض على الفكر البشري إعادة طرح الأسئلة الفلسفية والثقافية والقانونية والسياسية والعقائدية أيضًا، فنحن الآن أمام ماورائيات، الميتافيزيق والميتافيرس، وكلاهما يقدّمان للإنسان وجودًا لا فيزيائيّا، لكنّه مدرك على نحو خاص، سواء كان على صعيد الإيمان، أم على صعيد الافتراض، لكن هذا الواقع (الخاص) الذي نضعه بين مزدوجتين، سيلعب دورًا جذريًّا في واقعه العياني. ومهما يكن ما سيقود إليه الميتافيرس، من تعاضد مع الواقع العياني، أو تعارض، ستظل أمثولة كهف أفلاطون حاضرة في كلّ طرح علمي جديد بالسؤال التالي: ما الذي نعرفه حقًّا؟


مصادر:
(1) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B1%D8%B

(2) ــ https://www.etymonline.com/search?q=virtual
(3) ـ https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%88%D9%83%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%86_%D8%BA%D9%88
(4) ـ الجمهورية، المدينة الفاضلة للفيلسوف أفلاطون، صادرة عن دار الأهلية، عمّان ـ 2009.
(5) ـ التأملات في الفلسفة الأولى، ديكارت، إصدار مكتبة الأنجلو المصرية ـ 2009.
(6) ـ الحيوان الحكّاء، جوناثان غوتشل، منشورات تكوين ـ 2018.
(7) ـ ttps://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D9%81%D8%A7%D8%AA%D8%A7%D8%B1
(8) ـ صورة دوريان جراي، أوسكار وايلد، تعريب لويس عوض، التنوير ـ 2014.