القدس كمدينة متمردة.. استعادة الهواء من أجل التنفس

أحمد محسن 13 مايو 2021
من فوق، في علب التلفريك، كما يتخيّلها الاحتلال، تبدو القدس مكانًا يمكن السيطرة عليه. مكان يمكن اختراعه، مِثل اختراع «أرض إسرائيل» أو مِثل اختراع شعب على مقاسها. من ضمن منهج غير جديد، يعتقد الاحتلال أن بإمكانه السيطرة على تاريخ المكان، وتقديم حاضر من خارج التاريخ. الصراع على القدس هو صراع على الزمن، والزمن بالنسبة للاحتلال هو المستقبل فقط. من فوق يبدو الماضي صغيرًا، يمكن تسييجه بأنجع شروط الرقابة والعقاب. يبدو مكانًا نموذجيًا لاختيار الأهداف، تمامًا كما تشعر الطائرات الحربية التي تحلّق فوق الأراضي المحتلة وتذهب لقتل الأطفال.

لكن هذا يحدث من فوق فقط. على الأرض كل شيء مختلف. بعد عسكرة القدس ومحاولة تحويلها إلى معتقلات دائرية، بعد الجدار الذي حاول خنقها، أثبت المقدسيون ما لا يستطيع الاحتلال أن يفهمه: أنهم شعب واحد. يتصلون ببعضهم البعض، خارج المدينة وفي داخلها. يتضامنون مع بعضهم في الأمكنة على اختلافها، من أجل أماكنهم المختلفة. متصلون ببعضهم، كما تتصل السماء ببعضها فوق الأرض. لديهم مدينة يدافعون عنها، وتدافع عنهم.
  



المناعة التاريخية

سيرى الناظر من فوق حديقة الجرس أيضًا حدائق مستلهمة من التناخ ومن تفاسير مبتذلة للتوراة. وقد يبدو جبل صهيون، من فوق، مناسبًا لأسطورة أخرى. يهاجم العالم الأساطير لكنه يسمح بتحوّلها إلى أدوات هيمنة ضدّ الفلسطينيين. استيطان على الأرض، واستيطان في السماء. ولكن المدينة دافعت عن أهلها. ليست الانتفاضة الأخيرة دفاعًا من طرف واحد، فالمدينة أيضًا تدافع عن نفسها وعن أهلها. المعركة قديمة. في «إعادة اختراع القدس: إعمار الحيّ اليهودي بعد 1967»، يبيّن سيمون ريكا العلاقة القوية بين عنف الدولة والعمارة في القدس الشرقية بعد الاحتلال، وبالتحديد فيما يتعلق بنسف الأساس التاريخي واستبدال التراث بالأيديولوجيا. لكن بكل بساطة لا يمكن اعتقال الذاكرة. فشلت المحاولات الإسرائيلية فشلًا ذريعًا بسبب المناعة التاريخية للمدينة. وثمة أسباب أخرى يمكن تفسيرها بسهولة: السيطرة الحتمية لليمين المتطرّف على الحيّ. مع الوقت، تعطّلت تصوّرات الصهيونية عن نفسها كمزيج من حالة علمانية مرتبطة بجذور يهودية، وأصيبت هذه الهوية بنفسها في عطب لا يمكن إصلاحه، يتجلّى في الصراع على القدس. أما من الناحية المعمارية الصرفة، وبالعودة إلى ريكا، فيستنتج الأخير ما يمكن للمحايدين استنتاجه: لم يحدث «ترميم» في الحي اليهودي. ما حدث فعلًا هو التوسع ضدّ الماضي، عبر تقديم الحيّ كلافتة عريضة تعلّق عليها الرواية القومية الإسرائيلية، المنافية للحقائق التاريخية. لم تحدث أي استعادة للهوية، لأنها ببساطة، هوية «آخرين»، وأصحابها لم يفقدونها حتى يستعيدونها. رغم ذلك، ينجح الاحتلال في التشويه.

نتحدّث عن العمارة، عن المقاومة، وعن المدينة. القدس أيضًا تتحدّث عن نفسها. الطرقات التي تحارب بأوصالها، وترفض تحويل المدينة إلى مجموعة جزر. لكن ما هي المدينة سوى تجمع الأحياء الذي يجمع السكان؟ العلاقة بين السكان وبين الأحياء هي علاقة تفاعلية. في النهاية يخضع المكان لشروط أهله، وينفجر معهم عندما يستبعدون تمامًا من عملية "إنتاج المدينة". قد يمنحك العنف السيادة في لحظة ما، لكنه سيدفع إلى عزلة لا متناهية أيضًا. العنيف لا يغادر ذاته أبدًا، فهو يسعى للتملّك وبذلك لا يعود في حضوره يوجد أي وجود. وهكذا اختفى الحيّ بوصفه حيًّا، وصار تصورًا أيديولوجيًا، ليس لديه ما يقدّمه عن نفسه سوى العنف. على العكس من ذلك، يعرف المقدسيون جيدًا الطرقات إلى الأقصى. وقد شاهد العالم كيف اخترعوا طرقًا في الجبال لكي يصلوا، ويسخروا من المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تعتقد أنها قادرة على السيطرة على كل شيء. للتخلّص من هذا الوهم، يتوجّب على الاحتلال أن يفهم أن أدوات الرقابة والعقاب ليست ذات معنى أو فائدة، من دون مجتمع. وهذا ما لن يفهمه الاحتلال، في حياته، أي أنه لن يصير مجتمعًا، بالتزامن تحديدًا مع صفته كاحتلال.

الجدار الإسمنتي هو المرادف الإسرائيلي للأسوار القديمة. مِثل الشعور الرهيب بالضيق الذي يسببه الجدار 


قد يسبّب هدم المنازل الألم لأصحابها. وتفاديًا للمبالغة في استخدام خطاب «انتصاري» يجب الاعتراف أن الهدم يشكّل إهانة رهيبة للكرامة الإنسانية لا يمكن تخيّلها. إنه هدم للذات، وإلى مكانة المأوى والجذور. لكنه في النهاية لن يسبب خللًا في الهوية. التعامل مع الفلسطينيين كما لو أنهم «غير مرئيين» لا يعني أنهم غير مرئيين فعلًا. الانتفاضة ليست سوى دليل طبيعي على علاقة طبيعية بين السكان والمكان، وعلى احتمالات العودة والظهور.

  


وجوه كثيرة لمدينة واحدة

المدينة غير ممكنة بذاتها بل تحتاج إلى مجتمع، ليس لحمايتها فقط إنما لكي تنشأ وتطوّر لنفسها معنى. وعندما يقال «المجتمع الإسرائيلي» فإن ما يقصد بذلك ليس المجتمع كما نعرفه، أو ما يمكن أن يكون مجتمعًا يمكن الدفاع عنه. هذا المجتمع هو مجموعة مصالح ظرفية تحافظ على شرط الظرفية، إنه أكثر تعقيدًا من ذلك أيضًا. وعندما يغيب المجتمع والثقافة المشتركة القابلة للتفاعل، تطغى العدائية على صفات الكائن المقيم/ العابر في المجموعة. في هذا السياق تحديدًا يمكن فهم عنف الاحتلال الاسرائيلي بتسمياته المختلفة الموزّعة على أدواته مثل شرطة/ جيش/ أمن/ دولة/ مستوطنين/ أجهزة، في مدينة مثل القدس تشكّل حولها مجتمعًا استحال إلغاؤه رغم فظاعة العنف. الكائن العدائي الذي يعيش بلا مجتمع يعجز عن استثمار وجوده. بالضبط هذا هو المستوطن الذي لن ينتج في حياته شيئًا غير العنف. 

في موازاة ذلك، ثمة سلسلة طويلة من العلاقات بين السُلطة والعنف، وبين الضحايا والاحتلال. ترتبط السُلطة السياسية بالشكل التاريخي للدولة، وتبدو أقرب التفسيرات الممكنة لهذه العلاقة هي تلك التي يقدمها لنا هنري لوفيفر. في بحثه عن تاريخ هذه العلاقة يفتح لوفيفر الباب أمام إجابات أعمق.. كل هذه الأشكال تظهر في تمثيلات أنثروبولوجية: الأعياد، المناسبات، الصحافة، الأيديولوجيا والأفكار، التصورات حول الذات وحول الآخر وحول المجتمع والعالم، وإذا كنت تعرف لوفيفر جيدًا، يمكن أن تضيف «المدينة». في القدس، حيث يفيض العنف عن الواقع، أو ما يمكننا تسميته بالواقع، ثمة استحالة هائلة للتمييز بين التمثيلات الرمزية وبين مصادرها، بحيث أدّت العمارة والتخطيط وظائف مشابهة لما أدّت إليه السينما والاستيطان، فكل شيء يحدث هنا هو نتاج مباشر للعلاقة بين العنف والسُلطة. لا نوافذ أو مخارج وبشكل عام تحدد الدولة الهوية. تحدد هذه العلاقة وحدها درجة العنف وتلعب آثار الأخير أدوارًا في تحولات الهوية، التي هي جزء مما يدافع عنه البشر بصورتين، فردية وجماعية. لكن القدس، ببساطة، لا تعترف بدولة ولا بعنفها. العنف الوحيد الذي تعترف به هو الاحتلال، ولذلك أعادت إنتاج هويتها ضدّه. وإن يبدو هذا حشوًا فلسفيًا، فعليه العودة إلى الأرض لكي يفهم.

 

لم يحدث «ترميم» في الحي اليهودي. ما حدث فعلًا هو التوسع ضدّ الماضي، عبر تقديم الحيّ كلافتة عريضة  


رغم كل شيء ليست التفرقة بين التمثيلات الرمزية وبين الأساطير أمرًا سهلًا. لكن في حالة المقدسيين، لعب الاحتلال دور الدولة، وبالتالي عرفوا الشكل الأقصى من العنف خلال عملية إعادة إنتاج العلاقات داخل المجتمع، ومن ضمنها إعادة انتاج الهيمنة. قد لا نجد مثالًا أوضح من الذي يقدّمه لوفيفر نفسه عن الأمم المتحدة كمنظمة «ديموقراطية»، لديها وظيفة تنظيم الاختلاف بين العدالة المسماة قانونية في إطارها النظري، وبين الحقيقة التي تتمثّل بالتفاوت بين جميع المنتمين. ليس فلسطين، بل في حالة القدس تحديدًا، تقدّم العدالة الدولية الأمر بالمقلوب: الفلسطينيون بحاجة إلى دولة لكي تكون لهم عاصمة، ولا تبحث في الاحتلال من أساسه. العالم يسير وفق منظومة: العلائقية/ التجزئة/ الهرمية. بهذا المعنى تصير الانتفاضة في القدس انتفاضة ضدّ المنظومة التي تحكم العالم، وتتجاوز نفسها كانتفاضة ضدّ الاحتلال نفسه، في مقابل دولة تعاين ارتداد منظومة «الرقابة والعقاب» عليها. ذلك لا يلغي، أنه ولوقت طويل، حاول الاحتلال الاستعاضة عن المفاهيم الرمزية التي لا يملكها، بمحاولة تملّكها، وقد ترافق ذلك مع منظومة واسعة من الأساطير. بتغيير معالم باب العمود، لا يحاول الاحتلال طمس المعالم وحسب، بل يحاول أيضًا القول إنه يملك أدوات الهيمنة وقادر على استخدامها بصورة منظّمة ضدّ البشر وضدّ التمثيلات الرمزية. هكذا، يحاول في القدس، أن يقنع نفسه أنه صاحب السيادة، وأن يصنع وعيًا بذلك، عبر تطويع الرموز التاريخية التي تذكّره دائمًا أنه «لا يملك شيئًا هنا». وعندما يقتحم الجنود الأقصى، فهذا يعني أنهم يعرفون أنهم لا يملكون الأقصى. وعندما يرسلون الرسائل إلى المشاركين في الانتفاضة والمدافعين الفلسطينيين عن المدينة، يخبرونهم فيها أنه «تم تحديد وجوههم»، فهذا يعني أن للاحتلال وجها واحدا يتشاركه جميع المحتلين وهو العنف، بينما للمدينة وجه واحد وأهل بوجوه متعددة. 

ما يفعله الاحتلال

قبل أن تصل إلى ذروتها اليوم، تمدّدت منظومة «الرقابة والعقاب» في القدس في أوائل التسعينيات. أصبحت المدينة مثل رئة صغيرة تواجه الاختناق. مُنِعت من ممارسة دورها كمدينة، عبر محاولات الاحتلال بفصل الأحياء عن بعضها البعض، و«تجزير» الوجود الفلسطيني فيها (تحوّل التجمعات السكنية إلى جزر، في حالة فشل مشاريع التهجير والابعاد). عادة يواجه الضعفاء في المدن مشاريع الإقصاء على أسس طبقية، ويستبعدون من التخطيط الحضري بأساليب دنيئة. لكن الاحتلال، بأداتيه الرئيسيتين كاحتلال، أي الاستيلاء والقمع، جمع بين هذه الوظائف جميعها. احتكر تنظيم العمل والحياة ثم قطع العلاقة بين القدس ومحيطها، ربما بمساعدة متواترة من السُلطة التي عزلت رام الله عن القدس وجعلتها منافسًا حضريًا لها وفق ظروف واعتبارات متعددة. من الناحية الجغرافية يبدو واضحًا أن الاحتلال فعل ما تفعله الاحتلالات عادةً. على الخرائط تبدو القدس متصلة برام الله، نابلس، طولكرم وبالخليل وبيت لحم. ولكن الحواجز قطّعت أوصال المدينة. في الوقت ذاته، لا يمكن القول إن الجدار لديه وظيفة خاصة، فالاحتلال نفسه هو الجدار وأوضح تمثيلاته، بعد سلسلة محاولات مائعة لكي يعبّر الاحتلال عن نفسه. المحاولة الأولى كانت أركيولوجية: تغيير المعالم وإعادة البناء حسب التصورات التوراتية. المحاولة الثانية جغرافية: تقطيع المدينة، ومحاولة وصلها بتل أبيب بدلًا من اتصالها الطبيعي مع محيطها. المحاولة الثالثة ديموغرافية، أي التسريع في عمليات الإحلال والاستيطان ومحاولة تغيير التوازنات. المحاولة الرابعة أمنية: الحواجز، مصادرة الأراضي، الاعتقالات التعسفية. المحاولة الخامسة، انهاء دور القدس كمدينة أو كعاصمة تاريخية.

 

البلدة القديمة (القدس) 


اليوم، بعد ثلاث موجات رئيسية من التهجير، ومئات الموجات اليومية، تعيد الانتفاضة التأكيد – كما في كل مرة - على أن فلسطين هي وحدة جغرافية، مكوّنة من شعب واحد (الشتات/ عرب الداخل/ الضفة الغربية/ غزة). وهناك علاقات ونسيج اجتماعي يدعم هذه الحقائق، لا يمكن الاحتلال تغييره بالتعسف. صحيح أن «لم الشمل» ألغي في 2002، وأثّر على المقدسيين، ولكن الفلسطينيين ما زالوا شملًا واحدًا في الواقع. يمكن للفلسطيني أن يسأل أي فلسطيني آخر عن تاريخ هذه الأرض، فهو يعرف جيدًا على الأقل أنه يملك تاريخًا فيها. في المقابل، ليس سهلًا، حتى على المستوطن الآتي من جيل متأخر أو أول، أن يقيم علاقة مع مدينة لا يملك تاريخًا فيها، بل كل ما يحاول فعله هو طمس تاريخها. المكان الذي ينفضح فيه كل هذا، ليست كومة الأبحاث الأكاديمية الموجّهة التي يجريها إسرائيليون، بل بالتحديد المدينة نفسها. وليس أي مدينة، إنما القدس خاصةً (من نافل القول التأكيد على أن وجود أبحاث أكاديمية إسرائيلية موجّهة لا علاقة له بفداحة نقص الإنتاج العلمي العربي ولا سيّما في المسائل المتعلقة بالتاريخ والأرض). لهذه الأسباب، من بين أسباب كثيرة، يفهم المقدسيون علاقة القدس بالأسوار. إنها علاقة تاريخية. يفهمون الوظيفة الرمزية لوجود أسوار، التي لا تعترض على رحابة المدينة، بقدر ما أنها تسهم في هويتها المعنوية. الجدار الإسمنتي هو المرادف الإسرائيلي للأسوار القديمة. مِثل الشعور الرهيب بالضيق الذي يسببه الجدار، يسيطر الفراغ على الطبيعة المعمارية للوحدات الاستيطانية. مجرد انشاءات متفاوتة في الحجم لكن سمتها الأساسية هي الفراغ. الفراغ القابل لمختلف أشكال الاستهلاك: الرقابة والاعتقال والتشويه البصري. وإن كان البيت تأسيسيًا في تشكيل المدينة، فإن الاحتلال في سباقه من أجل المحو، يعلن كل مرة عدم قدرته على مواجهة كل ما يقف أمامه. لا يعرف الاحتلال البناء لأنه يقوم على العكس تمامًا، أي الهدم. ولا يستطيع كبح شهوته لخنق الأشياء من حوله، وعدم ترك أي هواء شاغر فيها. خلال الانتفاضة الأخيرة استعاد المقدسيون الهواء. لقد تنفّسوا قليلًا.