في رحيل جبور الدويهي.. راوي الحياة اللبنانيّة

بهاء إيعالي 27 يوليه 2021

من الخطأ الاعتبار أنّ جبّور الدويهي صعب القراءة، ومن الخطيئة الاعتقاد أنّه سهلُ القراءة أيضًا، ففي أعماله الروائيّة والقصصية بكاملها يقدّم لنا الروائيّ اللبنانيّ، والذي غادرنا منذ بضعة أيّام، خلطةً روائيّةً شاء من خلالها، أو ربّما لم يشأ بإرادته، أن يشكّل انطباعًا خاصًّا لدى القارئ مفاده أنّه ليس من الصعب قراءته، فهو لا يتّجه إلى أساليب تجريبيّةٍ معقّدةٍ تُدخلُ القارئ في متاهاتٍ لا حصر لها، لكنّه ليس من السهل قراءته لأنّ أغلب أعماله اتّخذت من التاريخ ركيزتها الأساسيّة، وهو لا يرغب بإعادة تقديم التاريخ اللبنانيّ بالصورة النمطيّة التي دأب المؤرّخون على تقديمها، بل أراد تفكيكه والذهاب بعيدًا في جانبه الهامشي المغيّب من قبل المدوّنات التاريخية، ألا وهو تاريخ الحاضرة اللبنانيّة وشخوصها الشعبيين.

ما دأب عليه الدويهي طيلة أعوامه الـ 72 هو الاشتغال على البيئة اللبنانيّة الحضريّة (الريفيّة والمدنيّة) وإعادة تكوين هويّتها الثقافيّة والاجتماعيّة من زوايا مختلفة. هذه البيئة عرفناها في "مطر حزيران"، في المجزرة المهوّلة التي عاشتها بلدةٌ زغرتاويّة في خمسينيات القرن الماضي، والتي ربطها الدويهي بظاهرة ضياع الهويّة لدى المهاجرين اللبنانيين الذين نشأوا في بلدان الاغتراب؛ كذلك عرفناها في "شريد المنازل" التي دأب في صفحاتها على تفكيك الانقسام اللبنانيّ السائد في الفترة ما قبل الحرب الأهليّة، والذي ذهب ضحيّته أولئك الذين أرادوا الانعتاق من الانتماء الطائفي والعقائدي المفروض عليهم؛ وأيضًا عرفناها في "ملك الهند"، وذلك في إعادة النظر في الموت اللبنانيّ الذي أخذ فيها منحنياتٍ مختلفة منها النزاعات العائليّة والعشائريّة والطائفيّة في البلدات والقرى... جميعها روايات قدّم فيها جبور الدويهي "الحياة اللبنانيّة" بمختلف تصاويرها التاريخيّة، وهي الحياة التي بدأت تعيش ديستوبيا الخراب والانهيار، والذي ربّما كان ذلك مردّ عنوان روايته الأخيرة "سمّ في الهواء".



غير أنّ صاحب "حي الأميركان" احتفظ بأحد أهمّ أسراره في الكتابة، ألا وهي قدرته المدهشة على تحويل هذا التاريخ إلى واقعٍ معاش، فالقارئ الجدّي لأعماله يلاحظ أن كافة إسقاطاته الموغلة في التاريخ ليست سوى صورٍ خلفيّة لعالمه الراهن الذي عاشه، فهو الذي عايش مختلف الأحداث والمحطّات التاريخيّة التي مرّ بها لبنان وطبع بها رواياته، ومن زاوية سَوق الحكايا الشعبيّة وتحويلها إلى مروياتٍ تاريخيّةٍ وأدبيّة. وعلى الرغم من تأخّره للبدء في عالم الكتابة والإبداع بشكلٍ رسمي (نُشرت مجموعته القصصية الأولى والوحيدة "الموت بين الأهل نعاس" عام 1990 وكان له من العمر قرابة الأربعين عامًا)، إلا أنّه ترك آثارًا أدبيّة عظيمةً باتت اليوم مقروءةً لدى مختلف شرائح القرّاء، مدروسةً في مختلف المناهج والدراسات العليا، ومترجمة إلى العديد من اللغات العالمية.

تجدر الإشارة إلى أنّ أعمال الدويهي الأدبيّة عرفت الوصول للعديد من الجوائز العربيّة والعالمية المرموقة، فروايته "اعتدال الخريف" فازت بجائزة أفضل عملٍ مترجمٍ من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة الأميركيّة، وفازت روايته "شريد المنازل" بجائزة الأدب العربي في باريس عام 2013 وجائزة حنّا واكيم للرواية اللبنانيّة عام 2011، كما فازت روايته "حي الأميركان" بجائزة سعيد عقل عام 2015. وأيضًا عرف حضورًا شبه دائمٍ في قوائم الجائزة العالميّة للرواية العربية (المعروفة ببوكر العربية)، بحيث وصلت أربعُ رواياتٍ له إلى القائمة الطويلة (مطر حزيران – دورة 2008؛ شريد المنازل – دورة 2011؛ حيّ الأميركان – دورة 2015؛ ملك الهند – دورة 2020)، وثلاثٌ من هذه الروايات وصلت للقائمة القصيرة (مطر حزيران؛ شريد المنازل؛ ملك الهند). غير أنّه ظلّ مؤمنًا بأنّ الأدب الجيّد لا تخترعه الجوائز بل هو من يخترعها، فالأخيرة ليست سوى تكريمٍ لعمل الكاتب ومنجزه، وهو الذي قال يومًا "الجوائز ليست سيّئة، السيئ عبادتها".



وبرحيله مساء الجمعة في 23 تمّوز/ يوليو 2021، اختار صاحب "شريد المنازل" الهرب من "السمّ في الهواء"، رحل تاركًا خلفه الحياة اللبنانيّة بأسوأ حالاتها، الحياة اللبنانيّة التي بدأت تعيش وقائع انهيار البلاد على كافّة الأصعدة والمستويات. وبالتالي فقدت "الحياة اللبنانيّة" راويها، هذه الحياة التي يمكن القول إن هدفها لم يعد كيف تعيش، بل كيف تنجو.