الفن العربي المعاصر.. هل يعكس أسئلة الواقع؟

ضفة ثالثة ـ خاص 29 يوليه 2021
هنا/الآن
(عبد الرازق عكاشة)
بات واقع الفنّ المعاصر يطرح تحدّيات كبرى اليوم، خصوصًا بعد أن خضع لتحوّلات وتغييرات، وكثرت النظريات في هذا المجال واختلفت المقاييس، ما جعل بعض النقّاد يبحثون عن نقاط الضعف والاختلال لمواجهة هذه التحديات التي باتت تهدّد هذا الفنّ الذي كان له دور كبير في مراحل زمنية معيّنة.

يحاول الفنّانون اليوم خلق هويّة خاصّة وبصمة إبداعيّة انطلق بعضها بالاعتماد على ما هو جاهز، والبعض الآخر بالتحّرر منه عبر خلق تصوّراته الخاصة. هذه التغييرات والتحوّلات التي طرأت على الفنّ، ارتبطت بمجملها بالحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية العربيّة، وذلك تبعًا لذائقة الجمهور والمتلقّين.

والأسئلة التي نطرحها اليوم: كيف تستطيع الفنون المعاصرة الآن إحداث تلك القطيعة مع تصوّراتنا الجاهزة حول الحياة والواقع العربيّ المتحوّل؟ هل نجح هؤلاء الفنانون في منح مساحات للتفكير الساعي نحو التحرّر؟ أم أنّهم لم يتجاوزوا تلك التنويعات التي شهدها تاريخ الفنون على امتداد الحقب؟

هنا إجابات عدد من أصحاب الاختصاص:

 

(ليندا نصّـار)

 

عبد العالي معزوز 



عبد العالي معزوز (أستاذ الجماليات والفنون المعاصرة في جامعة الحسن الثاني، المغرب): الذائقة الفنية العربية لم تعرف ثورات هائلة

يحمل اصطلاح "معاصر" دلالات متعددة وأحيانًا متعارضة، وأهمّها التحديد الزمنيّ الذي يُحيل إلى ما هو آنيّ وحاضر. ولعلَّ هذه الدلالة الزمنيّة هي ما يُضفي على الفنون المُتَّصِفَةِ بهذه الصفة انفصالها عمَّا سبقها وتقدَّم عليها زمنيًّا أيْ "الحديث" و"القديم".

ملامح الفنون المعاصرة:

- إن السّمة الغالبة في الفنون المعاصرة هي محو نسبيّ للحدود بين الأشكال الفنية من أشكالٍ سمعية - بصرية واستعراضيّة وأدائيّة، وفنون الفيديو والسينما وغيرها. فتجد في المعارض الفنيّة المعاصرة مزيجًا خلاسيًّا من الأداء المسرحيّ والمنشأة الفنيّة وأشرطة الفيديو.

- هناك صبغة أخرى تتمثَّلُ في مزج اللعب بالجِدِّ، وفي إضفاء سخرية سوداء على جدية الخطاب الأخلاقيّ، وإضفاء مزيج من المرح على مفهوم الحقيقة.

- استدعاء الجمهور للتفاعل مع الموضوعات الفنّيّة، وتحويل هذا الجمهور من متفرّجٍ سلبيٍّ إلى متلقٍّ إيجابيّ وفعَّال، إلى حدّ عدم اكتمال العمل الفنّيّ من دون إتمامه من طرف المتلقِّي. إذا تعلَّق بمقطع موسيقي يُنْتَظرُ من المستمع إتمامه والتفاعل معه، وإذا تعلَّق الأمر بأشكال فنّيّة يُنتظَرُ من جمهور المتلقِّي تقديم منجزات من عنده.

- اكتفاء الفنّ المعاصر بالحدِّ الأدنى وبالنزر اليسير، الاكتفاء من الأشكال بأسسها التشكيليّة، ومن الرموز بأقوى ما فيها من دلالةٍ، ومن الموضوعات بما توحي به من مفاهيم أو أفكار، فَمِبْوَلَةُ "مارسيل ديشان" موضوع جاهز يكتفي الفنّان فقط بِنَزْعِهِ من سياقه اليومي والعادي وإدراجه في سياق فنّيّ وجماليّ جديد، والانتقال به من فكرة التطهير والنظافة إلى فكرة العمل الفنّيّ، ونفس الشيء يُقال بالنسبة إلى موضوعات تُخْتَزَلُ في فكرتها الأدنى ومفهوم الأعم.

أما إذا تساءلنا عن موقع الفن المعاصر ووظائفه الجماليّة والنقديّة والاجتماعيّة في العالَم العربي، فيمكنني أنْ أزعم أنّنا لا زلنا بحاجة إلى الفنّ الحديث والكلاسيكيّ، لأن الذائقة الفنية العربية لم تعرف ثورات هائلة مثلما حدثَ في العالم الغربي. هذا لا يعني انتظار الشروط التاريخية والاجتماعية في سبيل إنَضَاج الرؤية الجماليّة والفنّيّة، والبقاء في قاعة انتظار ريثما تتطوَّر شروط التلقي، بل نظرًا لأنّ التاريخ لا ينتظر المتأخرين، فإن تحولات الفن بدأت تطرق أبوابنا.

مهما يكن من أمر، وفي سبيل الانخراط العالميّ في الحداثة وما بعد الحداثة الفنيّة والجماليّة، علينا تطوير منظوماتنا التعليميّة من أجل استيعاب وتمثُّل قيم الإبداع. إن الثورات الفنية والجماليّة لم تنشأ من فراغ، وإنّما كانت صدى للتحوّلات الاجتماعية والسياسية والقيميّة التي حدثت في تلك المجتمعات.

إن الحداثة التقنيّة والاقتصادية تبقى عرجاء إذا لمْ تُعْطَفَ وتُعزَّزَ بقيم الحداثة الفنية والجمالية. لا يكفي استضافةُ أمثال ونسخ للمتاحف الغربية في بلداننا العربية إذا لم تُرْفَقَ باستيعاب وتمثُّل البرامج الفنية، وإذا لمْ تُصْحَبَ بتعليم وتثقيف الناشئة على قيم الذوق والجمال، وعلى قيم التسامح وحرية التعبير. إن من شأن تطوير الذائقة الفنية العربية تطوير القيم، ومن شأن تطوير القيم صناعة مُوَاطِنٍ فَعَّالٍ وخَلاَّقٍ في بيئته ومجتمعه.

يُوسِّعُ الفن المعاصر المدارك والآفاق المعرفية والنظرية والقيمية لدى الانسان العربي المعاصر، ويضعه في مستوى التحدّيات العالميّة. ومن أجل تحقيق هذه الغاية لا بدّ من تعلَّم تاريخ الفن، ومحطَّاته الأساسيّة في البرامج الدراسية، ومعرفة الثورات الفنيّة التي تخلَّلتْه، وفهم التيارات الفنية التي أفرزها تاريخ الفن.   

فخرية اليحيائية 



فخرية اليحيائية (أستاذة الفنون في جامعة السلطان قابوس، سلطنة عمان):
على الفنان المعاصر إثارة المتلقّي

إنّ الفنون المعاصرة في حدّ ذاتها لم تكن سببًا في نشأة القطيعة وإنّما تلك القطيعة التي نتجت بين الفنون وأفراد المجتمع، كان مصدرها دخول أفكار جديدة على المجتمع أكثر من مجرد دخول وسيط أو تقنيّة جديدة. الكثير من الأفراد إلى يومنا هذا لم يتقبّلوا التجريديّة والتأثيريّة.... وغيرها من الاتجاهات الفنية الحديثة. وبالتالي الأسباب هي نفسها تنطبق على ما أطلق عليها الفنون المعاصرة. هذا الأمر فعليًّا لا يختلف عن أيّ جدال يقع بين البشر في حياتهم اليوميّة، وبخاصة عندما تختلف الثقافات أو الوسط الذي ينتمي إليه الفرد؛ إذ أنّ أحد أهم أسباب القطيعة التي تحدث بين البشر أو الثقافات هو بسبب سوء الفهم بين الأطراف المختلفة. والحال ينطبق تمامًا فيما حدث للفنون المعاصرة. فمنذ ظهور هذه الفنون وقعت تحت وطأة النقد من النقّاد والمتلقّين على حدّ سواء؛ إذ لم يكن هناك مقياس واضح يتبعه النقّاد وبالتالي لم يجد المشاهد ما يدعم فهمه من عدمه لتلك الأعمال المعروضة عليه. وفي حقيقة الأمر يجب أن لا يقع اللّوم على أحد؛ فجميع الأفكار الجديدة في بداية ظهورها تجد النقد وعدم القبول. وكون أنّ الفنون المعاصرة لم تعد أشكالًا مألوفة أو محاكاة تامّة لما هو موجود في الطبيعة بل صنّفت الفنون المعاصرة بأنّها شاكست اللوحات والمنحوتات الكلاسيكيّة، بل إنّ قيمة العمل كانت في الفكرة التي يقدمها لا في الشكل المعروض على المتلقّي، وهو ما ولّد الكثير من النقد بسبب عدم فهمه من قبل المتلقي. كما اختلفت المعايير التذوقيّة للحكم على العمل الفنيّ من قبل النقّاد.

ويتعقد الأمر أكثر وأكثر عند محاولة فهم الفنون المعاصرة، وهو أحد أهم أسباب توّلد القطعية بين الفنّان والمتلقّي؛ إذ أن وقع العمل من الوهلة الأولى على المشاهد من حيث جماليته – وهو موضوع نسبيّ- كان المعيار لإعطاء العمل الفنيّ قيمة عند المتلقّي سواء أكان ذا وعي بالفكرة من عدمها، وهي الفكرة نفسها التي قدّمها المؤرّخ الألمانيّ المعاصر (ياوس)؛ إذ اعتبر أن هناك مسافة أو ما يسمّيها النّقاد المسافة الجماليّة، وهي التي تقع بين أفق التوقّعات (توقّعات المشاهد) وبين الأفق المغاير (أفق الفنّان)؛ إذ تلعب المسافة الجمالية والخبرة الفنيّة، الدور الكبير في فهم الفنون بشكل عام. وهي مكونات مرتبطة بفهم العمل الفني فالمسافة الجمالية هي مكوّن مرتبط بخبرة المتلقّي من العمل أو ارتباطه بحيّز اهتمامه.  ويعرفها النقّاد بأنها المسافة التي تقع بين العمل الفنّي، وبين المشاهد، لذلك فإن الأعمال الفنيّة تبتعد أو تقترب بحسب اهتمام وخبرة ذلك المشاهد. كما تلعب مدى الحساسيّة الجماليّة لدى متلقّي الفنّ دورًا كبيرًا في عمليّة التلقّي واستقبال الأعمال الفنية. وبالتالي تلعب الخبرة الفنية الدور الأكبر في تقليص تلك المسافة وقد تتجاوزها إلى أبعد من تلك الأعمال لتصل إلى استنتاجات ومعان ومضامين بعيدة عن محتوى العمل الفنيّ. تلك المعاني قد تغيب عن ذهن الفنان نفسه مبدع العمل لتجاوز الرمز الظاهر في تلك الأعمال الفنيّة للتوحّد بدورها مع الذات البشرية لتشكّل الخبرة المباشرة بين العمل الفنيّ وبين الذات الأخرى.

مع دوامة الغموض التي صاحبت أهمية الفكرة في الفنون المعاصرة، ظهرت أعمال تنافت عنها أبسط المقوّمات التي تجعل منها عملًا فنيًّا؛ تجرّأ أصحابها على طرح أفكار سطحية أوصلت العمل إلى مستوى من العبثية حتى وإن انعدمت القيم الجمالية المرتبطة بجمالية طرح الفكرة وأكّدت على القطيعة بين الفنان والمتلقّي لتلك الفنون.

وفي الوقت نفسه، ظهرت بعض الممارسات العربية المعاصرة التي حرّرت الكثير من القيود والأفكار، وكانت نماذج مشرّفة في طرح أفكار متفرّدة تخرج من حيّز الانفعالات المألوفة في الحياة اليومية.

وفي الحالتين يبقى الرهان قائمًا في الوصول بالأفكار الجديدة والمتميّزة إلى ذهن الناقد الذي يستطيع أن يفكّ بعض الشفرات للمتلقّي. وفي الوقت ذاته، يجب أن ينجح الفنان المعاصر أيًّا كان نوع الممارسة المعاصرة، في إثارة المتلقّي وخلق استجابة أوليّة على الأقلّ تجذبه لمحاولة ولوج الفكرة وراء العمل الفنيّ، حتى وإن كانت استجابة سلبية.

 

خليل قويعة



خليل قويعة (أستاذ الجماليّات ونظريّات الفنّ وسيميولوجيا الصورة في المعهد العالي للفنون في جامعة صفاقس، تونس): التّعاطي الشكلي والمنقوص مع ثقافة الفنّ المعاصر

نشأ الفنّ المعاصر بعد الحرب العالميّة الثانية في أوروبا وأميركا وهو ردّ فعل على منظومة القيم الجماليّة التي سادت الفن الحديث ومدارسه وحركاته. كما كان الفنّ المعاصر بمثابة موقف ساخر ومتمرّد جرّاء المآلات التي وصلتها الإنسانيّة في المجالات السّياسيّة والثقافيّة والتّحوّلات الحضاريّة الإشكاليّة التي أناخت بها أواسط القرن العشرين بصفة خاصّة وإن كان لطلائعيّي بداية القرن دور في مساءلتها إبداعيّا. فكانت العودة إلى مجمل الأفكار المؤسّسة لما بعد الحداثة وخاصّة ما بدا في فلسفة نيتشه العدميّة. إذ لم يعد الفنّ إنتاجًا للجميل، كما كان في الفنّ الحديث مع الإنطباعيّة مثلًا، أواخر التّاسع عشر. ولم تعد الجماليّة هي المقاربة الأساسيّة والمثلى التي تحكم تعاطينا مع المنجز الفنّي. بل تضاعفت اللّهفة وراء الهجين والقبيح واللاّمتوازن وغير ذلك من القيم المضادّة التي تمكّن الفنّ من أن يكون مثيرًا للتّفكير وملفتًا للانتباه، وناقدًا صريحًا للمزالق التّاريخيّة التي ورّطت الإنسان في الاغتراب المتجذّر عن قيم الحياة والسّلم والحريّة، من أجل أن يكون الفنّ مراجعة للحاضر ومؤسّسًا للمستقبل، في إطار إنسانيّة الإنسان وحيويّة الحياة وطبيعيّة الطبيعة ومدينيّة المدينة.

كما لم يعد الفعل الفنّي حكرًا على المبدع الأصليّ، بل عمل على خلق فاعلين آخرين، حيث عمل على إشراك الجمهور في إنجاز الأثر وألغى صفة الخلود والدّيمومة من العمل الفنّي ليكون حدثًا حيًّا وعابرًا، يندرج ضمن إيقاع الحياة، على عكس مفاهيم "الرّائعة الفنيّة" التي ترقد في أروقة المتاحف... حيث تغيّرت أشكال الفعل الفنّي وتقنياته ولم تقتصر على الأقانيم الكلاسيكيّة مثل اللوحة والمنحوتة وظهرت أشكال مستحدثة مثل التّنصيبة والأداء الحي الذي تتداخل فيه فنون شتى تمنح للبعد الزّمني حضورًا مهمًّا وتستفيد من التّكنولوجيات الجديدة صوتًا وصورة، كما تغيّرت أشكال العرض، من الفضاء المغلق إلى الفضاء المفتوح على إيقاع الحياة.

وبالتّوازي، شملت هذه التّحوّلات طبائع الخامات المستخدمة، فأصبحت الخامات العاديّة والاستعماليّة، التي تحيط بنا في بيئتنا اليوميّة، مواد للإنشاء الفنّي، من دون الحاجة إلى مواد نبيلة، حيث وقع التخلّي عن التّمييزات المألوفة ما بين الخسيس والنّفيس. ويطرح الفنّ المعاصر نفسه على أنّه عالمي، والحال أنّنا في العالم العربي ما نزال متمسّكين بأشكال الفنّ الحديث، إذ أنّ الكثير من الارتكاسات التّاريخيّة التي أنتجت الفنّ المعاصر بالغرب لم تلزمنا ولم نكن معنيّين بما أفرزته من تحوّلات قيميّة. والأحرى بالفنّانين العرب أن يباحثوا مبرّرات معاصرتهم عوضًا من أن ينساقوا بالكليّة إلى اعتماد أساليب إبداعيّة ذات مرجعيّات ثقافيّة ومبرّرات تاريخيّة لا تمتّ بصلة جدليّة إلى شواغل الثقافة العربيّة ومعتركها التّاريخي.

وكثيرًا ما تمحورت مقارباتنا للرّاهن الفنّي بربوعنا العربيّة حول شخصيّة المبدع وتجربته الإبداعيّة، فلا نولي اهتمامًا بطرائق التّلقي ومدى مستطاع الجمهور العارف في المشاركة ومواصلة إنشائيّة الفعل الفنّي من خلال التّراكم المعرفيّ في الفضاء الثقافي الذي ينتج المواقف والنّصوص والتأويلات... وكثيرًا ما لا نهتمّ سوى بالمبدعين ونتنكّر لمنظومات القيم الفنيّة وطرائق التلقّي ومعايير الحكم المتحوّلة وما يمكن أن يؤسّس لمستقبل الأثر بعد عمليّة العرض. ولئن كان لنا أن نتدبّر شرعيّة تاريخيّة أو كوسموبوليتيّة للانخراط في فكر المعاصرة، فبعدُ، إنّ مثل هذه المزالق تحول دون مواكبة ثقافة الفنّ المعاصر والإسهام فيها. بل وفي كثير من الأحيان يكون تعاطينا مع المعاصرة الفنيّة مبتورًا أو مختزلًا أو منقوصًا أو شكليًّا.

وكان يمكن توسعة النّظر للتطرق إلى أشكال العرض وإشكاليات التّرويج، حيث تكون الفرصة سانحة للتفكير الاستراتيجي ذي المقاربة السّوسيولوجية التي تتعلّق بتصوّرات مستقبليّة مرتبطة بالمعرفة، ليس المعرفة النقديّة فحسب. هكذا، كان النظر إلى طبائع الممارسة والمنجز من دون التّطرّق إلى ما يكتنف واقعنا الفني من أزمات وبخاصة أزمة التلقي ومنظومة القيم الجمالية والذوقية السائدة وطرائق النظر التي فصلت عالم الفن عن عالم الناس وحالت دون وجود سوق عربية للفن. إذ فضلًا عن مساءلة الممارسات الفنيّة المعاصرة، يقتضي الأمر تفكيرًا جادّا في تحوّلات معايير الحكم وأزمة القيم الفنية، اليوم، وكذلك في فضاءات العرض واشكاليات التلقي. هل أن طرائق الحكم والتقييم السائدة كفيلة بالتعامل مع المنجز الإبداعي؟ فإلى أيّ مدى بحثنا تطوّر الممارسة إلى تطوير كيفيّات النظر فيها وإليها؟

فعلًا، هناك احتياجات أساسية للتشكيل العربي وهو ما بعد الإنتاج الإبداعي وتحديدًا ما يتصل بكيفيّات العرض وطرائق التّلقي وما نسميه بالصّيرورة النّصية (The becoming text) أي مجمل النصوص التي تحاك حول الأعمال الفنية لتجعلها تستمر وتتنفس داخل الضمير الثقافي والتاريخي الحي... ومنه النقد، الذي يعد شرطًا أساسيا لتحويلية القيم الجمالية وكذلك المصرفية في السوق. إذ حسب نظرة سوق الفن "ريموند مولان" فإن النّقاد وحدهم هم الكفيلون بضمان القيمة الجمالية للأثر الفنّي وما يترتب على ذلك من قيم، تفاديًا للفوضى. وما يزال التفكير النّقدي مهمّشًا في الواقع الثقافي العربي أو على الأقل لم يخرج من الأسوار الجامعيّة والمقاربات الأكاديميّة خروجًا مؤثّرًا في السّياسات الثقافيّة والفضاء الإعلامي...

 وما زالت مفاهيم الإبداع السّائدة لدى النّاس وفي برامج وزارات الثقافة والمؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة وكذلك في المقاربات التربويّة تعتمد على مرجعيّات قديمة وإن كانت سليلة فكر الحداثة، وهي مفاهيم تجعل من المنجز الفنّي شيئا "جميلا" ولكن على هامش التاريخ والسّيرورة الاجتماعيّة. وفي الواقع، ليس الفنّ زينة في جدران الشقق والمتاحف، بل هو دفاع من أجل الحياة، كما يقول روّاد الفنّ الحديث، وهو فكر نابض يستحث مسار التفكير، من أجل أن يستمر في الضّمير الثقافي ويسهم في نبضه الخلاّق. 

 ولا ريب، لدينا في العالم العربي مبدعون هنا وهناك... ولكن ليس لدينا نصوص في حجم الإبداع وذلك متصل بأزمة نظر ونظرية تجاه المنجز الابداعي. وهو ما يعطل وجود سوق للفن على أساس الخبرة والمعرفة. إنها أزمة تلقي وأزمة مفاهيم. فقد تطورت الممارسات الفنية بربوعنا، ولكن مفاهيم الفن بقيت هي هي في أشكالها البالية التي لا تواكب نبض الفعل الإبداعي. وهو ما يلقي بتداعياته على مستوى نشاط المؤسسات المعنية.

نواجه اليوم رهان كيف نكتب تاريخ فنوننا بأنفسنا؟ ويرتهن ذلك بكيف ننظر وكيف نقرأ وكيف نفهم؟... إذ لا بد من رصد فجوات منظومة المفاهيم الشغالة عندنا وفهم بنية الذائقة نفسها. وشخصيًّا، أراها بنية مغتربة وغير تاريخانيّة، بمعنى ليست متناسلة عن علاقة جدلية ورَحميّة بين ما ننجز إبداعيًّا وما نعيش تاريخيًّا.

 

أسامة أبو طالب 



أسامة أبو طالب (أستاذ الدراما والنقد في أكاديميّة الفنون، مصر): لا نلمح حركة شاملة تضمّ الأقطار العربيّة

أطرح السّؤال هنا: هل أثّرت التّحوّرات والتّطوّرات التي حدثت للفنون على الفنّان العربيّ في واقعه العربيّ؟

بالتّأكيد أصبح العالم أكثر انفتاحًا وأكثر وعيًا ويعود ذلك إلى التّقدّم في التكنولوجيات المعاصرة. لقد تمكّن الفنّان العربيّ من رؤية العالم بشكل أفقي وعموديّ بإنجازاته أي رأيناه يطلّ على المساحة الواسعة فدخل بشكل أعمق وممكن. ولكن هل أحدث هذا الأمر تطوّرًا في الإبداع العربيّ؟

ظهر الوعي بالمدارس النقديّة الجديدة في النقد مثلًا، لكنّه ظلّ وعيًا مبالغًا فيه وجاء على شكل معرفة منبهرة استطاعت أن تحدث تحوّلًا حادًّا عن درب التراث. نلاحظ أنّه صار هناك عازل كبير بين الأجيال القديمة والأجيال الحديثة، لأنّنا نسينا أنّ لكلّ شعب أدبه الخاصّ، وبتنا نعيش في طور القطريّات وأهملنا القوميّ الذي يدعو إلى التّعلّق بالتراث وقضايا التحديث الواعية التي تعرف ما الذي تأخذه وما الذي تتركه، أتحدّث هنا عن ذوي المواقف الوسطيّة أو المعتدلة.

تعدّ مشاريع القطريات هذه، نوعًا من التّفتيت داخل الأقطار العربية الواحدة، وهي التي بدورها فكّكت العربيّ وأعادته إلى الوراء، ما أدّى إلى انعكاس ذلك على الإبداع، من هنا تراجع المشروع القوميّ في الوقت الذي توحّدت فيه أوروبا على الرغم من كلّ ما أصابها من جراحات وثورة تحت حلم لشاعر اسمه "إليوت" كان يحلم بعقل أوروبا.

في الفنّ التشكيليّ حدثت طفرة للفنّانين، وهذا الأمر مؤكّد إذ أنّ الاطّلاع على الفنون الأخرى والمذاهب الجديدة تحدث تقدّمًا دائمًا في الخلق الفنّيّ والإبداع، ولكنّ كلّ هذه الأعمال لم تعكس همًّا عربيًّا موحّدًا وظلّت مشاريع فرديّة بعيدة كلّ البعد عن القوميّة. فقد حقّقوا الكثير على سبيل المثال في العرض المسرحيّ والسينما، لكنهم تعلّموا كثيرًا في الفنّ التّشكيليّ من الغرب.

إننا لم نلمح حركة شاملة تضمّ الأقطار العربيّة وتجمعها، بل ظلّت على مستوى الإنجاز الفرديّ. فحركة المذهب الكلاسيكيّ والرمزيّ وغيرهما مثلًا، انتقلت إلينا من أوروبا ولم تكن لها دائرة عربيّة موحّدة، وهذا الأمر جاء نتيجة التشرذم السياسيّ وغياب المشروع القوميّ.

هناك نهضة فنانين تشكيليين عرب لهم إنجازات كبيرة في كلّ قطر عربيّ، لكنّ أعمالهم المميّزة ظلّت تتمحور أيضًا حول شخص صاحبها من دون أن تتوحّد، فأصبحنا انعكاسات لما يحدث في أوروبا مع وجود فنّانين متخصّصين بتأصيل التراث في الفنون التشكيليّة محاولين الابتكار مستلهمين تراثهم العربيّ.