المثقفون والحراك الجزائري.. هل ساهموا بفشله أو نجح بدونهم؟

بوعلام رمضاني 2 مارس 2022

 

كما كان منتظرًا، حلت الذكرى السنوية الثالثة للحراك الجزائري مؤخرًا، ولم تعقد ندوة واحدة ولو في شكل تكريم ظاهري لهذا الحدث المهم. والتزامًا منا برصد ما يهم القراء في الوقت المناسب، نكرس في هذا التحقيق الاهتمام الذي أوليناه منذ البداية لمباراة سياسية أضحى فيها المثقف النخبوي في حالة تسلل أكدت غيابه التراجيدي كلاعب لا يمكن التعويل عليه للانتصار على فرق ظلم تداولت الحكم الفردي والأحادي الخطاب باسم شرعية ثورية أكلت أبناءها. وخلافًا لشعب أبدع وحوّل الشوارع إلى منصة سلمية وحضارية في عز البرد والحر، لم يحضر المثقف إلا في حالات نادرة بالقوة المعنوية المنتظرة منه في منعرج تاريخي أول من نوعه منذ استقلال الجزائر. والشعب الجزائري الذي يعدّ غير صالح للديمقراطية، شأنه شأن العرب والمسلمين، كما يقول علماء الأنثروبولوجيا الاستعمارية الاستشراقية، أبهر العالم، وأجبر مثقفيه القلائل على ركوب احتجاج شعبي وسلمي عارم عمق فشلهم المقصود أو غير المقصود كما صغناه في سؤال رد عليه بعض الذين نجحنا في إقناعهم بالرد: هل فشل الحراك أو أفشل أم لم يفشل وكيف، وما هامش دور ومسؤولية المثقفين في ذلك؟ إنه السؤال الذي توجهنا به للعشرات منهم هاتفيًا وكتابيًا خلال عدة شهور قبل عودتنا إلى باريس لنشره في يوم الذكرى الثالثة لانطلاقته. لم تكن ردود الذين لبوا دعوتنا مشكورين مفاجئة لنا، وكلهم أكدوا على الغياب التراجيدي للمثقفين منذ جزائر بعد الاستقلال حتى ساعة اندلاع الحراك الشعبي إلا في حالات نادرة. يعد الفشل الذي راح ضحيته الحراك، في نظر معظم الذين حاورناهم، فصلًا جديدًا في مسلسل غيابهم التاريخي لأسباب سياسية وسوسيولوجية وسيكولوجية وتاريخية موضوعية وذاتية متنوعة. آخرون رأوا أن الحراك لم يفشل، ولم يكن في حاجة إلى مثقفين معظمهم احترفوا الجبن والاستقالة والانتهازية والرقابة الذاتية لينفجر في وجه سلطة غير عادلة، ويمكن أن يعود ما دامت أسبابه ما زالت آنية أكثر من أي وقت مضى، على حد تعبير أحد الإعلاميين الذين حاورناهم إلى جانب عدد من الأساتذة والكتاب.

هنا الحلقة الأولى من استطلاع تحقق بعد جهد جهيد.



 العياشي عنصر  



توطئة ضرورية منهجيًا

منهجيًا كان رد أستاذ علم الاجتماع، العياشي عنصر، انطلاقة أكاديمية عامة فرضتها مقاربة زاوج صاحبها بين تقديم نظري وموقف عملي واضح من شأنهما مساعدة القارئ على فهم أعمق يقطع الصلة مع ردود تتسم بروح الجزم والتجزئة الفاقدتين للرؤية الفكرية الشاملة والمنافية للروح الصحافية التي تبقى ضرورية من منطلق طبيعتها الخاصة.

بعد تعريفه محاور مفهوم المثقفين (الإنتلجنسيا)، وتحديده طبيعة حضورهم في الجزائر منذ الاستقلال، مرورًا بتوضيح دورهم في الحراك ووصولًا إلى هامش مسؤوليتهم في فشل أو إفشال الحراك، أكد الأستاذ عنصر أن المثقفين المشتغلين بالفكر والأدب والفنون يبلورون ويشكلون الحقل الثقافي والسياسي، ويصيغون السياسات الاجتماعية وفي توجيهها، وربما يشاركون في تنفيذها في مواقعهم المختلفة. انطلاقا من هذا التعريف لا ينسحب التعريف المذكور على المثقفين في الجزائر لأسباب موضوعية تاريخية، تمثلت في السيطرة الأجنبية خلال فترات متعاقبة سمحت ببروز فقهاء وممثلين لمذاهب دينية إسلامية ومشايخ الزوايا الطرقية التي لعبت دورًا مهما في بلاد المغرب، على حد تعبيره. وخلال فترة الاستعمار الفرنسي، تشكلت نواة تكونت من المثقفين الذين تخرجوا من المدارس الفرنسية ضمن خطة رسمتها حكومة الاحتلال تدخل في صلب المشروع الكولونيالي، وكنتيجة لفشل سياسة الاندماج ـ استمر يقول الأستاذ العياشي ـ التحق جزء من الطبقة المتوسطة بالنضال منخرطين في صفوف الحركة الوطنية بمختلف توجهاتها، الأمر الذي مكنهم من لعب دور في توجيه النضال الوطني والانعتاق من الاستعمار رغم اختلاف برامجهم وتوجهاتهم، وفي تشكيل الدولة الوطنية. هذه الفئة المثقفة التي كانت تمثل الأقلية، تعرضت لمضايقات مستمرة من قبل السياسيين والعسكريين أيام الثورة، ورغم ذلك تركوا بصماتهم في مجريات الأحداث لاحقًا بعد الاستقلال سواء بالمشاركة الإعلامية والديبلوماسية والسياسية في الحكومة المؤقتة، ومن أبرزهم ذكر الأستاذ العياشي "الكاتب المعروف مصطفى الأشرف، والمؤرخ الشهير محمد حربي الذي يموت ببطء في باريس منذ هروبه من الجزائر بعد رفضه انقلاب الرئيس بومدين، ومحمد يزيد، وآخرين" (لم يذكر محمد الأمين دباغين، الذي أفرد له المؤرخ رشيد خطاب مؤخرًا كتابًا بديعا تحت عنوان "محمد الأمين دباغين... مثقف عند العامة").

عسكرة ضد مثقفين

تحييد المثقفين في بلدان سيطر عليها العسكر في معظم البلدان العربية، حقيقة تنسحب على الجزائر التي تميز فيها دور المثقفين بعد الاستقلال بالمحدودية والاضطراب وعدم الانتظام بسبب غياب الحريات في حقل سياسي غير متبلور على حد تعبيره، وإقصاء نخب المجتمع، وعلى رأسها نخبة المثقفين. ولأن هذه الفئة لا تشكل كتلة متجانسة في تكوينها، راح الأستاذ العياشي يتحدث عن ثلاث فصائل تمثلت في المثقفين العضويين الذين يتماهون مع السلطة خدمة لمصالحهم، وفي المثقفين الأحرار والنقديين الذين يجتهدون في إبقاء مسافة بينهم وبين السلطة تكريسا لحقهم في نقدها، وأخيرًا المثقفين الانتهازيين الذين يميلون حيث تميل الرياح ويتخذون المواقف بحسب المناسبات والأوضاع. وأردف يقول "إن نخبة المثقفين فشلت في احتضان الحراك بتزويده قيادة لازمة بسبب الاختلاف الأيديولوجي، وهي تتحمل جزءًا معتبرًا من المسؤولية عن فشله". الحديث عن الإفشال وارد ـ أضاف يقول ـ "بانحياز قطاع كبير منهم إلى السلطة لترميم سلطة متداعية وتوفير غطاء الشرعية، ناهيك عن التشظي اللغوي والديني والأيديولوجي عند نخبة يعول عليها في بناء مجتمع معاصر يقوم على التعدد والتسامح والعيش المشترك، فضلًا عن ضعف المجتمع المدني بمكوناته المهنية والسياسية والثقافية في مقابل قوة سلطة قادرة على شراء الذمم وإنشاء كيانات جديدة ضمن علاقات زبونية"!

السعيد لوصيف



النخبة الراسبة وتحدّي الأسئلة المعلقة

السعيد لوصيف، أستاذ التعليم العالي والمتخصص في علم النفس الاجتماعي للمنظمات والباحث السابق في المعهد الوطني للدراسات السياسية الاستراتيجية، راح يؤكد كلام الأستاذ العياشي على طريقته بقوله: "إن الحراك لم ينجح، وأقصد هنا النخب التي تصدرت الواجهة، والأسباب متعددة وتتجاوز سياقات الفشل وعوامل الإخفاق، وتضرب بجذورها في تجارب فشل وإفشال سابقة لدى النخب (من النظام والمعارضة السياسية والحزبية)، وهي التجارب التي حرمت المجتمع من مشروع تحول اجتماعي وسياسي يقوم على فكرة التمكين للحرية والمواطنة". واعتبر الأستاذ لوصيف فشل الحراك جزءًا جديدًا من فشل عام تبرره تناقضات نخبوية مستترة ساهمت في معاداة قلب الموازين باتجاه التحولين الاجتماعي والسياسي. وفشل الحراك، في نظره، لأنه عجز عن استخلاص تجارب الفشل والإفشال السابقة (أكتوبر/ تشرين الأول 1988 وما أسماه بجنون العاطفة، قاصدا العشرية السوداء)، وعن استشراف ذكيّ للتوجهات الكبرى التي تعرفها موازين القوى الدولية والاقتصاد العالمي. ونوجز أسباب فشل الحراك والتي أسهب في تحليلها من منظور تخصصه شأنه شأن الاستاذ العياشي، في عوامل داخلية تمثلت في البنية الذهنية والثقافية لعدد من النخب (الجامعيون والسياسيون والحقوقيون)، وانتهاج استراتيجية النزعة الإجماعية المنافية لمبدأ تناقض الديناميكيات التي تقوم أصلًا على الصراع كما بين ذلك تاريخ البشرية.

الأستاذ لوصيف صاحب الرؤية السيكولوجية البديعة دفعت به لاحقًا إلى الجزم بأن النخب بنت لنفسها حقيقة إجماعية تضمن التوازن النفسي المريح المخفف للمعاناة التي ترافق فكرة الصراع وثقل الماضي العنيف. النخب أخطأت حسب الأستاذ لوصيف في القراءة الخاطئة للواقع النفسي الاجتماعي ولتركيبته الثقافية والذهنية، ولحجم وقوة النظام وآلياته، والانغلاق في دوامة الأحداث الداخلية من دون الانتباه والتمكن من إعادة تركيبها في ديناميكية جيو استراتيجية، وضمن لعبة مصالح دولية تتعدى الحراك والأدوات السياسية التي يتوفر عليها.

الأستاذ لوصيف الذي لم أره يومًا ما في كل قنوات وطني التلفزيونية شأنه شأن الأستاذ العياشي، أنهى مقاربته لفشل الحراك بتواضع المفكر غير اليقيني طارحًا أسئلة وجودية صارخة في وجه النخبة الراسبة: "أظن (وقد أكون مخطئًا) أننا سندرك يومًا ما في وقت متأخر أنه في كل دورة 30 سنة (62 ـ92 و92 ـ2021)، وجدنا أنفسنا أمام رهانات وتحديات وتحولات نسقية أفشلناها بالدوغمائيات والانغلاق وهزم الإنسان والتفكير، والنكوص في هوامات الماضي والرداءات. لقد رسبنا ونستمر ـ للأسف ـ في الإصرار على الرسوب، وفقدنا القدرة على تفكيك تبعات هذا الرسوب ونتائجه على مستقبل المجتمع والأجيال. فهل يكون ممكنًا توقع النجاح في غياب المشروع وأدواته؟ هل يكون ممكنًا توقع النجاح في سياق التباس المرئية السياسية للفاعلين أفرادًا وجماعات؟ هل يكون ممكنًا توقع النجاح في استمرار التحالفات المستترة غير الطبيعية وإنكار التناقضات. هل سيكون ممكنًا توقع النجاح بعيدًا عن النقاش الحر الذي يزحزح اليقينيات، ويكسر المحرمات والتابوهات، هل يكون ممكنا توقع النجاح في ظل تقييس خاطئ للنظام وآلياته، وتشخيص للأزمة بجانب ميدان الصراع ورهاناته".

 توفيق بوقاعدة 



نجح الحراك ولو فشلت النخبة

توفيق بوقاعدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر 3، لا يتفق مع الذين ينفون الأدوار التي لعبتها بعض النخب في الحراك الشعبي ممزقة بين إكراهات وضغوطات السلطة وجموع المتظاهرين المنتفضين، ويتفق في الوقت نفسه مع الذين يؤكدون أنها فشلت في استيعاب اللحظة التاريخية وتمكين الحراك من تحقيق أهدافه. بوقاعدة نبّه إلى عدم تبسيط الأمر عند الحديث عن مسؤولية النخبة في فشل أو إفشال الحراك، لأنه يعتقد أن المسألة أوسع من ربط الفشل أو الإفشال بها: "المسألة مركبة بحكم تعقيدات المشهد السياسي والمجتمعي التي كانت وما زالت أكبر من أي دور تلعبه نخب تفتقد لأدوات ممارسة أدوارها. قضية تمثيل الحراك في مواجهة السلطة بهدف الذهاب بالجزائر إلى تحول ديمقراطي، أصبحت مصدر انفجار بين مختلف ممثلي النخبة التي كانت موحدة بعد الإطاحة بالرئيس بوتفليقة الأمر الذي أدى بسرعة إلى مواجهة بين ممثليها بالشعارات وحتى بالاشتباك الجسدي في عدة ولايات. عدم قدرة النخبة على بلورة رؤية مشتركة ورفض التمثيل تجنبا لاختراق متوقع وتصادم الخطاب الشعبوي ومثيله الراديكالي، كلها أسباب أدت إلى انطفاء شعلة الحراك بانسحاب وتشتت ممثليه لسبب أو لآخر".

أردف الأستاذ بوقاعدة يقول في الأخير: "من الإجحاف إنكار نضالات بعض السياسيين والمثقفين منذ الاستقلال وحتى الحراك، دون الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي لبناء دولة لم تعتمد على النخب بل على الحكم الفردي المرتكز على هيمنة العسكر والأجهزة الأمنية، الأمر لم يسمح ببروز نخبة تفكر وتساهم في تسيير مجتمع مدني حر ومؤطر بأحزاب وطنية ديمقراطية". ودولة الحكم الفردي ـ أنهى يقول- أنتجت مثقفين يدورون في فلك الأجنحة المتصارعة حول السلطة وليس في المجتمع، وغير مستقلين عن صراع الفيلة، على حد تعبيره، واستغل النظام الانقسامية التي أضعفت الحراك مستخدمًا كل عناصر التفرقة، وأوهم فصيلا من الحراك بأنه يعمل على تنفيذ خطة لبناء الدولة الجزائرية الجيدة التي وضع أسسها بيان أول نوفمبر. خلص الأستاذ بوقاعدة الى القول ورغم إقراره بفشل وتشرذم النخبة: "إن الاحتفال بالذكرى الثالثة لاندلاعه تؤكد تراجع الأوضاع إلى أسوأ ما كانت عليه من قبل، وأرى أن الحكم على الحركة السلمية الثورية يخالف طبيعتها ذات البعد الاجتماعي أساسًا، والعمليات الاجتماعية تحتاج إلى الوقت حتى تنضج وتؤتي ثمارها. بهذا أقول إن الحراك قد نجح في زرع قيم ستبرز من جديد".

 فيصل شريف 



الكاتب والإعلامي فيصل شريف أكد أن الحراك لم يصنعه المثقفون حتى نتحدث عن دور ما قاموا به، وذهب إلى أبعد من ذلك بقوله: صرخوا ضد مواصلته قائلين: "الحراك انتهى". أغلبية المثقفين لم يسايروا صيرورة المجتمع والوطن منذ أكثر من ثلاثين سنة إلا في حالات استثنائية، وكانوا يغردون خارج السرب بأنغام تطرب السلطة أو تيارات معينة وحتى لخدمة أغراض شخصية وأنانية.

الحراك ـ أضاف يقول ـ راح ضحية مثقفين لم يؤمنوا به أصلًا، وراحوا يشككون في نجاعته مرتكزين على وجهة نظر تغريبية، كما أن الذين كتبوا عنه في الخارج ويكتبون عنه حتى اليوم بعيدون في أغلبيتهم عن واقع بلدهم.

الحراك لم يفشل بل أفشل ـ يقول فيصل شريف- فلا وجود في الجزائر لنخبة مثقفة قادرة على قلب الموازين ما دامت تستصغر شعبها باستثناء أولئك الذين كانوا بعيدين عن الامتيازات والمناصب ودفعوا ثمن تواجدهم بين سندان السلطة ومطرقتها، والتشويش الذي شاب الحراك كأمر طبيعي لا يبرّر تخاذل وتراجع واستقالة معظمهم، ورفض الحراكيين تمثيلهم أكد لاحقا صحة ما أسلفت ذكره. أخيرًا تساءل متوجها لمثقفين أكد الحراك وجودهم الشكلي والظاهري السلبي: "هل يعقل لحراك أبهر العالم أن تكتب عنه قلة أكثر من قليلة؟ حراك كان يستحق أن يفوز بألف كتاب"!

[يتبع]