عن مفاعيل القمع الإسرائيلي المتعمّد ضد منظمات حقوق الإنسان

أنطوان شلحت 18 أبريل 2022
هنا/الآن
احتجاج في برشلونة على "عملية الرصاص المصبوب"(10/1/2009/فرانس برس)
عوديد غولدرايخ




قرر البروفيسور الإسرائيلي، عوديد غولدرايخ، الحائز على "جائزة إسرائيل" في الرياضيات وعلم الحاسوب، تقديم قيمة الجائزة (نحو 25 ألف دولار) إلى منظمات تدعم الحقوق الفلسطينية أبرزها "لنكسر الصمت"، و"بتسيلم". وحصل غولدرايخ على الجائرة بقرار صادر عن المحكمة الإسرائيلية العليا، بعد أن قررت وزيرة التربية والتعليم الإسرائيلية الحالية، والوزير السابق، حرمانه منها لدعوته إلى مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية في المستوطنات، ولمطالبته البرلمان الألماني التراجع عن قراره الذي عدَّ حركة مقاطعة إسرائيل معادية للسامية. وأكد غولدرايخ، في أثناء تلقيه الجائزة، أنه سيواصل العمل بكل جهده لإنهاء الاحتلال في أراضي 1967، ولتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة لجميع مواطني الدولة.
لغولدرايخ اهتمامات أخرى تتعلق بما يجري في الآونة الأخيرة داخل أروقة المؤسسة الأكاديمية من ممارسات تهدف إلى إضعاف قدرتها على معارضة السلطة، وقد تحتاج إلى وقفة لاحقة. غير أن خطوته السالفة جاءت لكي تشي بتضامنه مع المنظمات التي تدعم الحقوق الفلسطينية وتنشط في أراضي 1948 في نطاق أجندة الدفاع عن حقوق الإنسان، وتعاني من ضائقة. وقبل خطوته هذه، اهتم عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية بكتاب صادر حديثًا هو عبارة عن مذكرات شخصية من تأليف يولي نوفيك، المديرة العامة السابقة لمنظمة "لنكسر الصمت"، بعنوان "من أنتِ أصلًا؟" أو "من تظنين نفسك؟"، وسردت فيه بعض أحلامها وهواجسها، ولكن الأهم من ذلك أنها كشفت النقاب عما يمكن وصفه بأنه "صندوقها الأسود" الذي تحمله في داخلها، ويحتوي على مفاعيل القمع المتعمّد الذي قامت به إسرائيل ضد منظمات حقوق الإنسان عبر أساليب خسيسة يصعب حصرها، وليس أبسطها محاولة التدمير الذاتي لمن ينشطون في هذه المنظمات، بموازاة زرع إحساس بالعجز الدائم أمام القوى المتسلّطة.

يولي نوفيك، المديرة العامة السابقة لمنظمة "لنكسر الصمت"




وأعاد كتاب نوفيك إلى الجدل مسألتين مُهمتيّن من شأنهما توضيح الصيرورة التي آلت إليها إسرائيل في الوقت الراهن، ولا سيما تحت تأثير الأعوام التي كانت فيها تحت حكم بنيامين نتنياهو، واستمرت من 2009 وحتى 2021.
المسألة الأولى ترتبط بمنظمة "لنكسر الصمت" تحديدًا. فهذه المنظمة بدأت نشاطها في كشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في أراضي 1967 في عام 2004، وذلك من خلال معرض صور لعددٍ من الجنود الإسرائيليين الذين أدوا خدمتهم العسكرية في مدينة الخليل إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وكان المبادر إلى تنظيم المعرض يهودا شاؤول الذي أدى خدمته العسكرية في الفرقة 51 التابعة للواء "ناحل" في الخليل، بدايةً كجندي، ومن ثم كقائد للفرقة. وقام بجمع صور التقطها بنفسه في أثناء خدمته مع صور التقطها جنود آخرون من الفرقة نفسها، وعرضها على المصور الصحافي ميكي كرتسمان، وقررا إقامة معرض منها في أواسط 2004، في غاليري تابعة لكلية التصوير الجغرافية في تل أبيب تحت عنوان "لنكسر الصمت".

يهودا شاؤول جمع صورًا التقطها بنفسه في أثناء خدمته العسكرية، وعرضها مع صور أخرى بالتعاون مع المصور الصحافي ميكي كرتسمان، في أواسط 2004          


ووفقًا لما يؤكده شاؤول وزملاؤه، فإن الهدف الرئيسي من المعرض في حينه تمثل أكثر شيء في ما وصفه بأنه "استجلاب الخليل الخاصة بهم إلى قلب مدينة تل أبيب"، التي نعتوها بأنها أشبه بالفقاعة التي يعيش فيها أشخاص لا يعرفون أو لا يأبهون بما يجري على بُعد عشرات الكيلومترات منهم في قلب مدن الضفة الغربية وبلداتها وقراها ومخيماتها (يُشار هنا إلى أن توصيف "الفقاعة" يحيل إلى ادعاء مكرور في إسرائيل فحواه أن "معظم الإسرائيليين لا يأبهون بالصراع مع الفلسطينيين" لأسباب شتى منها استمراؤهم واقع العيش ضمن معزل منفصل عن محيطهم القريب). ونظرًا إلى الاهتمام الذي حظي ذلك المعرض به، قرّر القيمون عليه الاستمرار في نشاطهم، فأسسوا من ثمّ منظمة "لنكسر الصمت"، وجرى تسجيلها كجمعية رسمية. ومنذ عام 2004، أصدرت المنظمة كراريس عدة تحتوي على شهادات جنود خدموا في الأراضي المحتلة، وتتضمن ممارسات خرق حقوق الإنسان، منها كُرّاس شهادات من الخليل، وكُرّاس شهادات جنود بشأن أوامر إطلاق النار في الأراضي المحتلة منذ 1967، وكُرّاس شهادات لجنديات إسرائيليات، وكُرّاس حول ممارسات الجنود في أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في شتاء 2009، الذي أسمي إسرائيليًا "عملية الرصاص المصبوب"، وغيرها. وفي واقع الأمر، فإنه حتى هذا العدوان الأخير، نظر أصحاب القرار في إسرائيل إلى "لنكسر الصمت" بصفتها منظمة يمكن تحمّلها، لكن إثر صدور تقرير "لجنة غولدستون" بشأن الممارسات الإسرائيلية في أثناء الحرب على غزة بدأت إسرائيل بشنّ حملة هجومية تقنّعت، من ضمن أشياء أخرى، بذريعة مؤداها أن استنتاجات التقرير المتعلقة بفظائع الحرب الإسرائيلية في غزة تهدف إلى سحب البساط من تحت "شرعية إسرائيل"، وبالتالي فإن تبنّي الرواية الإسرائيلية على علاتها بشأن تلك الحرب ووقائعها، من جهة، والتصدي لهذه الاستنتاجات، من جهة أخرى، يصبّان في صالح "الدفاع عن هذه الشرعية".





وتحت هذا القناع نفسه تفاقمت حملة مكارثية استهدفت منظمات عاملة في إسرائيل تُعنى بحقوق الإنسان، وبالحقوق الديمقراطية عامة. وتركزت حمم هذه الحملة، بصورة رئيسية، أولًا وقبل أي شيء، في منظمة "الصندوق الجديد لإسرائيل"، التي تموّل جزءًا من نشاط هذه المنظمات.
وتمثلت بداية الحملة في قيام صحيفة "معاريف"، من خلال محللها السياسي الأبرز، في أواخر يناير/ كانون الثاني 2010، بنشر مقاطع مطوّلة من "تحقيق" أجرته منظمة إسرائيلية تأسست في ذلك الوقت، وأطلقت على نفسها اسم "إم ترتسو"، وخلص إلى نتيجة فحواها أن أكثر من تسعين في المئة من استنتاجات "تقرير غولدستون"، التي تدين ممارسات إسرائيل في غزة، استندت إلى معلومات منقولة عن ست عشرة جمعية مدنية وأهلية في إسرائيل تتلقى دعمًا ماليًا من الصندوق المذكور، ما "أدى إلى تراكم الافتراءات ضد جنود الجيش الإسرائيلي فيما يتعلق بعملية "الرصاص المصبوب"، وإلى تأجيج المناخ السلبي العالمي ضد دولة إسرائيل". وكان الحديث يدور، أساسًا، حول الجمعيات التالية: عدالة؛ لنكسر الصمت؛ بتسيلم؛ جمعية حقوق المواطن؛ اللجنة ضد التعذيب؛ يش دين؛ الفرع الإسرائيلي لمنظمة أطباء لحقوق الإنسان.
وفي عام 2010، أصدرت المنظمة كتابًا بعنوان "احتلال المناطق، شهادات جنود 2000 ـ 2010" في مناسبة مرور عشرة أعوام على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وضم بين دفتيه (348 صفحة) شهادات أدلى بها مئات الجنود والجنديات من الجيش الإسرائيلي لمندوبي المنظمة. وبحسب "لنكسر الصمت"، تبيّن الشهادات في المحصلة العامة "الروتين الكئيب للاحتلال"، فضلًا عن أنها لا تأتي لتكشف عن الأعمال الوحشية، أو لتصف جلاوزة لا قلوب لهم فحسب، إنما أيضًا لتستعرض حالة عامة: حالة من السيطرة على شعب آخر بكل ما في ذلك من تعسّف؛ حالة إذلال الواقعين تحت الاحتلال؛ حالة انحلال المُحتلين. وعلى حدّ قول المحررين، ليست هنالك أي إمكانية متاحة أمام الجندي الفرد لتحسين الوضع، وذلك لأنه يتحوّل إلى مجرّد برغي في آلة ليست إنسانية بطبيعتها!
أما المسألة الثانية الأعم فهي متعلقة بالهجوم الإسرائيلي منفلت العقال على منظمات حقوق الإنسان، الذي بدأ منذ عام 2009، وتصاعد عامًا في إثر عام. وللتذكير، يمكن الاستشهاد بما ورد في التقرير السنوي لجمعية حقوق المواطن في إسرائيل بشأن "حقوق الإنسان ـ واقع الحال في عام 2017"، الذي صادفت فيه مناسبة مرور نصف قرن على احتلال 1967، حيث جاء في مقدمته: يخيّل للمرء أنّنا في إسرائيل 2017 قد عُدنا في الزّمن إلى الوراء في كلّ ما يتعلّق بحقوق الإنسان. فالقيم التي ظننّا أنّها أصبحت بمرور الأعوام مفهومة ضمنًا، كالحقّ في المساواة، وحرّية التعبير، تبيّن أنّها ما زالت تحتاج إلى حماية. وحتّى الخصائص الأساسية للديمقراطية يتهدّدها الخطر، على غرار سلطة القانون، وفصل السلطات، وصَوْن حقوق الإنسان، وحماية حقوق الأقلّية من دكتاتورية الأغلبية.
ووفقًا للتقرير، فإن المنحى، أو الاتّجاه المقلق، الذي حذّرت منه الجمعية مرارًا وتكرارًا في الأعوام الأخيرة، وتقصد بموجب مصطلحاتها "تآكل الحيّز الديمقراطي في إسرائيل"، هبط في عام 2017 إلى درَكٍ جديدٍ. وتجلّى هذا المنحى في الأبعاد التالية: إسكات الآراء والنقد العموميّ، المسّ بالتعدّدية وبشرعيّة وجود تشكيلة من المواقف والأفكار والآراء المختلفة، نزع الشرعية عن الخصوم السياسيّين، الصحافيّين، الأقلّيات ومنظمات حقوق الإنسان، ووصمهم كـ"خوَنة"، المسّ بحرّية التنظيم والتضييق على أصحاب المواقف والنشاطات غير المقبولة على الأغلبية السياسية. كما أضيف بُعد جديد، إذ تميّز عام 2017 بمساعٍ مقلقة لإنهاك قوى وصلاحيّات ونشاط مؤسّسات تعدّ "حرَس الديمقراطية"، وتشكّل منظومة التوازنات والكوابح الضرورية للديمقراطية، وتضمن سلطة القانون، الإدارة السليمة، حماية حقوق الإنسان وانعدام الفساد. ومن المؤسّسات المستهدفة: المحاكم الإسرائيلية، المستشار القانوني للحكومة، الشرطة وغيرها.
كما رأى التقرير أنه في ذكرى مرور نصف قرن على احتلال 1967، أخذ اقتران الاحتلال بعمليّة الضمّ بالتعمّق، استنادًا إلى منظور يرفض بالمطلق المساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية. ومما ورد في التقرير حرفيًا ما يلي: "من طاولة الحكومة لا يرَون، وبالتالي لا يناقشون هناك الآثار السياسية والأخلاقية الخطرة لمشروع المستوطنات، ولا الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي للفلسطينيين القابعين منذ خمسين عامًا تحت حُكم عسكريّ إسرائيلي. وقيادات الدولة، ليس فقط لا يهمّها وجود جهازين قضائيّين (ومنظومتَي قوانين) في الأراضي المحتلة (منذ 1967)، واحد للفلسطينيين والثاني للإسرائيليين (المستوطنين)، بل هي معنيّة بتعميق وجودهما. هذا التوجّه أدّى في العام الماضي إلى فيض من مشاريع القوانين التي تقترح الضمّ المباشر، أو غير المباشر".




وأشار التقرير إلى أن المسّ بالديمقراطية، وخصوصًا عبر مبادرات وتصريحات الحكومة والائتلاف الحكومي، انعكس في مستويات عدّة، كلٌّ منها منفردًا، وبالأساس كلّها مجتمعة، تندرج ضمن أداء مؤسّساتي منظّم، يقضم أسس الديمقراطية إلى حدّ التهديد بتهاويها. وأكثر ما يثير القلق من وجهة نظر جمعية حقوق المواطن، كما يشدّد التقرير، حقيقة أنّ إحدى الحلبات المركزيّة لدوس الديمقراطية وقيمها والمسّ بقواعد اللعبة الديمقراطية هي البرلمان نفسه (الكنيست الإسرائيلي)، الذي يُفترض أن يكون في رأيها "رمز الديمقراطية الإسرائيلية ومعقل حمايتها". فأقوال وأفعال مسؤولات ومسؤولين كبار في الجهاز السياسي في إسرائيل، وخاصّة أولئك القادمين من الكنيست، لها آثار بعيدة المدى على الجمهور الإسرائيلي ـ تشكيل مواقفه ونظرته إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وجماعات الأقلّية السياسية، أو الاجتماعية، أو الإثنية، وغير ذلك.
وكان الأساس الذي انطلق منه المهاجمون لعمل منظمات حقوق الإنسان داخل إسرائيل أن تفسيرهم الأيديولوجي لهذه الحقوق هو التفسير المشروع الوحيد، وليس ثمة أهمية، أو مكان، لتفسيرات ترتكز إلى القيم العالمية المتداولة. بل إن هذه القيم الأخيرة تُعرض كما لو أنها انحراف عن الصواب، فضلًا عن أن عملية النقد لسياسة الحكومة وممارساتها تقتضي لفظ وإقصاء المُنتقدين، بمعزل تامّ عن فحوى النقد. وفي هذا الخصوص، أوجز أحد المذيعين في إذاعة الجيش الإسرائيلي الأمر برمته في التساؤل التالي: "أفلا يقوم خونة يساريون يعانون من مشكلة هوية بالتجسس علينا لحساب المعسكر الآخر، فلماذا، إذًا، لا يقوم الأقوياء منا بضربهم ضربًا مبرحًا يعيدهم إلى بيوتهم بندوب بائنة؟"، وكان يقصد بالتحديد أعضاء منظمة "لنكسر الصمت" الذين قدموا شهادات حول انتهاكات إسرائيل في غزة أمام "لجنة غولدستون".
وبالتوازي، ثمة توجّه نحو استملاك خطاب حقوق الإنسان من جانب اليمين الإسرائيلي، بغية تحقيق أهداف عدة أبرزها، كما يؤكد الناطقون بلسانه: إنهاء احتكار من يوصف بأنه يسار متطرف لمسألة حقوق الإنسان في إسرائيل؛ منع استغلال موضوعة حقوق الإنسان لخدمة أهداف سياسية مُعادية لإسرائيل؛ تحسين صورة دولة الاحتلال. هذا التوجّه بدأ يأخذ منحًى واضحًا عقب خطة فك الارتباط أحادية الجانب مع قطاع غزة (2005)، والتي تأدّى عنها إخلاء نحو 8000 مستوطن يهودي من القطاع، إذ أخذت منظمات يمينية تلجأ إلى الادعاء القائل إن إخلاء المستوطنين اليهود من بيوتهم بالقوة يُعدُّ مخالفًا لخطاب حقوق الإنسان. وفي الأعوام الأخيرة، استخدم معارضو حل الدولتين خطاب حقوق الإنسان ضد إخلاء مستوطنين يهود من منطقة محددة كي تقام عليها دولة فلسطينية متجانسة سكانيًا. ووجد هذا الادعاء تعبيرًا له حين وصف رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، في عام 2016، إمكان إخلاء مستوطنين يهود من أراضي 1967 بأنه بمثابة "تطهير عرقي"! وفي السياق المرتبط بماهية قيم حقوق الإنسان يتم اختزالها في أنها كل ما هو نافع وجيّد لـ"دولة إسرائيل الصهيونية"، بجانب تأكيد أن الصهيونية ليست مصدرًا لانتهاك حقوق الإنسان، كونها بدايةً "أنجبت الدولة اليهودية، ووفّرت حقوقًا إنسانية جمّة لليهود"، ومن ثم "أوجدت (لاحقًا) منظومة سياسية تمنح حقوقًا إنسانية أكثر من أي دولة أُخرى في منطقة الشرق الأوسط" كلّها!