صلاح حموري: إبادة غزة حرب عالمية غربية ضد فلسطين

بوعلام رمضاني 25 سبتمبر 2024
هنا/الآن
(Getty)

كانت المكارثية الفرنسية تضرب بقوة غير مسبوقة إعلاميًا وثقافيًا حينما ظهر المناضل والسجين الفلسطيني الفرنسي السابق في الأراضي المحتلة صلاح حموري ضيفًا على مسؤولي الفرع الثالث عشر للحزب الشيوعي الفرنسي، وليس على حزب "فرنسا الأبية" المتّهم بمعاداة السامية بسبب رفضه القاطع لإبادة غزة باسم مبرّر الانتقام من "إرهابيي هجمات السابع من أكتوبر".

في مقر متواضع وضيق لم يتسع لجمهور اضطر لأن يفترش الأرض، تحدّث صلاح حموري كنجم وسيم وفارع الطول بشكل يستحيل بثّه في القنوات الفرنسية سواء كانت عمومية أو خاصة. لحسن حظي، علمت بالحدث وأنا أقوم بتغطية ندوة احتضنها مقر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لتقديم كتاب "كيف أضيعت فلسطين ولم تنتصر إسرائيل؟" للأستاذ جان بيار فيليو. يومها تلقّفت ورقة الإعلان من يد الأستاذ عبد الرحيم أفركي، الذي قام بتقديم صلاح للجمهور لاحقًا.

مناضل في سن السابعة

صلاح حموري تبنّى قضية شعبه في سن السابعة، حينما اعتقل عمه الذي أضحى مثله النضالي الأعلى في مواجهة المغتصب الإسرائيلي قبل إصابته برصاصة في سن الخامسة عشرة. تحدّث صلاح عن نضال وعذاب الشعب الفلسطيني، كسجين عاش وعايش بطش جيش استعماري يقال إنه أخلاقي رغم تنكيله بالمعتقلين وهم أحياء مجازًا، قبل الاحتفاظ بجثثهم حتى نهاية مدة الحكم عليهم، على حدّ تعبيره أمام حاضرين عبّروا عن صدمتهم إلى حد الهلع. الندوة التي لم تحضرها قناة تلفزيونية فرنسية واحدة، كانت ثمرة كتاب صلاح حموري "سجين القدس" الصادر حديثًا عن منشورات موقع "أوريان 21" الذي أسّسه الصحافي والكاتب آلان غريش.

"الكتاب ليس شهادة تاريخية غير عادية عن الظلم التاريخي الذي ما زال الشعب الفلسطيني يتعرّض له من خلال مناضل دخل السجن في مسقط رأسه فحسب، إنما أيضًا مسار مقاوم انتمى إلى عائلة مناضلة شهدت على شتى أشكال البطش الاستعماري الإسرائيلي". بهذه الكلمات التي توجز صمود مناضل عربي وفرنسي لا يهمّ الإعلام الفرنسي، راح الأستاذ أفركي يقدّم صلاح حموري.

صلاح الذي اعتقله الجيش الإسرائيلي عدة مرات، استمر في النضال كنقابي في الجامعة، قبل أن يتخرج محاميًا مجسّدًا حُبَّ شعب لأرضه ومتعلّقًا بهويته وحريّته، بشكل يؤكّد مقاومة أسطورية أضحت عصيّةً على عساكر أبدعوا في البطش والتنكيل بـ"إرهابيين متوحشين" على حدّ تعبير مؤيديهم.

بعد تقديمه باقتضاب، أبرز هويّته النضالية التي تسبّبت في طرده من إسرائيل إلى باريس المقيم فيها حتى هذه اللحظة، وأكّد صلاح أن الحديث في البداية عن إبادة غزة كفصل جديد من فصول مأساة وطنه ضرورة منهجية وأخلاقية وتاريخية، لا يمكن القفز عليها باسم أي مبرّر.

حرب عالمية ضد الشعب الفلسطيني

"حرب الإبادة المستمرة على الشعب الفلسطيني ليست حربًا إسرائيلية فحسب، بل هي حرب عالمية تقودها أميركا بمشاركة قوى أوروبية تُزوِّد إسرائيل بأحدث ترسانات الأسلحة الفتاكة"- هكذا بدأ صلاح حديثه، قبل أن يضيف أن "حضور قوات ‘دلتا‘ الأميركية من البداية، و4200 فرنسي، وخبراء من ألمانيا وإيطاليا، ليست أكاذيب، بل هي حقائق تثبت صحة كلامي عن حرب عالمية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل تاريخيًا".
والدعم السياسي الأميركي والأوروبي المطلق لإبادة غزة باسم محاربة إسلاميي حماس ـ أضاف صلاح- جسدّه الرئيس الفرنسي ماكرون قبل تزكيته قرار توقيف الحرب مؤقتًا، بقوله إن حلفًا عالميًا سيشكّل لمحاربة إرهابيي حماس كما تمّ مع داعش. لم يكن عدد الضحايا الفلسطينيين يتجاوز 34 ألفًا، حينما تحدّث صلاح حموري عن الإبادة التي قال إنها موجهّة ضد الشعب الفلسطيني برّمّته، وليس على قطاع غزة فقط، إذا أدركنا حقيقة المنظور الإستعماري الإسرائيلي من منطلق تاريخي شامل. هذا المنظور ترك صلاح يُسهب في تأكيد صحته من خلال رفضه لتجزئة الظلم التاريخي الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني في كل الأراضي المحتلة، رغم حيازة الكثير من المواطنين على الجنسية الإسرائيلية. واستبق صلاح بحسه الثوري، وبإدراكه لخلفيات المشروع الإسرائيلي الاستعماري ما حدث، وما يحدث اليوم من تقتيل للفلسطينيين في الضفة الغربية وفي رفح ومن تنكيل ومطاردة في القدس.




إعادة تشكيل الشرق الأوسط

صلاح الابن التاريخي والشرعي لفلسطين، والمنحدر من أم فرنسية وأب فلسطيني، يؤمن أن ما يحدث من إبادة في فلسطين ليس منفصلًا عن مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط الذي تحدّثت عنه كونداليزا رايس عام 2006، ويتحدّث عنه اليوم بنيامين نتنياهو بنفس الروح والمرامي. المشروع - أردف صلاح- تريده أميركا اعتمادًا على إسرائيل كمسيّرة ومنفّذّة له، وهو المشروع الذي وجد في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر مبرّرًا لتكريس أمن إسرائيل بكل السبل الممكنة، ويصبّ - بحسب صلاح- في الربيع العربي الذي أجهض عام 2011 لصالح قوى عربية قمعية ورجعية تخدم إسرائيل. في تقديره، "القوى العربية الحريصة على أمن إسرائيل على حساب حرية وكرامة الشعب الفلسطيني، مستمرة في خدمتها إسرائيل، وتعزّزت هذه الخدمة بواسطة اتفاقيات أبراهام ودخول المغرب ودول خليجية أخرى على خط التعاون والتواطؤ من خلال تطبيع العلاقات مع إسرائيل". واكتشاف الغاز قبالة غزة وحيفا ولبنان، والسيطرة على الممرّات البحرية انطلاقًا من الهند حتى البحر الأحمر، ووصولًا إلى قناة بن غوريون للتعويض عن قناة السويس (2030- 2033) والغاز الإيراني والروسي، حقيقة تصبّ في صلب المشروع الأميركي الذي يعمل على تمكين إسرائيل من التحّول إلى أول مصدّر للغاز إلى أوروبا وأميركا، بحسب صلاح.

في تقدير المناضل الحموري، تعدّ الحرب على غزة هزيمة لأميركا وإسرائيل بسبب عدم قضائهما على حماس، واستعادة الرهائن بعد 11 شهرًا، ناهيك عن تأثّر الاقتصاد الإسرائيلي، وتراجع زخم العلاقات بينها وبين البلدان العربية التي قامت بالتطبيع بسبب عزم إسرائيل على طرد فلسطينيي غزة نحو مصر بهدف التصرّف في الغاز المكتشف. وصمود الشعب الفلسطيني الأعزل ضد تحالف غربي عالمي، أعاد قضيته إلى الواجهة الدولية بعد أن تم الاعتقاد بأنها انتهت، مؤكدًا "أن إسرائيل لن تنعم بالأمن بدون حلّ عادل يعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأن اتفاقية أوسلو ليست إلا تاريخًا يعّبر عن فشل أميركي وإسرائيلي كامل". وتابع صلاح: "إسرائيل فشلت في القضاء على الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، رغم كل أنواع البطش والدعم الدولي الغربي، وسجونها ليست إلا دليلًا ناطقًا على زيف ديمقراطيتها المزعومة في المنطقة، وازدياد عدد المعتقلين في غزة وحدها، ارتفع من أكثر من 4500 إلى 6000، وشمل الاعتقال كل الفئات الاجتماعية بدون تمييز، كما تم قطع أرجل وأيدي بعض المعتقلين لنزع الأصداف نتيجة التعفّن الشديد"، وقد علت صيحات داخل القاعة من شدة الهلع مما يقوله المتحدّث. بشاعة التعذيب الذي يتعرّض له الأطفال والنساء منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم تعرفه كل فلسطين منذ عام 1948 بحسب صلاح، وإذا أضفنا معتقلي الضفة الغربية، فإن العدد يتجاوز 13000 معتقل، ومن بين المعتقلين أولئك الذين ماتوا بسبب الإهمال الطبي مثل المثقف وليد دقة.

في المرحلة التالية من مداخلته، تحدّث صلاح البالغ من العمر اليوم 39 عامًا، عن ترحيله من إسرائيل إلى فرنسا يوم الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول عام 2022، بعد أن تم سجنه في سن السادسة عشرة. وروى أمام حاضرين كانوا يعبّرون عن صدمتهم لحظة تحدّثه عن الظروف غير الإنسانية التي عاشها مكبّلًا بالسلاسل في غرفة مظلمة وضيّقة لا تتجاوز ثلاثة أمتار أن "الأطفال كانوا يعاملون بقساوة مثلهم مثل الكبار، وبعضهم حكم عليهم مدى الحياة، وبعضهم الآخر قضوا نصف حياتهم في السجون"، ولم يكن بوسعهم التحدّث مع الوالدين إلا مرة واحدة في الشهر لمدة ربع ساعة بعد معاناة تدوم شهورًا للحصول على الرخصة. والنساء تعرّضن أيضًا لاعتقال غير إنساني شهدت عليه خالدة جرار، وبلغ التعامل البشع معهن حد حرمانهن من فراش في النهار، وتمكينهن من حمام لا تتجاوز مدته دقيقة وثلاثين ثانية كما طالب الوزير بن غفير، وكثيرات منهن وضعن حملهن في السجون، وهن مكبّلات بالسلاسل لأسباب أمنية. والاعتقال الإداري الذي ورثته إسرائيل عن الانتداب البريطاني، والذي طاوله ثلاث مرات، كان محطة أخرى من مداخلة السجين الفرنكو- فلسطيني. هذا الاعتقال المجحف الذي يتجدّد كل ستة أشهر، يمكن أن يتحوّل إلى سنوات طويلة من الاعتقال الذي يجهل أسبابه السجين ومحاميه على السواء.

لا عصا للسجين الأعمى

كل أنواع التنكيل غير الإنساني بالفلسطينيين تتم، كما عبّر حموري، بتزكية من السلطة القضائية الإسرائيلية العليا، ولا يسلم منها المرضى الذين يموتون نتيجة الإهمال الطبي والتعذيب المنتظم. صلاح حموري الشاهد الحيّ على تنكيل إسرائيل بالفلسطينيين، كان من بين 1800 سجين في سجن يقع في قلب الصحراء الفاصلة بين مصر وإسرائيل (صحراء النقب) بين 2017 و2018. وتحدّث عن الإهمال المتعمّد أمام فرنسيين وعرب راحوا يتوجّعون لهول ما كانوا يسمعون من حقائق أولى من نوعها، تسبّبت في موت العديد من مرضى السرطان بعد انتظارهم موعدًا مع طبيب واحد بين عامين وأربعة أعوام. وأضاف: "فظاعة التنكيل بالفلسطينيين لم تتوقف عند الإهمال الطبي المتعمّد في أثناء الاعتقال لكافة الفئات الاجتماعية بدون تمييز، وبلغت درجة من القساوة غير البشرية، بعد تمكين طلبة في الطب من شهادات التخرج بإجراء عمليات جراحية على مرضى ميؤوس من حالاتهم المتقدمة. وتجاوزت هذه القساوة مستواها غير المتوقع، بعد إعادة سجين من الجولان المحتل إلى السجن إثر بقائه على قيد الحياة بعد مرور ستة أشهر من تاريخ وفاته المفترضة مصابًا بسرطان خطير ‘لقد أطلق سراحه من منطلق قرب موته حسب الأطباء، وأعيد إلى السجن لأنه لم يمت كما توقّع الأطباء‘" (تعالت صيحات توجّع واستياء في القاعة).

العبث بالمرضى بكل أنواع الأمراض بما فيها السرطان، وحرمان المساجين العميان من العصي لأسباب أمنية والاحتفاظ بجثث الموتى منهم حتى غاية انتهاء مدة الحكم الصادر في حقهم، كانت من الإجراءات البشعة وغير الأخلاقية التي شهد عليها صلاح حموري، السجين والمحامي الفرنسي، الذي صنع الحدث في غياب إعلام فرنسي متفرّغ لمطاردة واتهام بروح مكارثية كلّ من يرفض إبادة غزة بمعاداة السامية.

يجدر بالذكر أن صلاح حموري طُرد من إسرائيل إلى باريس بحسب محاميه في نهاية عام 2022، إثر رفض طلب رخصة إقامته. وقبل ذلك حكم عليه بسبعة أعوام سجن بتهمة المشاركة في محاولة اغتيال أحد الحاخامين الإسرائيليين. وأطلق سراح صلاح المتمسّك ببراءته عام 2011 في إطار صفقة تبادل المساجين الفلسطينيين في مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. وصلاح متهم أيضًا بربط علاقات مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تعدّ "منظمة إرهابية" من طرف إسرائيل والاتحاد الأوروبي!